الجزء الثاني من كتاب "خواتم" لأنسي الحاج، الصادر أخيراً عن "دار رياض الريس"، هو استمرار لكتابه الأول الذي صدر قبل خمس سنوات، ويجمع نصوصاً بلاغية، تبدو في مناخاتها ونبرتها أقرب إلى استراحة المحارب بعد مسيرة ابداعية طويلة كان فيها الحاج من بين الأسماء القليلة التي حاولت أن تمضي بالشعر العربي إلى ضفاف غير مأهولة. ونحسب أن وضوح لغة ومضامين هذه النصوص، يتنافر مع جل عادات كتابته التي تميزت بالغموض. بيد أن روحية هذه الكتابة تكاد تتشابه مع ما كتبه سابقاً سواء كان على هيئة تجليات وجدانية أم اشراقات صوفية. وهي تذكرنا بهذا الشكل أو ذاك، بأساليب شعراء المهجر في ما خطّوه من خاطرات وتصورات ميتافيزيقية عن العالم مطلع هذا القرن، وبقيت اصداؤه تتردد في تجليات شعر الرؤيا التطهيرية التي شغلت جانباً كبيراً من مضامين شعر الحداثة اللبناني. نُشرت هذه الخاطرات تباعاً في مجلّة "الناقد" قبل توقّفها عن الصدور. لكن الكتاب يخلو من أي اشارة توضيحية بهذا المعنى، تاركاً للقارئ أن يكتشف طبيعة هذه الوجدانيّات التي يكتبها عادة كبار الشعراء في الصحافة اليومية، ويتولى جمعها الناشرون من دون أن يشيروا إلى أصولها. وهذا النوع من الكتابة يؤخذ بما يعود على الكاتب من حضور مؤثر في محصلة عمله الطويل. ولا يقلل هذا الحكم من قيمتها لأسباب مختلفة من بينها، أنها - على عجالتها - تؤشر إلى ظلال ترديدات ذات الشاعر. فهي تسجل مزاجه الخام أو ما يشبه يوميات بوحه، وآراءه المتناثرة عن العالم والاخلاق والحب والصداقات. إنها نتاج انفعاله الآتي، وطيف من أطياف اعتمال المواقف الانسانية والابداعية لديه. لذا علينا أن ننظر في "خواتم" أنسي الحاج إلى حمول تلك الرغبة، لقراءة مادة هي أقرب إلى التسجيل اليومي لنوازع النفس ونفثات شجونها. أنسي الحاج في هذا النوع من الكتابة يقترب من نقطة التماس مع ينابيع وحيه الأولى. فمرجعية مشروع التجديد في الشعر العربي على يد الجمع الشعري اللبناني، لم تكن أوروبية أو فرنسية على وجه التحديد فحسب، بل كانت بعض مكوناتها تستند إلى التراث المسيحي الشرقي، بتجليات مضامينه عند رواد الحداثة الأولى في الأدب العربي، ونعني شعراء المهجر. فمن العبث الحديث عن حداثة تسبق تلك البداية التي كانت بحاجة إلى مسافة يبتعد فيها الشعر عن هيمنة روح الخطاب الاسلامي. وبصرف النظر عن مآل المضامين الشعرية المسيحية التي تبنّى جانباً منها عدد من الشعراء المسلمين ولم تصمد طويلاً لديهم، إلا أنها أصبحت جزءاً من مكوّن أساسي في لغة الشعر الجديد وفي توصيف الشاعر لنفسه، باعتباره راعياً أو مبشراً. وهذه الفكرة التقت بمحض المصادفة ربما، مع فكرة التصوف في إلغاء التوسط في نبوءة الابداع التي كانت موضع اهتمام ادونيس. لغة الكتاب أكثرها خطابية كما الوصايا، ولكن خطابيتها ليست جهيرة الصوت وإن تطلبت بعض شذراتها تلك النبرة، إنها بين الأدب والتأمل الميتافيزيقي أو الخاطرة الفلسفية. ولأن أفكاره في الغالب حدسية، فهي ترتكز على الخبرات العاطفية