لا تزال اوساط حزب العمل الاسرائيلي محتارة في تفسير اسباب الهزيمة الانتخابية التي مني بها زعيمه شمعون بيريز لمصلحة غريمه بنيامين نتانياهو، بل ان العديد من اركان الحزب وزعماء الاحزاب والقوى اليسارية والعلمانية والعربية الاسرائيلية المتحالفة معه يقرّون صراحة بأنهم لم يتمكّنوا بعد من استيعاب الصدمة. فما بدا عند انطلاق الحملة الانتخابية انه سيكون فوزاً مضموناً لبيريز، الذي بلغت نسبة تقدمه في استطلاعات الرأي على منافسه اليميني آنذاك ما لا يقل عن 25 في المئة، ما لبث ان تحوّل بسرعة الى سباق محموم وتنافس شديد إثر تدهور شعبية الزعيم العمالي وحكومته تحت وطأة سلسلة اعمال التفجير الانتحارية التي نفذّذها ناشطو حركة حماس في المدن الاسرائيلية. وتلا ذلك اندلاع عملية "عناقيد الغضب" ضد حزب الله في لبنان، وحاول بيريز الظهور من خلالها بمظهر الرجل القوي القادر على حماية امن اسرائيل والمستعد لاتخاذ القرارات الصعبة تحقيقاً لهذا الهدف. واستعاد رئيس الحكومة بعض ما خسره من تأييد، لكنّ استطلاعات الرأي ظلّت تشير منذ ذلك الحين الى انّ الفارق بين الزعيمين المتنافسين لا يزيد عن 3 - 4 في المئة. لماذا خسر بيريز؟ لكن الفارق الضئيل أقل من 30 الف صوت بين أصوات نتانياهو وبيريز جعل مرارة الهزيمة بالنسبة الى العماليين وحلفائهم اكثر حدة. أدى الى تعميق التساؤلات في صفوفهم بحثاً عن اسباب الخسارة وخلفياتها. وفور الاعلان عن النتائج بدأت عملية مراجعة للأخطاء والحسابات لم تكن خالية من محاولات متبادلة بين اجنحة الحزب والقوى والتيارات المتحالفة معه لتوجيه اللوم وتحميل التبعات. وهي محاولات لا تخلو بدورها من الاغراض والحسابات السياسية المتعلقة باختيار الزعامة العمالية الجديدة التي بدأ التنافس على خلافة بيريز فيها منذ الآن. ولا تنجو شخصية بيريز نفسها من اللوم في نظر الكثير من العماليين وأنصارهم الذين يعيدون الى الذاكرة أنّ الرجل لم يسبق ان فاز بأي عملية انتخابية في تاريخ حياته السياسية، وانه فشل اربع مرات في تأمين الفوز لحزب العمال برئاسة الحكومة خلال زعامته، بل احتاج الامر اعادة اسحق رابين الى تلك الزعامة قبل النجاح في ازاحة تكتل ليكود وزعيمه السابق اسحق شامير عن السلطة في انتخابات العام 1992. وقلّما يختلف الاسرائيليون على اعتبار بيريز واحداً من رجالاتهم التاريخيين، وأحد ابرز الزعماء السياسيين الذين تعاقبوا على تولّي مسؤوليات الادارة والحكم في الدولة العبرية منذ نشأتها. كما انهم لا ينكرون "الانجازات" التي حقّقها في المجالات السياسية والدفاعية والأمنية على مدى اكثر من نصف قرن. فهو كان المسؤول الأول عن برنامج بناء القدرات النووية الاسرائيلية، وله فضل اساسي في تحديث الترسانة العسكرية وتعزيزها خلال الخمسينات والستينات والسبعينات، الى جانب دوره المتميز آنذاك وخلال السنوات الماضية تحديدا في تحقيق ما يصفه الاسرائيليون بپ"رفع الحصار الاقليمي والدولي عن اسرائيل وتثبيت موقعها العالمي وتوسيع اطار علاقاتها وتحالفاتها بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخها". لكنّ معظمهم يتفق في المقابل على اعتباره "زعيماً افتقر تاريخياً الى الشعبية، وأثبت مراراً انه قادر على اثارة الاحترام والتقدير، مع العجز عن دمج ذلك بمحبّة الناخبين العاديين وثقتهم". ربما كانت هذه النواقص في