اتهم كثيرون الرئيس الفرنسي جاك شيراك بحل البرلمان، "لتهريب" الانتخابات ولتحجيم خسارة اليمين المتوقعة، لو احترم الرئيس الموعد الطبيعي للاستحقاق الانتخابي صيف العام المقبل. وفي الاتهام كثير من واقع الحال، ذلك ان الحملة الانتخابية جرت في ظل أجواء فاترة وغامضة ومملة. ولعل توقيت حل الجمعية الوطنية في هذه الفترة بالذات لم يكن بريئاً وجاء مدروساً لتحقيق الهدف المنشود من حلها. فمن المعروف ان شهر أيار مايو مليء بالعطل التي يمكن وصلها ب "الويك أند". وهو شهر مهرجان كان السينمائي الذي يستغرق اسبوعين، وقد زاره شيراك في مبادرة هي الأولى من نوعها في تاريخ المهرجان. وهو ايضاً شهر دورة "رولان غاروس" لكرة المضرب، وشهر جائزة موليير للمسرح وكأس فرنسا لكرة القدم وكأس اوروبا... باختصار ان اهتمامات الفرنسيين في هذا الشهر تتوزع على هذه المناسبات التي تحظى بملايين المؤيدين وتستأثر بحماستهم. لذلك ضاعت الحملة الانتخابية الفرنسية والنقاشات بين اليمين واليسار على شاشات التلفزيون ومحطات الاذاعة في خضم الحديث عن فريق "باريس سان جرمان" لكرة القدم ومقدار حظوظه في الفوز بكأس اوروبا لكرة القدم مرة ثانية وفي الحديث عن سحر ايزابيل أدجاني رئيسة مهرجان كان، وفي ضجة الاضرابات المتكررة لقطاع المواصلات العامة. ويسود اعتقاد هنا ان اليمين واليسار لا يحملان اجوبة واضحة ومقنعة للملفات التي ما فتئت تشغل الفرنسيين منذ سنوات ومن ضمنها: البطالة والأجور والضرائب وأوروبا، والهجرة الاجنبية، والمشروع الأوروبي، خصوصاً العملة الموحدة أو الجمع بين المناصب الرسمية وخفض ساعات العمل والضمانات الاجتماعية... الخ. وفي غياب الاجوبة، انشغل التياران المتنافسان في اطلاق الخطب المضادة وفي البلاغة الكلامية والتعابير الجارحة، فالسيد ليونيل جوسبان زعيم المعارضة اليسارية حذر الناخبين من منح ثقتهم لحكومة لم تقدم حلولاً لمشاكلهم وتنكرت لوعود الرئيس شيراك الانتخابية في رئاسيات العام 1995. ونبه الى ان فوز اليمين في الانتخابات يعني استمرار السياسة الحالية التي لا تحظى بشعبية كبيرة في الشارع الفرنسي. في حين حذّر آلان جوبيه رئيس الحكومة وزعيم التيار اليميني، مواطنيه من عودة اليسار الى الحكم لأن عودته تعني الرجوع الى الوراء ولو كانت لديه حلول للمشاكل لكانت برزت خلال حكم الرئيس الراحل فرنسوا ميتران الذي دام 14 عاماً. والراجح ان الطرفين على حق في ادعاءاتهما، فلا اليمين يمكنه ايجاد حلول لمشاكل البطالة والهجرة، وهي مشاكل مستعصية، ولا اليسار استطاع ان يجترح معجزات في هذا المجال، أما اقتراحه ايجاد 700 ألف فرصة عمل للفرنسيين في حال فوزه فيثير الريبة والتساؤل في مجتمع فرنسي بات شديد الحذر من الوعود الانتخابية التي لم تنفذ في السابق، خصوصاً من طرف اليسار. ألم يعد فرنسوا ميتران ناخبيه بمليون فرصة عمل عام 1981 فاذا به ينهي ولايته الثانية بأكثر من مليون ونصف مليون عاطل عن العمل اضافي؟ خلافات بالجملة واذا كان الناخب شجاعاً وأراد ان يواصل الاهتمام بالحملة الانتخابية على رغم رتابتها وعمومياتها، فانه سيصطدم بالتناقضات التي تخترق صفوف اليمين واليسار على حد سواء ولا تبعث الثقة في نفوس الناخبين. فمن جهة تدور خلافات أساسية يصعب على الناخب تخيل مسارها في المعسكر اليساري حيث يقوم تحالف مركب بين الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي، وبين الطرفين وحركة انصار البيئة بزعامة دومينيك فوانيه. فالأشتراكي لا يجمعه مع الشيوعي سوى مناهضة اليمين والتضرر من سياساته. والخلاف الاساسي بين الطرفين يطاول المشروع الاوروبي الذي يرفضه الشيوعيون انطلاقاً من رفضهم اتفاقية ماستريخت، في حين يعتبر الحزب الاشتراكي من المؤسسين لهذا المشروع وتم في عهده التوقيع على الاتفاقية. واذا اشترك الطرفان في حكومة واحدة فإن استمرار الحكومة لا يمكن ان يتم الا على حساب "تنازلات" في قضايا الاتحاد الاوروبي. وفي داخل الاشتراكي نفسه تتعدد الحساسيات السياسية بتعدد اقطاب الحزب: ميشال روكار وجاك دولور يدافعان عن مشروع اقرب الى مشروع طوني بلير الاشتراكي الديموقراطي، في حين يدافع هنري ايمانيولي عن اشتراكية على الطريقة الفرنسية أكثر قرباً من التوجه الراديكالي الشيوعي. مما يعني ان حكومة اشتراكية - شيوعية ستكون في حال فوز اليسار بؤرة للمشاكل والخلافات الصعبة أكثر من كونها فرصة للتصدي للقضايا المستعصية التي ينتظر الفرنسيون حلولاً لها. في المقابل يعاني اليمين بدوره من تشتت صفوفه وازدياد الأصوات الناشزة التي لا تهتم بالدفاع عن برنامج الحكم والحكومة بقدر اهتمامها بتميزها عنه وبدعوتها الى الحد من تدخل الدولة في الاقتصاد واطلاق ليبرالية واسعة في كل الميادين. و يدافع عن هذا الاتجاه الاتحاد الديموقراطي الفرنسي بزعامة فرنسوا ليوتار الذي يلهث وراء منافسه في الحزب الجمهوري آلان مادلان فلا يعرف كيف يفرمل مقترحاته الليبرالية بلا حدود. ان ضغط ليبراليي الاتحاد الديموقراطي على الديغوليين لحملهم على اتخاذ اجراءات أكثر اندفاعاً في الاقتصاد والتخلص من مؤسسات القطاع العام، وان تحقق ذلك على حساب الضمانات الاجتماعية التي يحرص الفرنسيون على التمسك بها، من شأنه ان يعزز صفوف التيار الديغولي المحافظ داخل التجمع من اجل الجمهورية وهو تيار يفتقر الى الوحدة وطرفاه الاساسيان فيليب سيغان الذي عبر عن امتعاضه من حل الجمعية الوطنية التي يرأسها، وشارل باسكوا الذي خاض معركة الرئاسة الى جانب ادوار بلادور في مواجهة شيراك. في ظل هذا التشتت والقدر الكبير من الخلافات تضيق الخيارات امام رئيس الجمهورية بالنسبة الى تعيين رئيس الحكومة المقبل. فهو لا يستطيع اعادة جوبيه الى قصر ماتينيون لأن ذلك يثير معارضيه اليمينين وهم كثر، ويوفر هدفاً سهلاً لليسار، ويشيع الأحباط في صفوف الرأي العام الذي يراهن على تغيير حكومي فعلي. وترى أوساط مقربة من قصر الاليزيه ان الرئيس يمكن ان يلعب ورقة رئيس الجمعية الوطنية فيليب سيغان