مطلع العام الماضي وجّه نائب الرئيس السوري السيد عبدالحليم خدام رسائل عدة الى أكثر من طرف لبناني، في حديث صحافي، مبرراً السياسة التي انتهجتها سورية في لبنان منذ سنوات طويلة، خصوصاً بعد اتفاق الطائف، وملقياً مسؤولية التعثر في مسيرة انتقال لبنان من الحرب الى السلم على اللبنانيين، حكاماً ومسؤولين وفاعليات سياسية. وعلى رغم اهمية المواضيع المتنوعة لحديث نائب الرئيس السوري الا ان اللبنانيين عموما والمسيحيين خصوصا توقفوا عند كلامه عن البطريرك الماروني نصرالله بطرس صفير الذي تضمن نوعاً من الاشادة بمواقف سابقة له ونوعاً من "التذكير" بالدور الذي لعبته دمشق لحمايته او لتغطيته، نظراً الى اقتناع اللبنانيين بأن مسيرة انتقال البلاد من الحرب الى السلام الاهلي الكامل متعثرة وستبقى كذلك طالما بقي المسيحيون على خلاف مع سورية وطالما استمروا في الرهان على متغيرات اقليمية ودولية للخلاص منها. ويعتقد معظم المسيحيين بأن التهميش الذي يتعرضون له في الجمهورية الثانية الناتج عن غياب التوازن في الداخل مع المسلمين ما كان ليحصل لولا سورية. وقد دفع كلام خدام كل هؤلاء الى اعتباره رسالة او ربما اشارة الى رغبة دمشق في فتح الباب امام مصالحة المسيحيين معها، وتالياً امام تثبيت لبنان ما بعد الحرب القائم على نوعين من الاساسات: الاول الوفاق الوطني في الداخل بين المسيحيين والمسلمين الذي ينتج توازنا يرسخ العيش المشترك. والثاني العلاقات المميزة مع سورية التي تبقى عرضة للتهديد وللتشكيك من الداخل ومن الخارج، في ظل خلافات اللبنانيين وخوفهم من سورية، سواء على وضعهم كجماعات او على بلدهم وعلى مقومات استقلاله وسيادته. هذه الاشارة التي اطلقها خدام التقطها الشيخ وديع الخازن احد اعضاء الرابطة المارونية الذي يتردد على الى بكركي مقر البطريركية المارونية باستمرار وقرر التجاوب معها انطلاقا من دافعين. الاول، وهو الاهم، قيام حوار بين المسيحيين وسورية، عبر بكركي، من اجل التأسيس لعلاقة سليمة وجيدة بينهما يفيد منها المسيحيون في المحافظة على دورهم اللبناني وبالتالي على وجودهم، ويفيد منها اللبنانيون في تحصين وطنهم ضد الخلافات السياسية - الطائفية - المذهبية التي كانت السبب في مآسيه التي انفجرت العام 1975، وتفيد منها سورية في "حماية ظهرها" وتقوية خاصرتها التي هي لبنان اذ كانت دائما ضعيفة، وكذلك في تعزيز وضعها الاقليمي. اما الدافع الثاني فهو رغبة الشيخ الخازن في تأمين انطلاقة جيدة له في العمل السياسي بعد سنوات من تعاطيه الشأن العام ولكن بطريقة غير احترافية، واول ما فعله كان الاتصال هاتفيا بنائب الرئيس خدام الذي حدد له موعدا بسرعة، لكن طبعاً بعدما استفسر عنه وعن خلفياته السياسية. وفي اللقاء الاول بينهما استفاض خدام المعروف باطلاعه الدقيق على الوضع اللبناني، بسبب كونه احد اركان المسؤولين السوريين الممسكين بملف لبنان، في الحديث عن التجارب الماضية وخلص الى تأكيد استعداد سورية للتحاور مع المسيحيين، لا سيما من خلال بكركي، وكلّف الخازن نقل هذا الاستعداد الى البطريرك صفير والتأكيد له انه مكلف من دمشق اجراء الحوار. ونقل الخازن ما دار الى البطريرك صفير الذي فوجئ لأسباب عدة، منها ان الحوار المسيحي - السوري، لا