شخصية بيريز من العوامل المهمة التي ساهمت في تقويض فرص حزب العمل وتبديدها، لكنها حتماً لم تكن الوحيدة. وانطلاقاً من هنا تبدأ التقويمات والمراجعات باتخاذ مناخٍ تختلف باختلاف الجهة التي اصدرتها. فأنصار وزير الخارجية ايهود باراك، رئيس الأركان السابق وأحد ابرز المرشحين لخلافة بيريز في الزعامة العمالية، يوجهون اللائمة بشدة الى حاييم رامون وزير الداخلية الذي تولى مسؤولية الاشراف على حملة العمال الانتخابية وادارتها، ويعتبر اهم منافسي باراك على الخلافة حالياً، بالاضافة الى انه قد يكون مفضلاً من قبل بيريز لتولي منصب الزعامة من بعده. ولا شك في انّ رامون ومؤيديه يعدّون اكثر قرباً الى بيريز على الصعيد الحزبي، بينما يفتخر باراك ومن معه في التيار الذي يحب ان يطلق على نفسه احياناً اسم "تيار الجنرالات" بأنهم "الورثة الحقيقيون لرابين" بما يمثلون من تقليد تعود جذوره الى المؤسسة العسكرية. هؤلاء "الصقور" يحمّلون رامون وبيريز من ورائه طبعاً مسؤولية ادارة ما يصفونه بپ"حملة انتخابية فاترة" لم يتصدّ فيها حزب العمل بفاعلية لادعاءات ليكود في شأن الامن، مفسحاً المجال بالتالي امام اليمين لتوجيه الاتهامات الى الحكومة العمالية بپ"التسرّع في العملية السلمية، وتقديم تنازلات مجانية للعرب، وعدم الاهتمام الكافي بالدفاع عن اسرائيل والمحافظة على قوتها ومصالحها الامنية الحيوية"، وهي الشعارات الأساسية التي ميزت الحملة الانتخابية الليكودية. والجانب الأهم الذي يركز عليه هذا التيار في انتقاداته الصريحة لرامون، والمبطّنة لبيريز، يتمثل في عدم استخدام الحملة العمالية اغتيال رابين كما يجب ضد اليمين. وهذا الاتهام صحيح في الواقع، فالحملة الانتخابية العمالية كانت خالية فعلاً من الاشارات الى اغتيال رئيس الحكومة السابق، الأمر الذي أثار تساؤلات عن المغزى الكامن وراء ذلك. ويلمح "صقور العمل وجنرالاته" الى ان السبب كان رغبة رامون وبيريز وأنصارهما في "ان يأتي انتصار العمل لمصلحة بيريز شخصياً، وليس بالوكالة لرابين وإرثه". ويذهبون الى القول انه لو تصدى العمل فعلاً لادعاءات اليمين، وأبرز شخصيات تتسّم بتركيزها على جوانب القوة والأمن، مثل باراك والجنرال إفرايم سنيه وزير الصحة وأحد ابرز مفكري الحزب في الشؤون الدفاعية والاستراتيجية، وغيرهما من رموز الارث العسكري التقليدي لكانت الامور جاءت مختلفة الى حد كبير. ويتابعون في هذا المجال: كان يكفي ان يضع العمل امام الاسرائيليين ليلا ونهارا صورة رابين المدافع عن حدود اسرائيل وأمنها، في مقابل صورة قاتله ايغال امير وابتسامته الساخرة، لتذكيرهم بمخاطر اليمين المتشدد على امن الدولة والجريمة التي ارتكبها في حقهم باغتياله. لكنّ ذلك لم يحدث، ونال نتانياهو جائزة تقاعسنا وشعورنا بالثقة الزائدة". لكنّ رامون وغيره من اركان تيار الحمائم او سياسيي حزب العمل وتكنوقراطييه، مثل عوزي برعام ويوسي بيلين، ومعهم الحلفاء اليساريون مثل يوسي ساريد زعيم حزب ميريتس، يردّون على هذه الانتقادات بتوجيه الاتهام الى باراك بالذات، الذي وصفه ساريد علانية بپ"الاحمق" واعتبره مسؤولا مباشرا عن خسارة حزب العمل آلاف الاصوات العربية من خلال مسؤوليته عن عمليتي "عناقيد الغضب" و"مراجعة الحساب" في جنوبلبنان، وعن اغلاق أراضي السلطة الفلسطينية على اثر تفجيرات حماس الانتحارية. وللأصوات