أخيراً، حسم حزب العمل الاسرائيلي موقفه من المسألتين الحيويتين اللتين شكلتا، منذ خروجه من الحكم العام الماضي، محوراً للنقاش والتجاذب بين تياراته، واختار النهج الذي تأمل قيادات الحزب وقواعده في اعادته الى السلطة في الانتخابات العامة المقررة لعام 2000، أو قبل ذلك الموعد في حال مواجهة بنيامين نتانياهو وائتلافه اليميني الحاكم متاعب جديدة تؤدي الى سقوطه. ففي خطوتين "ذات دلالات تاريخية"، كرّس حزب العمل في مؤتمره العام الذي حضره 3500 مندوب التوجه نحو انتخاب الجنرال إيهود باراك زعيما للحزب خلفا لرئيس الحكومة السابق شمعون بيريز، كما وافق على تعديل برنامجه السياسي بحيث بات ينص على الاعتراف بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وعدم استبعاد اقامة دولة فلسطينية مستقلة "محدودة السيادة". واللافت ان هذه الخطوة تمت بموافقة باراك نفسه بعدما كان يعارض مبدأ ادخال هذا البند رسمياً في البرنامج السياسي للحزب بحجة أنه "لا حاجة لاسرائيل بأن تقرر مصير الفلسطينيين بالنيابة عنهم". والخلاصة التي خرجت بها الأوساط الاسرائيلية من المؤتمر "ان حزب العمل اختار التطلع الى المستقبل عوضاً عن الحنين الى الماضي". وقال معلق سياسي اسرائيلي بارز تعقيباً على ذلك: "الواضح ان المشاركين في المؤتمر اعتبروا ان الوقت حان كي يتوقف حزب العمل عن التهرّب من الحقيقة ومواجهة الواقع من خلال اتخاذ قرارات قد تبدو صعبة وقاسية من الزاوية التاريخية والعاطفية، لكنها ضرورية وملحة من الوجهة العملية، فهذه القرارات كانت مطلوبة لتوضيح سياسات الحزب ومواقفه، ولتحديد هوية الزعامة التي ستتولى قيادته مستقبلاً، لا سيما انها ستكون مرشحة لتولي السلطة اذا ما تمكنت من الفوز في أي انتخابات مقبلة". باراك المنتصر والواقع أن النتائج التي أسفر عنها المؤتمر اعتبرت بمثابة "اجتياز ناجح لامتحان دقيق". ولم يتردد معلقون في القول ان الحزب "كان مهدداً فعلاً بمواجهة خطر الانقسام والتشرذم" لو فشل المؤتمر في اتخاذ القرارات. فمسألة الخلافة كانت "نقطة شائكة جداً" لأن اختيار زعيم الحزب يطال ايضاً "هوية الحزب وتراثه التاريخي وصورته المستقبلية الشاملة"، على حد تعبير أحد أعضائه البارزين. ومثل ذلك كان موقف العمل من القضية الفلسطينية، والأساس الايديولوجي والسياسي لتعامله معها في حال عودته الى السلطة. وتدل الطريقة التي تبنّى المؤتمر فيها قراري الخلافة والدولة الفلسطينية على رغبة الأعضاء في "وضع حد للجدل وحسم الأمور بوضوح لا يفسح مجالاً أمام أي بلبلة أو تأويل". فعلى رغم المحاولات التي بذلها بيريز للاحتفاظ بموقع قيادي أو مؤثر يتيح له المشاركة في صنع القرار داخل الحزب، خصوصاً في ما يتعلق بمفاوضات السلام، خلال المرحلة التي ستلي الانتخابات على الزعامة المقررة في 3 حزيران يونيو المقبل، وقف الأعضاء بحزم الى جانب باراك في معارضته الشديدة لذلك، خشية ان يؤدي هذا الأمر الى "قيام حزب برأسين" وإضعاف موقع القيادة الجديدة وقدرتها على التحرك واتخاذ القرارات. وكان بيريز ومؤيدوه يأملون في الحصول على موافقة المؤتمر على ادراج بند على جدول أعماله يدعو الى اعلان بيريز "رئيساً فخرياً بصلاحيات محددة" في خطوة اعتبرت استباقاً لانتخابات الزعامة التي سيتم فيها اختيار "القائد الفعلي" الجديد الذي بات في حكم الأكيد انه سيكون باراك نفسه. لكن الأخير رفض ذلك، وتعهّد في المقابل بإعادة بحث هذا الموضوع في أيلول سبتمبر المقبل، أي بعدما يكون ضمن فوزه بزعامة الحزب