إحتضنت القاهرة قبل أيّام مؤتمراً حول "مستقبل الثقافة العربيّة"، شارك فيه عشرات المفكّرين والمثقّفين والمبدعين الآتين من شتّى أنحاء العالم العربي لمناقشة مسائل مصيريّة وتبادل الرؤى والهواجس والتداول في عدد من القضايا المهمّة المطروحة على مجتمعاتهم عند أبواب قرن جديد. وعبّر المؤتمر الذي دعا إليه المجلس الأعلى للثقافة في مصر، عن "الحيرة البالغة التي تعيشها النخبة المثقفة في العالم العربي"، حسب جابر عصفور. طرح المثقّفون الذين ضمّهم مؤتمر "مستقبل الثقافة العربية" في القاهرة قبل أسبوعين، وتجاوز عددهم السبعين، مجموعة من الشروط التي لا يمكن تجاوزها اذا أرادت الأمة أن يكون لثقافتها مستقبل. وتنوعت الشروط بين السياسي والفكري والاقتصادي والاجتماعي. واعتبر جابر عصفور في الجلسة الاخيرة، أن المؤتمر الذي ترأسه وانتهى "بطرح الكثير من الأسئلة والقليل من الاجابات"، كان ناجحاً بكل معنى الكلمة. أما الأسئلة الكثيرة التي انتهى إليها فعبرت عن الحيرة البالغة التي تعيشها النخبة المثقفة في العالم العربي. ذكّر عصفور: "لم نجتمع لنجيب عن كل الاسئلة المطروحة، فهذا تصور طوباوي. إجتمعنا، ونحن ننتمي لتصورات وتيارات وأجيال واقطار عربية مختلفة، لنتدارس مستقبل الثقافة العربية من منطلقات محددة، واذا كان التدارس طرح مزيدا من الأسئلة فهذه علامة ايجابية. لقد شغلنا أنفسنا بأسئلة المستقبل، وهذا شيء جذري في ثقافتنا التي يسعى البعض لشدها إلى الوراء. والنقاشات التي دارت دليل على أن المثقفين لن يستسلموا لأجواء هذا المناخ السائد". وأعلن عصفور عن اعتزام "المجلس الأعلى للثقافة" جمع الأبحاث والمناقشات والمداخلات في مجلد كبير، يوضع أمام وزراء الثقافة العرب في مؤتمرهم المقبل ليكون مادة نقاش، ويفتح مجال تحويل الرؤى إلى واقع ملموس. وأكّد جابر عصفور باسم أقرانه: "لا بد من الديموقراطية والتعددية والحوار وتداول السلطة وبلورة الهوية العربية في مواجهتها للتحديات، والتأكيد على أن الانسان العربي الحر الطليق هو جذر هذه الهوية في آفاقها الواعية، وتأمين الشروط الديموقراطية للبحث العلمي والفكري وتأكيد حق الاجتهاد الذي يفترض الاعتراف بالحق في الخطأ، بعيداً عن المفاهيم الجاهزة ومحاكم التفتيش الجديدة باسم الدين أو السلطة السياسية أو الاجتماعية أو العسكرية". وكان سبق لعصفور أن تحدّث في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر عن شروط أربعة لضمان مستقبل الثقافة العربية: الشرط الانساني، العقلانية، شرط الحرية، وشرط العدالة. وكانت الجلسة الختامية ساخنة إذ اعتبر برهان غليون "المؤتمر دليلاً على فشل الثقافة العربية لأننا نطرح كل مرّة السؤال نفسه. وقال: "نحن نعتقد ان الادانة تحل مشاكل الثقافة العربية وهذا غير صحيح". وتحدث غليون عن ضرورة تحديد مفاهيمنا بوضع نقاط ومحاور وبلورة للدور الذي يمكن أن يقوم به المثقفون من برامج ومشاريع للعمل، "وهكذا يكون لنا تأثير". قدّم