والادراك الجمالي للواقع، وإن تلبست حللاً لاهوتية. بين مرأى الغيوم التي تتغير يتبع أنسي الحاج الخط المتعرج للصور الحسية وتمثلها في ذهنه. ويمكننا أن نتلمس مسار الفكرة، ونموها في داخله ضمن أطوارها المختلفة الموضوعية والذاتية والمطلقة، بما يخالطها من متناقضات تقف على حوافي الانكار والاثبات من تحقق الشيء ونفيه. فهو لا يجترع هرطقة، بل يتبع رؤية أدبية لتصور لاهوتي متغير وفق ما تمليه نسبية الأشياء التي يدركها كفنان. إنّه يتخيل أشياء كثيرة بحدسه لا بيقينه الديني، بما فيها فكرة الفردوس التي يكتب عنها. إن لا أدريته تدفعه إلى تغيير مسار الحكمة الروحيّة إلى تخيل أدبي: "كل ما أدريه هو اني، وأنا الهارب من موت الأشياء هنا، لا اريد أن ألقى موتها هناك. ولكن أيضاً لا أريد أن ألقى عكسه، عكسه وحده، محنطاً في جموده، فاقداً جاذبية العابر". هكذا يتخيل فردوسه. خمسة فواصل في كتابه تتواصل في ايقاع واحد وإن اختلفت مواضيعها، فكلها تستخدم الحكمة أسلوباً في تكثيف المعنى واختصاره إلى ما يشبه التعاليم أو الوصايا. وهي وإن اعتمدت على منظومة المخيلة اللاهوتية، تتمثل النازع الانساني، من خلال رؤية لا تخلو من الشعور بالعبث والعدمية. وهي بهذا تحقق استبطاناً درامياً يعكس الحالة ونقيضها. أنسي الحاج في مسرحه الوعظي مسكون في كل المواضيع الأرضية، بهاجسه اللاهوتي، فمخيلته تجلد ذاتها بمثاليتها، حتى عري المرأة وجمالها يكتملان بتساميهما وفكرة المعصية تلاحقه في ما يكتبه عن الحب: "أخاف على سعادتك أن تصيبها عين فيّ هي الصدى الأسود لسعادات قديمة اغتصبتها اغتصاباً وظللت إلى الآن أمسك هذا، فاقداً ذاكرة جريمتها". الحب عند أنسي الحاج قيمة مطلقة تصوفية "لأني أؤخذ في حبي لهؤلاء القديسات والقديسين لا بدرجة تدينهم إنما بمدى افراطهم في الحب". لعلنا نجد في تلك الأقوال الهاربة من توقع متكامل لصيرورتها، بعض ما يدلنا على ما نريده من الشاعر في تسجيله حيثيات ابداعه. فلنقرأ بين السطور من دون أن نملك حق التأويل ما يبوح به: "مرة قلت إن أول عهدي بالكتابة كان علاقة مع الفراغ. فقد حاولت أن أكتب فلم أكتب شيئاً. لم أشعر بشيء في داخلي يريد أن يخرج. قمت وجلست أمام مرآة كبيرة أحدق إلى صورتي، علني، إذا وصفت مادتي على الأقل، أتوصل إلى شيء من الروح. لا انكر كتبت في النهاية. وليس هذا المهم، بل الشعور الصلب بالفراغ الذي لم يفارقني، لا وأنا أحاول التفرس في ذاتي ولا أنا أحدق إلى صورتي في المرآة". يحتاج القول إلى استطراد لنعرف ما يعنيه الفراغ في تعريفه الشعري: "الفراغ هو الذي يعكس الأشياء ويرسل أصواتها أو اصداءها، الفراغ الذي يستقطب الحوادث والأحداث كما تستجلب الحربة الصواعق". في هذا الكتاب نجد وقتاً للوعظ، وآخر للبوح، وثالثاً للتأمل. وكل هذه الأوقات تمضي سراعاً في حركة تشكل مشهداً من مشاهد القول الأدبي التي تحتاج في كل الأحوال إلى توضيح لمناسبتها، حتى لا تبقى معلقة على مشجب الكتابة التي انتهى زمنها منذ أن غادر شعراء المهجر مسرح الشعر