حلّت الذكرى الثلاثون لأيام حزيران يونيو، ذلك الشهر القاسي بأوجاع هزيمة 1967. وهي ككل هزيمة في تاريخ الأمم، أعقبتها تراجعات فادحة. لكنها استثارت ايضاً حوافز الصحو. وستتعدد دائماً طرق التعاطي مع المناسبة. قد يتخذ منها بعضهم منصة لمحاكمة الماضي. وقد يتخذ بعضهم الآخر من بدء عمليات استنزاف العدو، بعد أيام من الهزيمة، منصة للتفاؤل والتدليل على "عودة الروح" التي أكدت حضورها في تشرين الاول اكتوبر 1973. واليوم، في مناسبة حزيران يونيو الثلاثين، استبعدت "الوسط" وساطة الغير. فلم نلجأ للحديث أو الاستماع الى قيادات عسكرية عاصرت الاحداث، تفادياً لالتباسات محتملة من وطأة أثر الزمن على الذاكرة البشرية، فاتجهنا مباشرة الى أوراق التاريخ المدون في دفاتر السجلات العسكرية المصرية، وأوراق "لجنة كتابة التاريخ العسكري" التي تشكلت رسمياً برئاسة المرحوم اللواء حسن البدري. ورصدنا منها أربع وقائع تكشف عن أصعب عملية هجوم بري اسرائيلي باسم "كمين بير لحفن"، وعن أول عملية عسكرية مصرية لإقلاق العدو الاسرائيلي وبدء استنزافه، ثم عن طريقة ادخال مصر صواريخ متقدمة الى الجبهة على رغم حدة الهجوم الجوي الاسرائيلي. وأخيراً ما دار في المواجهة الرسمية العام 1994 بين الفريق محمد فوزي وزير الحربية المصرية بعد الهزيمة وحتى العام 1971 والفريق سعد الدين الشاذلي رئيس الاركان الذي شارك في الإعداد لحرب 1973، وهي المواجهة التي دارت حول وجود أو عدم وجود "خطة هجومية" قبل اقالة فوزي من منصبه في أيار مايو 1971. من المقعد الخلفي للواء مردخاي هود في مركز قيادة سلاح الطيران الاسرائيلي، كان موشيه ديان يتابع أحداث الضربة الجوية المركزة المفاجئة على اللوحة المغناطيسية الضخمة. وبمجرد أن اطمأن الى نجاح موجتها الاولى في تحطيم طائرات مصر وهي جاثمة على الارض، تحول على الفور الى تنفيذ العملية البرية. فأصدر أمره الساعة 15.9 صباحاً ببدء الهجوم البري على سيناء طبقاً لخطة "الملاءة الحمراء" التي قامت اجهزة وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية بدرسها واختبارها على الكمبيوتر. وكانت معدة منذ حرب 1956 ولم تنفذ. وفي شهر كانون الثاني يناير 1967 جرى تعديل على ضوء تقديرات ميزان القوى وتقارير قياس القدرات القتالية الفعلية. وكانت أصعب عملية قام بها الجيش الاسرائيلي في نطاق "الملاءة الحمراء" هي كمين "بير لحفن" الذي تم يوم 6 حزيران يونيو، بواسطة مجموعة "يوفيه" نسبة الى العميد ابراهام يوفيه المكونة من لواءين مدرعين، قاد احدهما العقيد اسكار شادني عبر "وادي الحريضين" للسيطرة على تقاطع طريق بير لحفن. بينما تقدم اللواء المدرع الآخر بقيادة العقيد سيلع، عبر "مدق الجميل" للوصول الى علامة الكيلو 61 على الطريق الاوسط حيث يلتقي بباقي مجموعة "يوفيه" بهدف احتجاز القوات المصرية المنسحبة من النطاق الدفاعي الأمامي قبل عبورها مضايق سيناء الغربية، واتمام تدميرها بالتعاون الوثيق مع المقاتلات القاذفة. وأدت ندرة خرائط صلاحية الارض لدى الجيش المصري، للسير في هذه المنطقة، الى مواجهة خطر حقيقي، فيما أتاحت معرفة الاسرائيليين لطبيعة تلك الاراضي، الى استغلالها لأقصى حد، فقد توافرت لهم دراسات عملية قاموا بها بين كانون الثاني يناير 1956 وآذار مارس 1957 أثناء