خلال المؤتمر 53 بحثاً تميزت بجرأة الطرح من جانب كما تميزت - في معظمها - بروح تشاؤمية هائلة، ربما لصدقها الشديد، ومحاولتها التعبير عن الواقع المعاش. توصّل مثلاً توفيق بكار في بحثه "أي أفق لثقافتنا؟" إلى حكم قاطع: "نحن اليوم أمة لا يشهد لها العالم بأي ابداع في أي ميدان!". كما اعتبر عبد الخالق عبد الله أن "الثقافة العربية المعاصرة تظهر كل عوارض عدم القدرة على التواصل مع التطورات الفكرية والحياتية العالمية من حولها، وأنها تؤكد مجدداً عجزها عن ادراك اللحظة التاريخية والحضارية التي تعيش". وعدم التفاعل يعني "أن الامة تستمر في دفع الثمن الذي كان دائماً ثمنا باهظاً". ولاحظ أن كل الدلائل تؤكد "الاخفاق في فهم ما اخذ يعرف بالنظام العالمي الجديد". أما حيدر ابراهيم علي فبسط مجموعة من العوائق التي تغيب شروط التقدم الثقافي، وهي ان "الوطن العربي بعد سنوات الصعود يصدم الآن بالأفق المسدود، خصوصاً بعد النكسات السياسية التي اصابت حركة التحرر العربي، والهدر الاقتصادي الذي نتج عنه ضياع فرصة التنمية الاقتصادية وتكريس التبعية بأشكالها المختلفة. وفي مجال الثقافة والفكر ضمرت مقومات النهضة مع سيادة الظلامية الرافضة للعقلانية والحداثة والمغامرة". ويحدد سبعة عوائق تواجه التقدم الثقافي. وتساءل فوزي منصور في بحثه "هل للثقافة العربية مستقبل؟": "هل للعرب وجود كأمة؟ وهل لهم ثقافة مميزة؟". وأجاب أن العرب في عصرنا الحالي "هم بمقاييس العصر ومتطلباته أمة في دور التكوين، أمة احتمالية. اذا استطاعت مواجهة التحديات التي يحاصرها بها العالم الخارجي، عندئذ تكون أمّة مكتملة... وإلا راحت تفقد بالتدريج ما تجمع لها حتّى الآن من عناصر تكوين الامم". وقدّم محسن جاسم الموسوي في بحثه قراءة مكثفة لحضور المثقفين وادوارهم وتمثيلاتهم منذ عصر النهضة والمواجهة مع الآخر المستعمر، مروراً بالثلاثينات. ثم بمشروع القوميين. واعتبر الثقافة العربية "تعيش امتحانها الأكبر"، بسبب عدوّها اللدود الموروث طبعاً، وأيضاً "لأن خصوماتها الداخلية مليئة بتعذيب الذات وتجريح الآخر ثانياً، ولان مواجهتها مع الزمن والعصر تبلغ حدها الأقصى ثالثاً". فيما لاحظ محمد السيد سعيد تآكل الطبقة الوسطى، ما جعل "ازدهار الثقافة وروح المناظرات يتم في عزلة شبه كاملة عن المجتمع"، ويشهد على ذلك "تآكل عادات القراءة وربما انهيارها"، و"التفضيل الواضح للمواد الثقافية الاردأ"، و"الضآلة الملحوظة في تأثير الابداع الثقافي على الجمهور العام". واعتبر محمد جابر الانصاري أن أحد أخطر مواطن القصور في ثقافتنا العربية الحديثة والمعاصرة، هو ان هناك "فكراً تنويرياً متقدماً على مستوى الوعي الفوقي، لكنه مازال عاجزاً عن اختراق خصوصية الواقع العربي المراد تنويره وتطويره". كما أشار الزميل وحيد عبد المجيد إلى أن التعددية الثقافية الحقيقية، ما زالت بعيدة المنال في البلاد العربية، وأن هذه التعددية تواجه "مشكلة القيود المفروضة