وتمكّن من تكريس مواقعه وتثبيت أنصاره في هيئاته القيادية. وبدوره، رفض بيريز هذه الفكرة بشدة، ما دفع بوسطاء بين التيارين الى التقدم باقتراحات لصيغ حل وسط من أبرزها صيغة قدمها الجنرال إفرايم سنيه، الوزير في الحكومة العمالية السابقة والمرشح أيضاً في انتخابات الزعامة المقبلة، تقضي بمنح بيريز "صفات فخرية كاملة" فوراً، ومنح باراك "صفات قيادية كاملة" بعد فوزه المرجح في الانتخابات. إلا أن رئيس الحكومة السابق رفض هذا الاقتراح، وأصر على موقفه اما بتعيينه فوراً أو بطيّ الموضوع برمّته على اعتبار انه لن يكون معنياً بمثل هذا التعيين في ما بعد. وفيما كان واضحاً ان بيريز يشعر بصعوبة بالغة في التعامل مع الوضع الجديد داخل الحزب منذ خسارته الانتخابات الأخيرة، حيث أخذت موازين القوى والنفوذ تميل بشدة لمصلحة جيل القيادات الشابة الذي يأمل في السيطرة على مقدرات القيادة والقرار خلال المرحلة المقبلة، فإن رغبة الأعضاء في "إرضاء" الزعيم الحالي قبل تنحيته وإضفاء صفة فخرية عليه تقديراً لدوره، باعتباره آخر رموز الجيل التاريخي من القيادات المؤسسة للحزب، كانت بدورها جلية. لكن اصرار بيريز على الاحتفاظ بشكل ما من الصلاحيات القيادية الفعلية وضع هؤلاء أمام حتمية "الاختيار بين الماضي والمستقبل"، اذ دفع تمسك كل من المعسكرين المتنافسين بموقفه رئيس لجنة المؤتمر دافيد ليبائي الى طرح الاقتراحين على التصويت. ولم تكن المفاجأة في نتيجة الاقتراع التي جاءت لمصلحة باراك وأنصاره، بل في حجم الفارق الذي ظهر بين هؤلاء وبين بيريز ومؤيديه، حيث صوّت 62 في المئة من الأعضاء الى جانب اقتراح باراك في مقابل 37 في المئة لمصلحة بيريز. وكان أكيداً أن هذه النتيجة لم تكن ممكنة لو لم يقرر كثيرون من مؤيدي رئيس الحكومة السابق وغيره من المرشحين المنافسين لباراك التصويت الى جانب هذا الأخير في ما بدا أنه حسم مسبق لمعركة الزعامة. تقرير المصير والدولة الفلسطينية ومثلما اعتبر باراك وأنصاره أن الأمور حسمت لمصلحتهم في معركة الخلافة، شدد بيريز ومؤيدوه، ومعهم أنصار المرشحين الآخرين للزعامة من "التيار المعتدل" في الحزب، على أن نتيجة التصويت على التعديل المتعلق بحق تقرير المصير للفلسطينيين والدولة المستقلة هي انتصار لخطهم السياسي والعقائدي، خصوصاً انها توجت باعلان باراك تأييده لها. فالتصويت على هذا البند تم بغالبية ساحقة دفعت الوزير السابق والمرشح على الزعامة يوسي بيلين، الذي يعتبر أحد أبرز دعاة الإقرار بحق الفلسطينيين في تقرير المصير واقامة دولتهم داخل حزب العمل، الى وصف ما حدث بالقول: "انه انتصار كبير وحقيقي لي ولزملائي الذين أعلنوا منذ زمن طويل عن تأييدهم لفكرة اقامة دولة فلسطينية". لكن بيلين لم يوفر الفرصة التي أتيحت له للغمز من قناة باراك اذ قال: "انني سعيد بأن باراك تخلى عن العوائق التي كان يضعها في وجه هذا التعديل. لكنني لا استطيع أن اعتبر من رفض التصويت الى جانب اتفاق أوسلو - 2، ومن حمل على الحكومة لعدم اتخاذها خطوات لبناء المزيد من المساكن في هار هوما، شخصاً ينتمي الى العالم الايديولوجي الذي انتمي اليه". وكان باراك قد أعرب عن معارضته لصيغة التعديل المقترح عندما عرضتها عليه الشهر الماضي اللجنة السياسية المكلفة اعداد جدول أعمال المؤتمر وصياغة بياناته، برئاسة شلومو بن - عامي أحد المرشحين أيضاً في معركة الخلافة. لكن المساعي التي بذلها مع رئيس الأركان السابق اثنان من أبرز مؤيديه للزعامة، وهما عضوا الكنيست عوزي برعام