فيعينه رئيساً للوزراء اذا فاز اليمين بالغالبية. ويمكن هذه الخطوة ان تهدئ الجبهة الاجتماعية باعتبار سيغان من الديغوليين المناهضين لليبرالية المتوحشة. لكن سيغان يمكن ان يثير هلعاً كبيراً في بروكسيل، لأنه من القادة الديغوليين المناهضين لاتفاقية ماستريخت، وسبق له ان قاد حملة شعواء ضدها، وسيكون تعيينه رئيساً للحكومة مؤشراً سلبياً الى مدى التزام فرنسا الاستحقاق الاوروبي الأهم وهو الانخراط في العملة الموحدة. وعلى رغم مساعي سيغان لتحسين صورته في نظر مؤيدي المشروع الاوروبي والليبراليين، الا ان هؤلاء ما زالوا يعبرون في مجالسهم الخاصة عن معارضتهم تعيينه رئيساً للحكومة ويلوحون باحتمال انفجار أزمة بين فرنسا والمانيا في حال اعتماد مثل هذا الخيار. وأمام هامش المناورة الضيق في اختيار رئيس الحكومة المقبل في حال فوز اليمين، بدأت اصوات تتحدث عن ضرورة تجاوز النادي السياسي التقليدي لاختيار رئيس حكومة من المجتمع المدني، على ما أكد وزير العدل جاك توبون وهو من المقربين الى رئيس الجمهورية. ولا يستبعد ان يكون تصريحه معبراً عما يجول في خاطر شيراك في هذه المرحلة. لا يتيح ما سبق للفرنسيين ان يتوقعوا من خلال الحملة الانتخابية نوع الغالبية التي يمكن ان يختارونها، في 25 أيار مايو ومطلع حزيران يونيو المقبل الأمر الذي يفسر عزوف الفريق الأكبر منهم عن التعبير عن اهتمام قوي بالحملة. ولا يخفى ذلك على مؤسسات استطلاع الرأي وقياس اتجاهات الاقتراع، فتقارير هذه المؤسسات تبدو متحركة من حيث النتائج التي توزعها والتي تتناقض بين اسبوع وآخر، مما يسمح بتعزيز التوقعات التي انطلقت منذ اللحظة الأولى لحل الجمعية الوطنية وأكدت ان هذه الخطوة اشبه بمقامرة، وبالتالي يمكن انتظار الخسارة والربح في نهاية اللعبة من دون القدرة على تحديد الرابح والخاسر سلفاً. العرب في الانتخابات في ضوء ذلك تبدو حالة المهاجرين العرب والمسلمين في هذه الانتخابات أكثر تعقيداً مما كانت في الانتخابات السابقة. فأصوات الفرنسيين من أصل عربي واسلامي مشتتة وموزعة ولا تجد طرفاً واحداً ينطق باسمها ويرشدها. واذا كان مرشحون قلائل تقدموا الى الانتخابات بوصفهم من أصول عربية وفرنسية فان أياً منهم لا ينتظر الفوز ولا يعدو ترشيحه مجرد تسجيل موقف في انتظار فرص أفضل مستقبلاً. ولعل تشتت الأصوات في هذا المجال وعدم وجود ناطق واضح باسمها، لا يجعلانها محل رهان الكتل السياسية الفرنسية الكبيرة التي لم ترشح أياً من المسلمين أو العرب في لوائحها، ما يعني ان البرلمان الفرنسي المقبل لن يضم نائباً مسلماً كما هي حال البرلمان البريطاني الجديد. وتكمن الحقيقة الصارخة التي تبرز في صفوف الفرنسيين من أصل عربي واسلامي في الدعوات المتناقضة التي توجه الى هذه الفئة من الناخبين من طرف مئات الجمعيات التي تنطق باسمها، فالقليل منها يدعو الى المساهمة في الاقتراع كما فعل دليل بوبكر مدير جمعية مسجد باريس، والكثير لا يعبأ بالأقتراع ويرى ان التصويت لا