سيما من خلاله، لم يكن مطروحاً في الاونة الاخيرة بشكل جدي على رغم الحوارات التي جرت في الماضي عبر شخصيات لبنانية متحالفة مع سورية والتي لم تسفر عن صيغة ايجابية. ومنها ايضا انه اي البطريرك لم يكلف الخازن اجراء اي اتصال مع سورية لا بل انه لم يكن يعتقد بأن الاخير قد يكون قناة حوار مع سورية بسبب عدم وجود علاقات له مع سورية اساسا وبسبب خلفيته السياسية غير المتعاطفة مع سورية عضو سابق في حزب الكتلة الوطنية بزعامة العميد ريمون اده. وقد يكون هذا ما اثار استغرابه وجعله يتساءل عما يجري فعلاً. ومنها ثالثاً خوفه ان يكون انفتاح سورية المفاجىء هدفه تحصين وضعها اللبناني تحسبا لضغوط اقليمية ودولية قد يتوسل اصحابها الساحة اللبنانية لممارستها. ومنها رابعا رغبته في انتظار جلاء غبار الوضع الاقليمي على ضوء التطورات الاخيرة قبل الارتباط بأي شيء ولا سيما مع سورية. الا ان ذلك لم يمنع الشيخ الخازن من الاستمرار في زيارة دمشق والاجتماع الى نائب الرئيس السوري الذي اعتبر ان الفرصة التي اتاحتها مبادرة الخازن يجب عدم تفويتها. وعندما تحدثت وسائل الاعلام عن "حوار مسيحي- سوري" واعطته اكثر مما يستحق لانه كان لا يزال في مرحلة التمهيد، حصل امران مهمان: الاول تهافت شخصيات مسيحية قريبة من بكركي على البطريرك للاستيضاح اولا ولمحاولة الحصول على موافقته للاشتراك في الحوار المذكور. والثاني اتفاق الخازن مع خدام على زيارة يقوم بها لدمشق الامير حارث شهاب احد مستشاري البطريرك الماروني حيث تحدد الموعد وابلغه الخازن الى شهاب. لكن الامير الشهابي تريث في قبول الدعوة، علماً انه كان زار العاصمة السورية في وقت ما من العام الماضي وترك انطباعا جيدا فيها، واطلع البطريرك عليها وطلب رأيه، فرد البطريرك كالعادة: "أنا لن أكلفك الذهاب الى دمشق، واذا شئت ان تذهب فلا مانع. لكن الا تعتقد بأن ذهابك قد يلزم بكركي لتعذر الفصل بينك وبينها، والا نكون رفعنا المستوى قبل معرفة اي شيء او قبل الحصول على شيء". وعلى رغم ان شهاب لم يطلب تكليفا رسميا او تصريحا علنيا بالموافقة على الزيارة من البطريرك فانه كان مستعدا للقيام بها اذا حظي بموافقة ضمنية منه لاقتناعه بأن الحوار هو السبيل الوحيد لحل الكثير من المشاكل في لبنان ومع سورية. لكن هذه الموافقة تعذرت فاعتذر عن عدم تلبية الدعوة. وعند هذا الحد وجد البطريرك صفير نفسه مضطرا الى الاعلان رسميا انه لم يكلف احدا التفاوض او التحاور مع سورية. تطور ايجابي لكن معلومات تسربت لاحقاً اشارت الى ان الحوار انطلق او ان الاعداد له بدأ، لكن من خلال قناة اخرى. وأكدت هذه المعلومات ان البطريرك الماروني طلب من نائب رئيس مجلس النواب ايلي الفرزلي حليف سورية التحاور حول هذا الموضوع مع سفير لبنان السابق في واشنطن سيمون كرم ومع السيد سمير حميد فرنجية، واعتبرت جهات لبنانية عدة هذه المعلومات التي تأكدت صحتها دليلاً على تطور ايجابي في موقف صفير ذلك انه وافق وان في صورة غير رسمية وغير علنية على الحوار وسمى المحاورين عنه او باسمه، وعلى جدية الحوار كون الفرزلي مؤمنا بأن حوار المسيحيين مع سورية هو سبيلهم الوحيد الى ترتيب اوضاعهم والى عودة لبنان بلداً معافى بتوافق ابنائه وتوازنهم وكونه