ويائيل دايان، أقنعته في نهاية الأمر باسقاط تحفظاته وتأييد التعديل الذي سارع بيريز الى وصفه ب "التاريخي". وينص التعديل على "ان حزب العمل يعترف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره... وهو لا يستبعد إمكان اقامة دولة فلسطينية". ويحدد شروط الموافقة على اقامة هذه الدولة بأن تكون "محدودة السيادة، ومنزوعة السلاح، ولا تدخل في تحالفات عسكرية مع دول أخرى، وأن تكون اجواؤها مفتوحة أمام سلاح الجو الاسرائيلي". ومن ناحيته، اعتبر بيريز ان هذا القرار "اعتراف من حزب العمل بدولة فلسطينية ضمن قيود أمنية ضرورية. فلا أحد يستطيع أن يغيّر من حقيقة ان الفلسطينيين سائرون نحو الاستقلال". وربما كانت انتقادات بيلين لغريمه باراك من باب الاستمرار في المنافسة الانتخابية وتسجيل النقاط. كما ان الهدف منها قد يكون السعي الى الاحتفاظ بالنفوذ والمواقع داخل الحزب في مرحلة ما بعد الانتخابات التي لا تزال قائمة المتنافسين عليها تضم رسمياً كلاً من باراك وبيلين وسنيه وبن - عامي والوزير السابق حاييم رامون. لكن الواضح ان نتائج المؤتمر كانت كفيلة بتحويل تلك الانتخابات الى مجرد مناسبة رمزية لن ينتج عنها أكثر من تكريس زعامة باراك على الحزب، وتثبيت نفوذ الذين نافسوه على الزعامة في هيكلياته القيادية، على أمل تحويل هذا النفوذ في ما بعد الى مواقع قيادية في أي حكومة يشكلها مستقبلاً. وبغض النظر عن الشخصيات والمناصب، فالثابت ان حزب العمل نجح في مؤتمره الأخير في اسدال الستار على حقبة تاريخية تعود في جذورها الى نشأة الدولة العبرية نفسها. كما اجتاز مرحلة انتقالية بالغة الصعوبة بدأت عقب اغتيال اسحق رابين، وتفاقمت مع خسارة شمعون بيريز الانتخابات العام الماضي. وكان لا بد لهذا الحزب ان يتخلص فعلاً من اثار هذه المرحلة الانتقالية وترسباتها للتفرغ لمهمة خوض غمار المعارضة الحقيقية لنتانياهو، والاستعداد الجدي لأي انتخابات مقبلة، الأمر الذي لم يتح له القيام به خلال الأشهر الماضية التي أعقبت هزيمته الانتخابية. وما فعله العماليون الآن يندرج تحديداً تحت هذا الهدف. فاقفال ملف الخلافة، واختيار زعيم الحزب الجديد تمهيداً لانتخابه رسمياً الاسبوع المقبل، وتكريس مواقع الجيل القيادي الشاب الذي سيحل مكان زعامات الحزب التاريخية القديمة، وحسم الموقف السياسي والايديولوجي من مسألة العلاقة مع الفلسطينيين والاعتراف بحقهم في تقرير المصير واقامة دولتهم المستقلة، والنجاح في إقرار كل هذه الخطوات الحيوية بغالبية كبيرة جمعت بين تيارات الحزب وأجنحته التقليدية المتنافسة، خصوصاً التي تنضوي عادة تحت ما يسمى ب "تيار الصقور" ونظيره المعروف ب "تيار المعتدلين" على يمين الحزب ويساره، مؤشرات جلية على دخوله مرحلة جديدة تستهدف في الدرجة الأولى تقديم بديل واضح ومتكامل للرأي العام الاسرائيلي من نتانياهو وسياساته. ولا يخفي كثيرون من أركان العمل سعيهم الى الحؤول دون استمرار رئيس الوزراء الحالي في منصبه حتى نهاية مدته الدستورية العام 2000، ويركزون على "الخطورة المتمثلة في بقاء بيبي على رأس السلطة" على حد تعبير عضو عمالي بارز في الكنيست. ومن هذا المنطلق، فإن هدف المعارضة سيكون من الآن فصاعداً "ازاحة نتانياهو واسقاط حكومته التي باتت سياساتها والأخطاء المتلاحقة التي ترتكبها تشكل خطراً حقيقياً على مصالح اسرائيل وأمنها. ولا يمكن أن ننتظر حتى العام 2000 لتحقيق ذلك، بل علينا أن نعمل من أجل الوصول اليه في أسرع وقت ممكن. وهذا ما بدأنا به فعلاً"