العربية مع حزب العمل وبيريز قصة طويلة ومهمة، لأنه كان معروفاً خلال المراحل النهائية من الحملة الانتخابية أن نتانياهو سيتفوق على الزعيم العمالي في أوساط الناخبين اليهود بنسبة تتراوح بين 3 و6 في المئة بلغت هذه النسبة في النتيجة 10 في المئة، وبالتالي، فإن أمل بيريز في الفوز كان يتركز على اكتساب ما أمكن من أصوات الناخبين العرب الذين يبلغ عددهم نحو 450 ألفاً 12 في المئة. وكان ذلك يقضي أولاً بدفع العرب إلى المشاركة القصوى في الاقتراع، ومن ثم صب أصواتهم لمصلحة بيريز. وفي الواقع بلغت نسبة المشاركة العربية حدّها الأعلى، إذ زادت على 80 في المئة بالمقارنة مع معدلاتها المعتادة التي كانت تتراوح بين 65 و70 في المئة. وهذا ما رفع كثيراً من معنويات حزب العمل خلال المراحل الأولى من عملية فرز الأصوات، إذ كان مقدراً أن نسبة 90 في المئة أو أكثر من هؤلاء الناخبين العرب ستكون إلى جانب بيريز. لكنه سرعان ما تبين أن حوالي 20 ألف ورقة بيضاء من أولئك الناخبين كانت التعبير الأفضل عن رفضهم التصويت لبيريز، لعدم رضاهم عن سياساته حيال الفلسطينيين وجنوبلبنان، خصوصاً عقب مجزرة قانا وفي ضوء استمرار اغلاق الأراضي الفلسطينية وما أسفر عنه من صعوبات اقتصادية وانسانية. ستستمر عملية المراجعة والمحاسبة في حزب العمل طويلاً. والأرجح أنها ستتصاعد مع اقتراب موعد انتخابات زعامة الحزب التي يفترض أن تجري في وقت لاحق من هذا العام أو مطلع العام المقبل. وفي تلك الانتخابات سيسدل الستار على زعامة بيريز وحياته السياسية الطويلة ليتم اختيار القيادة الجديدة التي يفترض أن تعيد بناء الحزب ومؤسساته السياسية والنقابية، وأن تعوض خسارته من التأييد الشعبي، سواء في صفوف اليهود أو العرب، وأن تعيد بناء تحالفاته مع القوى اليسارية والعلمانية والليبرالية التي أفزعها فوز ليكود وتحالفه اليمين - الديني المتشدد، إذ من دون ذلك كله لا يمكن تصور عودة العمال وحلفائهم إلى السلطة. والواضح حتى الآن، على الأقل، ان التنافس على القيادة الجديدة سينحصر بين باراك وتياره، بما يمثل من "إرث رابين" من جهة، ورامون وأنصاره، ممن يعتبرون "تلاميذ بيريز" من الجهة الأخرى. لكن المفاجآت ستظل واردة، بما فيها انشقاق حزب العمل على نفسه، وتشرذم القوى المحيطة به تقليدياً، بل ربما دخول بعض أجنحته في تحالفات نيابية وتكتيكية وحتى وزارية، مع ليكود في إطار ما يتردد حالياً عن "حكومة ائتلاف وطني"، تكون قادرة على الجمع بين معتدلي اليمين وصقور اليسار، تمهيداً لانشاء تيار وسطي جديد قد لا يكون بعيداً عن طموحات نتانياهو وآماله القيادية. نتانياهو والسلام مهما كانت أسباب خسارة بيريز وحزب العمل، فإن الحقيقة تظل ان هذه الانتخابات كانت أولاً وأخيراً استفتاء اختار من خلاله الإسرائيليون مستقبلهم من خلال اختيارهم تصوراً محدداً لعملية السلام. والنقطة الأولى التي لا بد من التركيز عليها أنه من المغالاة في التبسيط اعتبار ان نتانياهو فاز لأنه "ضد السلام"، وبالتالي لأن الإسرائيليين اقترعوا ضد السلام. والواقع يدل على أن أسهم نتانياهو اخذت في الارتفاع عندما بدل لهجته التي بدأ بها الحملة الانتخابية معارضة العملية السلمية والتهديد بالتراجع عن اتفاقات أوسلو... الخ، وتحول إلى اعتماد شعارات أكثر براغماتية كان على رأسها شعار "السلام مع الأمن"، في محاولة لاقناع