أثار إعلان الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي ترشحه للانتخابات الرئاسية المقرر اجراؤها في حزيران يونيو المقبل، تساؤلات حيال برنامجه المقبل ومدى استعداده لتنفيذ وعود قطعها للناخبين في مطلع ولايتين متتاليتين فاز بهما عامي 1997 و2001، ولم ينجح في الإيفاء بها. ويفرض هذا الترشح القاء الضوء مجدداً على هاتين الولايتين الرئاسيتين وطروحات خاتمي، للخروج بانطباع عن توقعات الشارع الإيراني، وعن دروس مواجهة الرئيس السابق مع المؤسسات الخاضعة لمرشد الثورة السيد علي خامنئي من جهة ثانية. وخاتمي تعرض في نهاية عهده الى سلسلة انتقادات من أنصاره، لا سيما لتردده في مواجهة مرشد الثورة علي خامنئي ودعم انتفاضة الطلاب وعدم وقوفه بحزم في وجه اغتيالات واعتداءات واعتقالات ومحاكمات طاولت أنصاره. وهي مواقف حَدَت ببعض أنصار الرئيس الإصلاحي الى اتهامه بمحاباة النظام، مستعينين بسجل خدمته في هذا النظام بعد الثورة الإسلامية عام 1979 وحتى توليه وزارة الثقافة، وبغموض تصريحاته ومواقفه تجاه منصب ولاية الفقيه. لكن هذين الموقفين ليسا كافيين لاتهام المرشح الإصلاحي اليوم بمحاباة النظام والرغبة في ابقاء سلطاته الحالية. فخدمة النظام والثورة تنسحبان على كبار المعارضين الإيرانيين، إن كانوا من فئة رافضي الجمهورية الإسلامية، مثل رمز حركة الحرية لإيران ابراهيم يزدي وزير خارجية أولى حكومات الثورة، أو الراغبين في اصلاحها من الداخل مثل القوى الإصلاحية الممثلة في البرلمان. أما اتهام تصريحات خاتمي حيال"المؤسسات الثورية بالغموض"، كما يحلو للأكاديميين تسميتها نظراً إلى ارتباطها المباشر بخامنئي، فيغفل أمرين أساسيين: الأول يكمن في الحد الفاصل بين الإصلاح السياسي الداخلي والحرب الأهلية أو المواجهة الدموية مع مؤسسات النظام، وهي حصلت على نطاق محدود أمنياً وأوسع نطاقاً قضائياً. ويغفل أيضاً نظرة خاتمي الى المجتمع الإيراني بكونه إحدى مشكلات البلاد. وانطلاقاً من هذه المسألة، أي الموقف الأيديولوجي لخاتمي من النظام، يمكن للمهتم بالشأن الإيراني أن يعرف ماذا يتوقع تحديداً من هذا الزعيم السياسي الذي خذل ناخبين كثيرين أرادوا تغييراً لم يكن مطروحاً في برنامجه على رغم ما قيل عن تفاعل سياساته مع نبض الشارع الإيراني. أول ما يسترعي الانتباه لدى النظر الى التاريخ السياسي لخاتمي التباين بين نشاطه ومواقفه في الثمانينات، أي خلال الحرب مع العراق، وحقبة التسعينات، أي بعد وفاة المؤسس الإمام الخميني. فخاتمي كان في الحقبة الأولى ثورياً بامتياز، ولا سيما في المرحلة الحساسة من الثورة، والتي شهدت اندحار رئيس الوزراء الإيراني السابق مهدي بازركان والقريبين منه لترسيخ ولاية الفقيه ومؤسساتها. ولعب خاتمي الذي دخل أول برلمان بعد الثورة عام 1980، دوراً في اسقاط بازركان عندما منعه مع عدد من النواب من اكمال خطابه أمام البرلمان، وهتف معهم"الموت لبازركان". وأكمل دوره الآنف الذكر بمقالة كتبها في صحيفة"كيهان"المحافظة انتقد فيها بازركان ونعته ب"الأميركي"وهي تهمة ألصقها به قائد الحرس الثوري رحيم صفوي لاحقاً. لكن السياسة في حقبة ما بعد الخميني تبدلت في ظل غياب شخصيته الطاغية والحرب. فاستقال من منصب وزير الثقافة في حكومة هاشمي رفسنجاني بعد فوز المحافظين في الانتخابات التشريعية عام 1992. وهذه الانتخابات كانت مفصلية في تاريخ مؤسسات الثورة الإيرانية، ولا سيما مجلس صيانة الدستور الذي يعين المرشد علي خامنئي نصف أعضائه ال12 مباشرة والنصف الآخر في شكل غير مباشر عبر رئيس السلطة القضائية يعينه المرشد أيضاً. ويملك مجلس صيانة الدستور صلاحية الموافقة على من يخوض الانتخابات رئاسية كانت أم تشريعية وله الكلمة الفصل في اقرار مشاريع قوانين مجلس الشورى. وبهذه الصلاحيات الواسعة، أقدم المجلس يومها على منع عدد كبير من المرشحين المعارضين للسياسات الاقتصادية لرفسنجاني ممن ينتمون إلى طبقة