ايضا على علاقة وثيقة ومريحة بدمشق. طبعا لا يمكن منذ الآن الحديث عن المراحل التي قطعها الحوار ذلك لأنه لا يزال في بدايته ولا يمكن الجزم بنتائجه، لكن ما يمكن الحديث عنه هو بعض الشروط التي ينبغي توافرها كليا ليكون الحوار ناجحاً ومنفتحاً. وأول هذه الشروط ان يكون المسيحيون بقيادة بكركي وصلوا الى الاقتناع بأن استعادة الماضي الذي قاومه المسلمون ونجحوا في تغييره لن يعود وان الرهان على قوى اقليمية عربية او غير عربية، وكذلك على قوى دولية، من اجل فرض هذا التغيير لن يثمر، لا بل سيحقق عكس المطلوب. وثاني هذه الشروط ان يكون المسيحيون بقيادة بكركي وصلوا الى اقتناع بأن اقامة توازن بينهم وبين المسلمين مستحيلة من دون سورية التي ساهمت لاعتبارات عدة في الماضي في الخلل السائد وبأن الاكتفاء بالتحاور مع المسلمين من اجل ذلك لا يكفي وحده. وثالث الشروط ان يكون المسلمون وصلوا الى اقتناع بضرورة قيام لبنان المتوازن، وان لا يعمدوا الى تعطيل اي حوار مسيحي مع سورية انطلاقا من خوف بأن نتائجه لن تكون على حسابهم. والتعطيل قد يكون بافتعال مشاكل وازمات، وقد يكون ايضاً باغراء المسيحيين بالاستمرار في التصدي لسورية وبوعدهم بأنهم اي المسلمين معهم ولكنهم لا يستطيعون الآن التعبير عن حقيقة مواقفهم لأسباب معروفة. ورابع الشروط ان تكون سورية وصلت الى اقتناع بأن الوجود المسيحي الحر في لبنان والتفاعل مع المسلمين في صيغة متوازنة من مصلحتها، وبأن لبنان المستقل والسيد المنسق معها في كل المجالات هو في مصلحتها ايضاً. اما خامس الشروط وآخرها اعتماد سورية خطاً واحداً للحوار مع المسيحيين واعتماد المسيحيين خطاً واحداً للحوار مع سورية، لأن اللبنانيين يعتقدون بوجود اكثر من خط في سورية وبأن الوضع المسيحي هو احدى ادوات التنافس فيما بينها. وهذا الاعتقاد ليس صحيحاً في نظر الذين يعرفون سورية على رغم تنوع الخطوط وكثرتها، لأن موضوعاً بحجم الحوار المسيحي - السوري لا يمكن ان يبدأ إلا باشارة من الرئيس حافظ الاسد، فضلاً عن ان التنافس المذكور يهدف في مجمله الى تأمين مصالح سورية والنظام فيها اكثر مما يهدف الى تأمين مصالح القائمين به. والرئيس الاسد هو الذي يحدد هذه المصالح ويقرر وسائل تأمينها او الحفاظ عليها. لكن ماذا اذا فشل الحوار؟ العارفون يعتقدون بأن دمشق في هذه الحال قد تفتح حوارا مع جبهة مسيحية سياسية غير بكركي، ويعتبرون ان التيار العوني بقيادة العماد ميشال عون قد يكون هذه الجبهة، لانه واسع الانتشار في اوساط المسيحيين ولأن قائده اقل سلبية، من الناحية الاقليمية، من الزعامات المسيحية الاخرى التي يعيش معظمها في الخارج. وعلى رغم ان الحوار المسيحي - السوري يبقى مطلوباً فإن حواراً خارج بكركي يصبح حوارا على ملف سياسي وليس على ملف وطني، كما مع البطريركية المارونية. ذلك ان الاتفاق مع عون بنتيجة الحوار قد يرسي اسس تفاهم يحقق هدنة وليس حلا دائما، الا اذا برهنت التطورات عن ذلك، لأن الجنرال عادى سورية، ولان تياره قام على معاداتها، ولان ذلك يفرض على دمشق ان تكمل سلسلة من القيود ومن التحالفات في الداخل، الامر الذي يبقي لبنان ممسوكاً وليس متماسكاً، ويعرضه بالتالي الى الانفراط عند اي تغيير جوهري اقليمياً ودولياً