الاسرائيليين وهو ما نجح فيه عملياً بأن السلام تحت قيادة بيريز سيكون "من دون أمن". ويجمع المحللون الإسرائيليون على أن سر فوز نتانياهو كان تحديداً تمكنه من طرح نفسه على الناخبين "زعيماً جديداً قادراً على تحقيق السلام مع العرب على أسس واقعية وليس على اساس أحلام بيريز الرومانسية"، على حد تعبير دافيد بار - ايلان رئيس تحرير صحيفة "جيروزاليم بوست" المعروف بصلاته الوثيقة برئيس الحكومة الجديد. ويضيف "لو خاض بيبي الانتخابات تحت شعار معارضة السلام والتراجع عن الاتفاقات الموقعة لكان فشل فشلاً ذريعاً، ولكان بيريز حقق أضخم فوز انتخابي في حياته". وكان ملاحظاً ان نتانياهو لم يأت، مرة واحدة، خلال الحملة الانتخابية على تعابير طالما ميزت في السابق لغة ليكود السياسية أيام زعيميه السابقين مناحيم بيغن واسحق شامير، مثل "إسرائيل الكبرى" و"حق الشعب اليهودي الأبدي في يهودا والسامرة" الضفة الغربية، وغيرها من شعارات ايديولوجية، ليركز في المقابل على تعابير سياسية أكثر واقعية، وإن كانت لا تقل خطورة من منظور العملية السلمية. فهو خاض الانتخابات على أساس الالتزامات الآتية: 1- الالتزام بما تم التوصل إليه على المسار الفلسطيني حتى الآن، أي اتفاقات "أوسلو - 1" و"اوسلو - 2"، وتطبيق الحكم الذاتي الفلسطيني مع رفض فكرة اقامة دولة فلسطينية مستقلة تحت أي ظرف من الظروف. 2- احتفاظ القوات الإسرائيلية بمسؤولية الدفاع عن أمن إسرائيل ضد التهديدات التي تواجهه داخل الأراضي الفلسطينية أو انطلاقاً منها، واحتفاظها بالتالي بحق الدخول إلى تلك الأراضي والعمل فيها "إذا تقاعست السلطة الفلسطينية عن تنفيذ التزاماتها الأمنية تجاه إسرائيل حسب الاتفاقات الموقعة معها". 3- رفض فكرة البحث بمستقبل القدس "جملة وتفصيلاً"، وبقاء المدينة "عاصمة موحدة إلى الأبد لدولة إسرائيل وللشعب اليهودي". 4- تحويل المسار التفاوضي مع سورية من مبدأ "الأرض مقابل السلام" الذي قام عليه أصلاً، إلى مبدأ "السلام مقابل السلام" أي رفض فكرة الانسحاب من مرتفعات الجولان السورية المحتلة لقاء التوصل إلى معاهدة سلام مع دمشق. لكن اللافت هنا أيضاً امتناع نتانياهو خلال المراحل الأخيرة من الحملة الانتخابية عن الاشارة إلى قانون الكنيست الإسرائيلي للعام 1981 الذي نص على "اعتبار الجولان أرضاً إسرائيلية"، واكتفاؤه بالاشارة إلى "رفض الانسحاب لدواع أمنية، ونظراً إلى أن القيادة السورية ليست راغبة أو جاهزة لتوقيع سلام حقيقي مع إسرائيل". بل ان نتانياهو لم يتردد في التلميح أكثر من مرة إلى أنه ربما كان أكثر قدرة من بيريز على التعامل مع دمشق من منطلق "يلائم همومها الأمنية ومصالحها الاقليمية"، عوضاً عن التركيز على أهداف شاملة مثل التطبيع والتعاون في إطار سلام شامل قد لا تكون راغبة فيه أو مستعدة لهضمه. بين الشعارات والتطبيق لكن المشكلة ستكون في سبل وضع هذه التوجهات البراغماتية موضع التطبيق، هذا إذا كان ناتنياهو على استعداد حقيقي لاعتمادها أساساً لسياساته في الحكم، عوضاً عن الشعارات الآيديولوجية الأكثر تشدداً وتطرفاً التي ستكون مدخلاً لنسف عملية السلام برمتها. ويثار في هذا المجال عدد من التساؤلات الملحة التي ستشكل الاجابة عن كل منها "اختباراً ميدانياً" لما سيكون عليه الوضع في ظل القيادة الاسرائيلية الجديدة: كيف سيتعامل ناتنياهو مثلاً مع منظمة التحرير الفلسطينية والرئيس ياسر عرفات؟ وكيف سيوفق بين التزامه المعلن اتفاقات اوسلو من جهة، وما تنص عليه هذه الاتفاقات من خطوات، أهمها الانسحاب من مدينة الخليل؟ وهل سينفذ تهديداته في شأن اقفال المؤسسات الفلسطينية في القدس العربية، وفي مقدمها "بيت الشرق"؟ وكيف ستتعامل الحكومة الاسرائيلية الجديدة مع مفاوضات تحديد الوضع النهائي للأراضي الفلسطينية؟ ومع مسار المفاوضات مع سورية عند استئنافه؟ ومتى سيكون مثل ذلك الاستئناف ممكناً؟ وعلى أي أساس؟ وماذا سيكون الوضع في جنوبلبنان؟ وأخيراً: كيف ستنعكس كل هذه التحولات والتبدلات على علاقات اسرائيل بدول عربية التي نجح بيريز وحكومته العمالية وقبله رابين في اقامة علاقات انفتاحية حيوية معها، مثل الأردن والمغرب وتونس وقطر وعمان، الى جانب العلاقة الاشكالية القائمة حالياً بين الدولة العبرية ومصر؟ لن يكون سهلاً التوصل الى اجابات فورية عن هذه التساؤلات الجوهرية. وهناك احتمالات عدّة قد تؤدي الى زيادة عناصر الغموض وعدم الاستقرار. ومنها امكان تصاعد الوضع في جنوبلبنان، وربما وصولاً الى وسطه وشرقه، في ضوء أي تأزم أو مأزق خطير قد يشهده المسار السوري - الاسرائيلي، او في حال انهيار هذا المسار من أساسه. ومنها أيضاً تصاعد الأوضاع داخل الأراضي الفلسطينية وتحوّل موازين القوى السياسية والأمنية والشعبية فيها لمصلحة التيارات المتشددة من اسلامية وراديكالية على حساب منظمة التحرير والسلطة الوطنية نتيجة لأي ممارسات اسرائيلية متهورة قد يقدم عليها ناتنياهو لاعتبارات ليكودية او اسرائيلية داخلية، لعدم الانسحاب من الخليل او ارسال القوات الاسرائيلية لتنفيذ عمليات داخل مناطق السلطة، او اقفال "بيت الشرق" في القدسالمحتلة. بل قد لا يكون مستبعداً ان تؤدي مثل هذه الممارسات الى اندلاع "الانتفاضة" من جديد في الضفة الغربية وقطاع غزة، خصوصاً إذا ترافقت مع توسيع الاستيطان. ولا يمكن ايضاً تجاهل احتمال لجوء الحكومة الاسرائيلية الجديدة الى اعادة احياء الفكرة الليكودية القديمة المتمثلة بما كان يعرف بپ"الخيار الأردني" لتسوية الوضع النهائي للأراضي الفلسطينية بكل ما قد ينطوي عليه ذلك من عواقب غير معروفة النتائج على صعيد العلاقات الأردنية - الفلسطينية، وعلى الوضع الاقليمي عموماً. واضافة الى كل هذه العوامل، هناك عنصر داخلي أساسي سيساهم في زيادة الارتباك. وهو يتمثل في حقيقة ان ناتنياهو نفسه قد لا يتمتع بذلك القدر من حرية الحركة وهامش المناورة في ظل موازين القوى الحزبية والائتلافية التي خاض ليكود الانتخابات على أساسها. ويقول كبير الخبراء الاستراتيجيين الاسرائيليين زئيف شيف ان تلك الموازين قامت على "الجمع بين رموز الخوف ورموز الدين". ويضيف شيف المعروف بعلاقاته الوثيقة مع المؤسسة العسكرية الاسرائيلية وبقربه من حزب العمل "من وجهة النظر الاسرائيلية التاريخية، لا يمكن النظر بتفاؤل الى السياسة التي سيتبعها تحالف حكومي يستند أساساً في صياغة تصوراته وتوجهاته الى عاملي الخوف والدين. فالجمع بين هذين العاملين في اسرائيل كان دائماً الطريق المثلى لاتباع سياسات متطرفة وبعيدة عن الواقعية". وما يقصده شيف بذلك هو النفوذ الذي ستتمتع به داخل التركيبة "الليكودية" الحاكمة أطراف مغالية في تطرفها، سواء اليميني او الديني، من داخل التكتل نفسه، او من القوى