من الثوريين يميل إليها وزير الثقافة آنذاك. وسجل هذا المنع الجماعي تدخلاً سافراً لمؤسسات الثورة في السياسة الداخلية بعدما كان المرشد حكماً بين القوى المختلفة. وبدا وقتها أن خامنئي يرد لرفسنجاني بعضاً من جميله في ايصاله إلى مركزه. وبروز هذا الخلاف على دور مجلس صيانة الدستور عززته التصريحات المتناقضة للخميني حيال دور مجلس الشورى المنتخب. فتارة شدد على السلطة المطلقة لولي الفقيه، وتارة أخرى قال إن مجلس الشورى"يدير كل الشؤون". ولذا فإن أكاديميين مثل مايكل برومبرغ وضعوا هذه التصريحات المحيّرة لمؤسس الثورة في سياق ادارته لتنافس سياسي رعاه بين كتلتين، الأولى يسارية اسلامية تطالب بسياسات اقتصادية تخدم الطبقات الفقيرة، والثانية تمثل رجال الدين التقليديين القريبين تاريخياً من تجار البازار. وهكذا بدا الإصلاحيون بقيادة خاتمي وكأنهم طارئون على النظام، وهم في الأساس ناقمون على تركيبة مؤسساتية سلبتهم مواقعهم بعدما ساعدوا في تثبيتها، فاستعانوا بإرث الخميني لإعادة التوازن الذي ساد في عهده. ولذا دعا معسكر خاتمي الى"انقاذ الثورة"عبر"جوهرها الديموقراطي"، واستعان بمقولة الخميني إن"المجلس يدير كل الشؤون"ليخوض صراعاً مع المؤسسات الخاضعة الى المرشد ومعسكره، وعلى رأسها مجلس صيانة الدستور ثم السلطة القضائية والحرس الثوري اللذان لعبا دوراً في قمع أنصار الرئيس السابق وإغلاق الصحف القريبة منه. لكن خاتمي وضع حدوداً لهذه المواجهة تمثل بإعلانه خلال ولايته الثانية"بأننا لسنا نسعى الى تقييد سلطة ولي الفقيه، بل نريد ما ينص عليه الدستور. موقفنا هو ألا يخالف ولي الفقيه الدستور". وهكذا لم يطل المشروعان التشريعيان الأساسيان لخاتمي في أيلول سبتمبر عام 2002 صلاحيات ولي الفقيه بل نص الأول على منح رئيس الجمهورية صلاحية تحديد انتهاكات الدستور لدى وقوعها، والثاني على سلب مجلس صيانة الدستور صلاحية منع الترشح للانتخابات. وهذان المشروعان، وإن كان رفضهما حتمياً إذ يستدعيان موافقة مجلس صيانة الدستور، يؤشران إلى حدود رغبة الرئيس السابق في التغيير. ولعل من المهم هنا الإشارة إلى دور مجمع تشخيص مصلحة النظام بقيادة آية الله هاشمي رفسنجاني، وهو الحكم في الخلاف بين مجلسي الشورى وصيانة الدستور. إذ فيما كان رفسنجاني في معظم الحقبة الخاتمية في المعسكر المقابل، خصوصاً أن أنصار الرئيس الإصلاحي بنوا حملتهم الانتخابية على انتقاد السياسات الاقتصادية للأول وآثارها السلبية مثل النسب العالية للتضخم، يرجّح مستشارون لخاتمي تحالفاً بين الرجلين في المرحلة المقبلة سيثمر امتداداً للمعسكر الإصلاحي داخل المؤسسات الثورية نفسها. لكن مثل هذا التطور في حال حصوله يُرجح أن لا يذهب الى حد استهداف صلاحيات المرشد نفسه، إذ أن عهد خاتمي الذي شهد إقرار انتخابات محلية للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية الإسلامية، لم يتجاوز نفوذ ولي الفقيه الواسع الصلاحيات، ليس فقط لأنه واجه حملة عنيفة شملت اغتيال مثقفين من أنصاره وإغلاق حوالى 90 مطبوعة واعتقالات ومحاكمات وقمع دموي للحركة الطالبية، بل أيضاً لأن اندفاعة الرئيس الإصلاحي باتجاه الدمقرطة حد منها ايمانه بحكم"النخبة المتنورة"، كما سماها، وبأن الشعب غير جاهز بعد لها. بيد أن"الحريات الاجتماعية والسياسية"يجب أن تديرها هذه النخبة كيلا تكون متفلتة من أي قيود. فالإيرانيون، بحسب خاتمي،"يعانون من مرض الاستبداد المزمن. وكنتيجة لذلك هناك لا مبالاة بالقانون ... وهذا ظاهر في سلوكنا العائلي والاجتماعي والتنظيمي. وإذا أردنا حقيقة أن نطبق اصلاحات، فعلينا أن لا نعتمد في ذلك على قائد، بل أن نبدأ بأنفسنا". وهذه النظرة للإصلاح تشترط بناء الإنسان المثالي قبل الشروع بسياسات حقيقية تفضي الى تغيير يصبو اليه الإيرانيون. ويبقى السؤال هل بدلت السنوات الأربع الماضية وما سبقها من مواجهة مريرة، خاتمي ليصبح أكثر قدرة على مواجهة النظام؟