احتلالهم سيناء حيث وضعوا وقتها خرائط مساحية دقيقة لمناطق عدة، فضلاً عن اعداد خرائط سير للمناطق المتوقع خوض المعارك فيها مستقبلاً. هذه المعلومات المؤكدة عن طبوغرافية سيناء، جعلت العميد ابراهام يوفيه يصرح بأن ضباطه كانوا أكثر معرفة بسيناء من خصمهم من واقع استجوابه عشرات من الضباط المصريين الأسرى في هذه المسألة بالذات. وبعيداً عن تفاصيل الوقائع العسكرية الفنية والعملية، ترصد السجلات العسكرية المصرية ان زرع كمين قوي عند تقاطع طرق لحفن مساء الاثنين 5 حزيران يونيو يعتبر مهمة صعبة من أبرز الأعمال التي برع العدو في انجازها. ذلك ان دراسته للأرض اتاحت له توقع رد فعل الخصم. وبالتالي وضع التدابير التي تكفل سحقه اثناء قيامه بتلك الأفعال المضادة. وقد أثمر هذا الكمين في احداث خلل مبكر في التوازن الدفاعي المصري عن سيناء الأمامية، فضلاً عن تحطيم لواء مدرع وآخر مشاة، لأن تقاطع بير لحفن يشكل عقدة للمواصلات البرية الوحيدة بين الاتجاه الأوسط والشمالي في سيناءالشرقية، بما يعني أن إحكام السيطرة على هذا التقاطع، حرم القوات المصرية من فرصة القيام بأية مناورات بين محور الاسماعيلية - ابو عجيلة - العوجة، ومحور القنطرة - العريش - رفح. بعد حرب 1967 احتلت اسرائيل أراضيَ عربية مساحتها 89359 كيلومترا مربعا، جعل وضعها الجغرافي الاستراتيجي أفضل بكثير. وأصبح الطيران الاسرائيلي أيضاً في وضع متميز، وبخاصة بالنسبة الى مصر. فقد أصبحت لاسرائيل قواعد جوية متقدمة مكن انذارها الراداري من العمل المناسب لدفاعها الجوي. إلى ذلك فتحت اسرائيل الملاحة في مضايق تيران، وسيطرت على شرم الشيخ بشكل يضمن لها حماية الملاحة الى ميناء ايلات. كما وصلت الى خطوط دفاعية طبيعية منيعة قناة السويس- نهر الاردن - مرتفعات الجولان وجبل الشيخ وصار بوسعها تطبيق المناورة على الخطوط الداخلية، وهو المذهب العسكري الذي تعتنقه بكفاءة. كما ربحت اسرائيل عتاداً حربياً كثيراً مدافع، دبابات، صواريخ وقامت بتعديلها وادخالها في خدمتها العسكرية. وسط اجواء هذه الوقائع الموجعة، وخلال الفترة المتبقية من العام 1967، جمع الجيش المصري شتات قواته. وقام بأول معركة على ضفة القناة الشرقية، هي معركة "رأس العش" الشهيرة التي دارت يوم 8 تموز يوليو 1967، حيث شنت قوة من جنود الصاعقة المصرية هجوماً مفاجئاً ضد قوة من الدبابات والمشاة الاسرائيلية، انتهى بوقف تقدم الاسرائيليين على الضفة الشرقية للقناة. وتمكن المصريون من اقامة أول رأس جسر مصري استمر قائماً حتى حرب تشرين الاول اكتوبر 1973. وتعد هذه المعركة أولى ركائز استعادة الثقة للقوات المصرية. كما يمكن اعتبارها البروفة المبكرة لحرب 6 اكتوبر. وبتقليب سريع لأوراق السجلات العسكرية، نمر على عدد كبير من العمليات العسكرية المصرية خلال شهر تموز يوليو 1967، منها: أسر عناصر من قوارب المطاط البحرية الاسرائيلية، ثم في تشرين الاول اكتوبر تدمير المدمرة الاسرائيلية "ايلات"، وفي تشرين الثاني نوفمبر قطع أسلاك بعض الصواريخ الاسرائيلية وفكها والعودة بعينات منها الى الضفة الغربية. ثم على امتداد العام 1968، وفي مواجهة ذلك، ردت اسرائيل بعمليات القصف المدفعي المكثف على مدينتي الاسماعيلية والسويس. وبدأت في تعزيز خط بارليف الذي اقامته على طول قناة