التي سيضطر الى الائتلاف معها لضمان حصوله على الغالبية في الكنيست. ومن المقربين من ناتنياهو من يؤكد ان الزعيم اليمني ليس مرتاحاً كثيراً الى الضغوط التي بدأت تمارسها أطراف التحالف لحمله على تخصيص مقاعد وحصص وزارية معينة لها. ويبرز في هذا المجال كلّ من دافيد ليفي زعيم حزب غيشر الذي انشق عن ليكود العام الماضي ثم عاد وانضم اليه عند بدء الحملة الانتخابية، وهو يصر الآن على تولي حقيبة الخارجية، والجنرال رفائيل ايتان زعيم حزب تسوميت اليميني المتطرف ورئيس الأركان السابق الذي لا يزال يتمسك بضرورة الغاء اتفاقات اوسلو وعدم التعامل مع منظمة التحرير وفتح باب الاستيطان في الأراضي الفلسطينية على مصراعيه، ويؤيده في ذلك الجنرال ارييل شارون وزير الدفاع والاسكان السابق الذي لا يزال يتمتع برصيد كبير في قواعد ليكود ومؤيديه. ويضاف الى هؤلاء الأحزاب والقوى التي تقف على يمين ليكود، مثل موليديت وزعيمه رحبعام زئيفي الذي يدعو الى طرد الفلسطينيين والعرب من "أرض اسرائيل الكبرى" حاز على مقعدين في الكنيست، وحزب الطريق الثالث وزعيمه الجنرال افيغدور كحلاني الذي انشق عن حزب العمل ابان زعامة رابين معارضاً الانسحاب من مرتفعات الجولان حاز على 4 مقاعد، الى جانب الحزب الوطني الديني المفدال 9 مقاعد وحزب شاس الديني المتشدد 11 مقعداً، وحزب التوراة اليهودي الموحد أغودات يسرائيل 4 مقاعد، وحزب الهجرة يسرائيل باعليا وزعيمه المنشق السوفياتي السابق ناثان شارانسكي 7 مقاعد. وترفض كلها فكرة الانسحاب من الأراضي واقامة الدولة الفلسطينية وتدعو الى زيادة الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان. مستقبل اسرائيل والمحك العملي الأول الذي سيتبين من خلاله مدى وقوع ناتنياهو تحت نفوذ هذه القوى وتأثيرها، او تمكنه إذا كان يريد فعلا من تقليص مقدرتها على تحديد مسار الأمور تحت قيادته، هو تشكيل الحكومة الجديدة والأشخاص الذين سيتولون الحقائب الحساسة، كالدفاع والخارجية والداخلية والأمن والاسكان والمالية. ففي مواجهة "رموز الخوف والدين" هناك "رموز اعتدال وبراغماتية" قد يشكل اختيارهم مؤشراً مهماً على التوجه الذي سيعتمده ناتنياهو، ومنهم دان مريدور وياهود اوهرت وزالمان شوفال السفير الاسرائيلي السابق في واشنطن والياهو بن اليسار أول سفير اسرائيلي في مصر. فهل ستكون مثل هذه الخطة إذا أقدم عليها ناتنياهو مقدمة لمحاولة جادة منه لجذب "صقور العمل" لتيار وسطي جديد، او "قوة ثالثة" في السياسة الاسرائيلية تحت قيادته؟ وهل يكون ذلك المدخل الى اسدال الستار نهائياً على التراث التقليدي الذي قامت عليه الدولة العبرية منذ نشأتها، متمثلاً بالتنافس التاريخي بين تيار اليسار العمالي ومؤسسة دافيد بن غوريون، وتيار اليمين المتشدد ومؤسسة مناحيم بيغن، وامتداداتهما الحالية، لتدخل اسرائيل فعلاً مرحلة سياسية جديدة تختلف جذرياً عن السنوات الخمس الماضية، ويتسلم فيها تيار الوسط الصهيوني العلماني الجديد مقدرات الأمور، مع ما سيؤدي اليه ذلك من تهميش لقوى اليسار واليمين الديني المتشدد على جانبيه؟ اسئلة حيوية واحتمالات أساسية، والاجابات عنها لن تعرف قبل اتضاح ما يريده ناتنياهو لنفسه، وما يريده ليكود لاسرائىل، وما يريده الاسرائيليون لمستقبلهم. ومعها ستتضح معالم المرحلة المقبلة من الصراع وصورة المستقبل في المنطقة بأسرها.