يحمل علاجاً للمشاكل التي تعاني منها الجاليات العربية والاسلامية في فرنسا المتناثرة على مختلف الأراضي الوطنية على نحو لا يغري أحداً بالرهان عليها، ما عدا "الحركيين" وهم الجزائريون الذين قاتلوا الى جانب فرنسا خلال الحرب الجزائرية وعادوا مع الجيش الفرنسي بعد استقلال الجزائر. فهؤلاء أقرب الى التيار الديغولي واليمين الفرنسي من أي طرف سياسي آخر، وما زال تاريخهم السابق يوحد صفوفهم بوصفهم ضحايا حرب خسروها مرة واحدة والى الأبد. يحدث ذلك على رغم ان اليمين الفرنسي المتطرف يشكل مصدر خطر دائم ومستمر للجاليات العربية والاسلامية سواء في قسمها الذي يتمتع بالمواطنية وحق الاقتراع أو بالقسم المهاجر. ومن المفارقات الغريبة في هذا المجال ان اتساع نفوذ التيار العنصري في فرنسا يقابله في الصف العربي الاسلامي اتساع التشتت واستمرار الضعف والغياب عن الساحة السياسية. وعلى رغم الصورة القاتمة التي ترتسم حول وضع الفرنسيين من ذوي الأصول العربية والاسلامية فإن هؤلاء ينتظرون مصيراً أفضل اذا عاد اليسار الاشتراكي الى الحكم. ذلك ان التيار اليميني سواء في عهد وزير الداخلية السابق شارل باسكوا أو في عهد خليفته الحالي جان لوي دوبري اتخذ اجراءات قاسية ضد المهاجرين تسببت في اثارة القلق والمخاوف ليس فقط في صفوفهم وانما ايضاً في صفوف المجنسين منهم. ولا ينتظر ان تتغير هذه السياسة اذا عاد اليمين الى الحكم، ذلك ان هذه العودة ستفسر تفويضاً شعبياً للاستمرار في انتهاج السياسة نفسها ضد المهاجرين العرب والمسلمين. وتهدف هذه السياسة في ما تهدف اليه، مخاطبة ناخبي اليمين المتطرف وبعض ناخبي اليمين التقليدي الذين تغريهم طروحات جان ماري لوبن زعيم الجبهة الوطنية الداعية الى طرد الأجانب والحؤول دون استقبال مهاجرين جدد بما في ذلك عمليات جمع الشمل العائلي. لهذه الأسباب يتطلع العرب والمسلمون في فرنسا الى عودة اليسار الى الحكم لأنه وعد في برنامجه الانتخابي باعادة النظر في قوانين باسكوا - دوبريه لتبديد مخاوف المهاجرين. ولعل الحل الأمثل لعرب فرنسا، وكذلك للعالم العربي، يكمن في تشكيل حكومة تعايش بين اليمين واليسار، فسياسة فرنسا العربية في عهد شيراك مرشحة للاستمرار بغض النظر عمن يفوز في الانتخابات البرلمانية، لأن السياسة الخارجية، هي وفقاً للدستور من ضمن صلاحيات رئيس الجمهورية الذي لن يغير سياسة بلاده العربية بعد الانتخابات. في حين ان فوز اليسار في الانتخابات من شأنه ان يحسن شروط معيشة المهاجرين العرب في الداخل وبالتالي لن يكون بوسع اليسار تعديل سياسة فرنسا حيال العالم العربي وتطبيق سياسته الأقرب الى اسرائيل كما اتضح مرة جديدة من خلال تصريحات زعيم الحزب الاشتراكي ليونيل جوسبان اثناء عملية "عناقيد الغضب" في جنوبلبنان. وفي المحصلة العامة تكمن مصلحة العرب داخل فرنسا وخارجها في تعايش اليمين واليسار في حكومة ما بعد الانتخابات علماً بأن هذا التعايش لن يلعب العرب انفسهم أي دور مؤثر في التوصل اليه