السويس. وقررت القيادة السياسية والعسكرية المصرية بدء تطبيق استراتيجية عسكرية ايجابية جديدة، عُرضت في بادئ الأمر باسم "استراتيجية الدفاع الوقائي"، ثم اكتسبت مع تصاعد العمليات الهجومية المحدودة اسم "حرب الاستنزاف"، للضغط على العدو بالطريقة التي تجعله يفقد شعوره من دون السماح له باستخدام عناصر تفوقه العسكري. فقامت باستثمار مزايا التفوق المصري في حرب المواقع الثابتة عن طريق استخدام المدفعية اضافة الى توجيه ضربات مفاجئة بواسطة عمليات القوات الخاصة. فبدأ قصف مركز منظم لاستحكامات خط بارليف في آذار مارس عند غروب الشمس لضمان عدم تدخل الطائرات الاسرائيلية. وتم اطلاق حوالي عشرة آلاف قذيفة في يومين متتاليين. واستمرت عملية القصف حوالي شهرين حتى وصل عدد القذائف الى 45 ألف قذيفة، نتج عنها تدمير 60 في المئة من تحصينات خط بارليف. وحاولت اسرائيل اعادة بناء هذه التحصينات او تعزيزها، إلا أنها ووجهت في كل مرة بالمدفعية المصرية، ما جعل القيادة الاسرائيلية تسحب الجزء الاساسي من قوات خط بارليف الى مسافة نحو 15 كلم الى الخلف. وقررت القيادة الاسرائيلية ادخال الطيران في المعركة بصورة هجومية مباشرة. وبدأت بصورة منتظمة من 20 تموز يوليو 69 بهجوم على بورسعيد استهدف صواريخ سام 2 ومواقع المدافع المضادة للطائرات ومحطات الرادار. وقام الطيران المصري بالرد بغارات كثيفة على بطاريات صواريخ "هوك" في مواقع العدو. ووصلت هذه الغارات حتى العريش واشتركت في بعضها مجموعات بلغ عددها نحو أربعين طائرة سوخوي 7 وميغ 17 تحميها ميغ 21. ودارت معارك جوية كثيرة طوال أشهر تموز يوليو وآب اغسطس وايلول سبتمبر. وفي كل مرة كانت الطائرات الاسرائيلية تدمر فيها بطاريات صواريخ سام، كان المصريون يعيدون تركيب غيرها. ومع بدء وصول الدفعات الاولى من طائرات الفانتوم الخمسين التي اتفق عليها في نهاية العام 1968 خططت اسرائيل لنقل الهجوم الجوي الى العمق الاستراتيجي المصري. وفي كانون الاول ديسمبر 1969 بعد وصول طائرات الفانتوم الاولى بثلاثة أشهر أصبح هناك جو سياسي ملائم لعمليات قصف العمق المصري. وزاد اهتمام اميركا بالأمر واعطت اسرائيل اشارة الضوء الاخضر لتصعيد الحرب الجوية للضغط على القيادة المصرية وتشكيك الجماهير في قدرتها على ممارسة حرب الاستنزاف. وبدأت الغارات الاسرائيلية يوم 7 كانون الثاني يناير 1970 بواسطة طائرات الفانتوم. وانضمت طائرات سكاي هوك الى الغارات التي استهدفت معسكرات دهشور وانشاص والتل الكبير ومخازن الخانكة للذخيرة وقطع الغيار للطيران ومعسكرات وادي حوف والهايكستب ومصنع ابو زعبل ومدرسة بحر البقر. وظل القصف لمدة أربعة أشهر حتى نيسان ابريل 1970. واضطرت وحدات الجيش المصري في المؤخرة للانتشار الواسع، الأمر الذي ترتب عليه تعطيل جزئي لتدريبها. وتم نقل الكليات العسكرية الى السودان ونقل بعض أسراب القاذفات الى ليبيا والسودان. وأمكن لمصر الحصول على وسائل حديثة لهذه المواجهة المتصاعدة، عقب زيارة الرئيس جمال عبدالناصر الشهيرة لموسكو في 23 كانون الثاني يناير 1970، فوصلت بطاريات سام 3 وأجهزة رادار حديثة وطائرات ميغ 21 متطورة ومعها أطقم تشغيلها. وتمت بذلك حماية العمق المصري. وفي 13 نيسان ابريل وقعت آخر غارات العمق الاسرائيلية وكانت احداها ضد محطة