على التعددية السياسية"، و"مشكلة النظرة إلى الآخر" و"مشكلة انسداد قنوات الحوار الثقافي". ولاحظ وحيد عبد المجيد أن "حال التعددية تراجع عما كان عليه خلال النصف الاول من القرن في عدد من البلاد العربية وخصوصاً في مصر". تحدث معظم المشاركين في المؤتمر عن أهمية الحرية والديموقراطية كشرط أساسي للتقدّم. كما وجّه البعض أصابع الاتهام ضمناً إلى "السلطة"، إذ اشار أحمد زايد في بحثه عن "الكونية" إلى آليات تفكيك الثقافات المحلية ومنها العربية والتي تعمل على استبدال صور الصراع الثقافي بصور الصراع الاقتصادي النابع من الاستغلال الاقتصادي او التهميشي الطبقي، وبصور الصراع السياسي النابع من تقييد الحريات والقهر السياسي. كما حدّد أحمد موسى ثمانية عوامل لتحقيق تنمية ثقافية عربية من بينها "تأكيد الحرية والديموقراطية للفرد وللجماعة على كل الصعد الفكرية والسياسية والاجتماعية كشرط أساسي لقيام وعي عربي مدرك لذاته وللعالم من حوله راهناً ومستقبلاً". وأكّد سمير أمين بدوره على "أهمية الديموقراطية بوصفها أحد أبعاد الثورة الثقافية، التي هي بدورها أحد أبعاد عملية التحول الاجتماعي الأشمل". ميثاق بين المثقفين وأكّد عبد الرحمن منيف الذي وزّع بحثه "الحداثة الثقافية والهوية الوطنية" في غيابه من دون أن يناقش: "من دون انسان حر ومجتمع يتمتع بالحرية لا يمكن مواجهة القوى الاجنبية، بل لا يمكن الحفاظ على المجتمع العربي الراهن الذي يعاني من أمراض كثيرة. وعلى هذا فإن ثقافة الحداثة هي تلك التي تدافع عن حق الفرد في الحرية والعيش الكريم، مثلما تكافح من اجل مجتمع يحكمه الدستور لا القرارات السلطوية". وفي محاولته او ندائه لكتابة "ميثاق للقيم بين المثقفين العرب" يشترط علي أومليل وجود المجتمع الديموقراطي، إذا كان المثقف العربي يطمح إلى الاعتراف بالثقافة، وبالتالي أن يكون للمثقف قيمة واعتبار لا ينفصلان عن دفاعه عن الديموقراطية. ذلك أن نضال المثقفين العرب عن ديموقراطية النظام والثقافة هو دفاع عن هويتهم كمثقفين، من أجل أن تكون الكتابة نفسها ممكنة". فيما أكد الزميل فيصل دراج في بحثه عن "الحداثة الفكرية - التحديث الاجتماعي"، أن لا حداثة من دون مقولات متعددة تبدأ بالدستور والمواطنة وتنتهي بالفضاء السياسي والذات الحرة القادرة على الرفض والقبول". أما ياسين النصير فعالج في ورقته "عوائق التقدم الثقافي - تهميش دور الثقافة والمثقف في بنية المجتمع العربي" بعض العوامل التي تمارسها السلطات ضد الثقافة العربية، من خلال ما تفرضه من سبل خاصة بها. فهي "تنظر أحياناً إلى المثقف العربي كملحق لمؤسستها الحاكمة أو جزءاً من بنية السلطة نفسها، لا ككيان معرفي مستقل وقادر على صوغ بعض توجهات المجتمع الحالية". وأكّد النصير أن المثقف نفسه شارك في تعميق هذا الاتجاه. أما بحث سعد الدين ابراهيم "المثقفون والسلطة والمستقبل"، فنوقش في اليوم الاول من المؤتمر، خلال الجلسة الثانية التي ترأسها