رادار على مقربة ثلاثين كيلومتراً من حلوان والاخرى عند بحيرة المنزلة. وبدأت معركة عنيفة طوال شهرين بين الطيران الاسرائيلي والقوات المصرية التي كان هدفها من هذه المعارك ادخال الصواريخ المتقدمة الى الجبهة لتخفيف حدة الهجوم والضغط الجوي عليها. وبذلت محاولات وتجارب عدة مختلفة في طريقة ادخال الصواريخ استشهد خلالها مئات من العمال والجنود المصريين. وبلغ معدل الانفاق المصري اليومي مليون جنيه لمدة أربعين يوماً كاملة من أجل انهاء هذه المهمة الصعبة التي كانت تتم تحت القصف النهاري والليلي شبه المستمر. وأخيراً وضعت خطة من أجل تركيز بطاريات الصواريخ في القطاع الأوسط من الجبهة بعرض 70 كيلومترا قريباً، على أن تدخل فجأة اثناء الليل وتنتشر بصورة مكشوفة من دون سواتر مبنية، بشكل يجعل كل بطارية في حماية الاخرى على الجنب والمؤخرة. وتحيط بكل منها عشرات من المدافع المضادة للطائرات من مختلف الانواع وحاملي الصواريخ "ستريلا" التي تطلق من الكتف ضد الطائرات المحلقة على ارتفاعات منخفضة في وقت واحد. وكانت شبكة الصواريخ المصرية تتقدم كل ليلة حتى تم لها السيطرة على أجواء ضفة القناة. وفي صباح يوم 30 حزيران يونيو 1970 بدأت المعركة وفقا لهذه الخطة حتى 8 تموز يوليو واسقطت مصر فيها خمس طائرات فانتوم في هذه المعركة فتحطمت بذلك اسطورة الفانتوم التي لا تسقط. وفي 31/7/70 تم وقف اطلاق النار بعد قبول القيادة المصرية لمبادرة روجرز. وانتهت بذلك مرحلة الاستنزاف المواجهة بين فوزي والشاذلي تم اقتحام خط بارليف في تشرين الاول اكتوبر 1973 وفق ما عرف باسم "عملية خط بارليف المعدلة" التي وضعها الفريق سعد الدين الشاذلي رئيس الاركان في ذلك الوقت. وفي حين ذكر الفريق محمد فوزي وزير الحربية السابق أنه هو واضع خطة عمليات اكتوبر، وأنه كان اودعها خزانة القيادة، وذلك في شهادته التي أدلى بها أمام اللواء حسن البدري رئيس لجنة كتابة التاريخ العسكري في حضور اللواء عبد المنعم خليل. إلا أن الفريق الشاذلي ذكر أنه عند تسلمه رئاسة الاركان لم تكن هناك خطة في الخزانة. فأجرت اللجنة مواجهة بين فوزي والشاذلي في نيسان ابريل عام 1994 بمنزل الفريق فوزي وحضور اللواء البدري واللواء خليل. وتم تسجيل الآتي: الفريق فوزي: كانت هناك خطة هجومية قبل تركي وزارة الحربية. الفريق الشاذلي: عندما تسلمت أنا وفتحت الخزانة لم أجد شيئاً. سلمتها لمين؟ فوزي: لم أسلمها لأحد. لأني كنت خايف من درجة سريتها ان تنتقل لغيري. الشاذلي: أفهم انها كانت مجرد أفكار وخطوط في عقلك، لكن لم تصل الى مسمى الخطة. أو ممكن نقول عليها مشروع تدريب استراتيجي. لأني أنا أول من وضع خطة. وكان ذلك في شهر آب اغسطس عام 1971. فقد تم تعييني في أيار مايو. ومكثت أدرس الموقف لمدة شهرين. وقبل حرب اكتوبر قمت باجراء تعديلات شكلية. لأنه كان هناك اختلاف في القوات بين مصر واسرائيل. وللمرة الاولى نكون متعادلين في الحشد في العام 73، لكنهم تفوقوا علينا في القوات الجوية من حيث عدد الطائرات. واضاف الشاذلي لفوزي: "أنا لا أنكر أنك أول من قام بانشاء الهناجر الخرسانية المسلحة لحفظ الطائرات ومبيتها. وكان ذلك أيام حرب الاستنزاف وبعد حرب 67 مباشرة. وكانت الطائرات قبل ذلك جاثمة على الترمق رصيف الرسو بالمطار في صفوف متراصة".