عبد الله عبد الدايم، وأثار جدلا واسعاً. إنتقد جلال أمين ما يذهب إليه سعد الدين ابراهيم من أن الاستعمار وحّد العرب كما فرّقهم. وانتقده محمد عودة مدافعاً عن محمود سامي البارودي وأحمد عرابي وجمال عبد الناصر. وقال عودة إن دعوة القومية العربية دعوة دفاعية، كما أن حرب 67 لم تكن حرباً هجومية. لكن "عبد الناصر تجاوز الخطوط الحمراء، فتم تدبيرها من قبل أميركا واسرائيل". ودافع عودة عن محمد علي مشدداً على انه لم يتهور. واتهمت الدكتورة يمنى طريف الخولي سعد الدين ابراهيم بأنه "يدعو إلى تفتيت الوجود العربي في اطار مستقبل الثقافة العبرية"! كما حذر جورج طرابيشي من تصنيف سعد الدين ابراهيم الثلاثي للمثقفين بأنهم عملاء وشهداء وخبراء. وردّ ابراهيم على مهاجميه معلناً أنّه يفكر في المستقبل بجدية، "وهذا ليس معناه أنني منحاز للثقافة العبرية! حرام عليكم لماذا هذا الظلم؟". وقدّم ابراهيم البحراوي بحثا بعنوان "الصراع العربي - الاسرائيلي والتحديات الثقافية" لاحظ فيه "قبول الصفوة السياسية للسلام كخيار استراتيجي، في حين أن الصفوة الثقافية العربية على اختلاف اتجاهاتها مازالت متمسكة بمبدأ "لا صلح، لا اعتراف، لا مفاوضات". وهذه الهوّّة بين الموقفين تثير تحديات ثقافية". وأكد بعض مناقشي هذا البحث أن "سبب الفجوة هو السلطة السياسية التي غيرت مناهج التعليم بعد معاهدة السلام، ثم راحت تطالب المثقف بالحفاظ على تراث الحرب". وشهدت الندوات أبحاثاً مهمة أخرى، لا يمكن تلخيصها كلها، تناولت مستقبل الثقافة العربية والانفتاح الفكري على العالم والعولمة وتكنولوجيا الاتصال وعصر المعلومات والحداثة... واعتبر علي حرب في تصريح ل "الوسط" أن المؤتمر "جمع كوكبة من المشتغلين في الفكر والأدب والثقافة في العالم العربي، وشكل مناخاً خصباً للحوار وتبادل الآراء والاجابة عن السؤال : كيف تنمو الثقافة العربية وتتطور؟ وكيف تكون ثقافة حية خلاقة متجددة تساهم في المشهد الثقافي العالمي؟ وجاءت العروض جيدة والنقاشات خصبة وحية". فيما وصف ياسين النصير المناسبة بأنّها "حدث نوعي ومتميز أخذ الثقافة بمعناها الشامل والمطلق. كما أن أبحاث المؤتمر لم تتشابه بل انطلقت من زوايا متعددة". ولاحظ جمال باروت أن "المؤتمر يستعيد دور القاهرة كحاضرة ثقافية عربية، ويعيد الاعتبار إلى مصر كمركز من أهم المراكز الحضارية والثقافية العربية". وأشار تركي الحمد إلى أن المؤتمر "طرح سؤال القرن القادم". وقال عبد السلام المسدي إنّ المؤتمر "جاء في اللحظة التاريخية المناسبة، وفي لحظة حاسمة، وطرح قضية شائكة، أي مستقبل الثقافة العربية التي لا تنفصل عن مصيرنا السياسي، إذ يكفي أن نرى خطر الأمية الزاحفة. كما أن مستقبل الثقافة العربية لا ينفصل عن مصيرنا الاقتصادي في ظلّ العولمة. وتميز المؤتمر بحرية الطرح والتداول والنقاش، معلناً أن وعياً عربياً جديداً يجب أن ينبثق. فمصيرنا الثقافي لا يقتصر على النخبة انما يشمل الجماهير".