شنت قيادات الجماعات الاسلامية المتطرفة حملة اعلامية نشطة طوال الاسابيع الاخيرة بهدف فتح ثغرة في جدار العزلة التي طوقتها بعد مذبحة الاقصر التي نفذها ستة من اعضائها في 17 الشهر الماضي وذهب ضحيتها 58 سائحاً اجنبياً وأربعة مصريين. وكانت الحملة الاعلامية اتخذت اشكالا مختلفة، بعضها مباشر، من خلال اطلاق تصريحات ومبادرات، وبعضها غير مباشر، من خلال اتصالات وترويج انباء عبر افراد قريبين من دوائر هذه الجماعات. ومن هذه الاتصالات، قيام احد المحامين في هيئة الدفاع عن اعضاء الجماعات باستمزاج رأي شخصيات عامة مستقلة وحزبية لتشكيل ما يسمى بپ"اللجنة القومية لايقاف العنف"، بهدف ان تصبح مظلة حوار غير رسمي بين الجماعات والقوى والاحزاب السياسية المختلفة. وليس سرا ان هذه الاتصالات لم تسفر عن نتيجة. فجماعة "الاخوان المسلمين" المحظورة لم تبد حماسا للمشاركة، ربما خشية تجدد الهجوم عليها بتهمة دعم جماعات العنف. كذلك تحفظ حزب العمل المعارض شريك التحالف الاسلامي تحسبا للاثر السلبي المحتمل، في حال مشاركته في اللجنة، على العلاقة مع وزير الداخلية الجديد. كما أحجمت شخصيات عامة وحزبية عن التجاوب مع الاقتراح إما بدعوى مراجعة احزابها، واما بدعوى اتاحة الوقت لدرس الاقتراح، الامر الذي اسرع معه محامي الدفاع عن قضايا الجماعات لاستعجال طبع كتاب له بعنوان "مبادرة ايقاف العنف - تكتيك أم استسلام" وفيه يقول: إن المبادرة "لا تتعلق بضعف او قوة .. وانما هي حل حقيقي لمصلحة مستقبل البلاد". أما على صعيد حملة البيانات والمبادرات، فاللافت ان خطابها اتسم بارتباك وتضارب شديدين، ذلك ان قيادات الجماعات هالها رد الفعل العام الداخلي والعربي والدولي الغاضب والرافض لمذبحة الاقصر ومشهدها الرهيب، ما ادى الى استشعار الجماعات لحالة قاسية من العزلة. وقد زاد من قلق الجماعات ان قيادات متحالفة مع التيار الاسلامي مثل رئيس حزب العمل المهندس ابراهيم شكري لم تكتف بادانة مذبحة الاقصر فحسب، وانما وصفتها بانها "خيانة وطنية". واتجهت تعليقات كتّاب من التيار الاسلامي الى الاتجاه نفسه، وإن كان بشكل غير مباشر. حين رجحت ان ما حصل في الاقصر من فعل عناصر تعمل مع جهاز المخابرات الاسرائيلي موساد او الاميركي السي.آي.ايه ردا على مواقف مصرية من القضية الفلسطينية ومؤتمر الدوحة الاقتصادي. ويمكن رصد اول اشارة للارتباك انه بعد اطلاع الرأي العام على المشهد الرهيب صدرت تصريحات منسوبة لبعض قيادات الجماعة بالخارج أرجعت سبب هذا المشهد الى "تدخل عناصر الامن المصري للاشتباك مع منفذي العملية، ولما ثبت غياب عناصر الامن عن ساحة المشهد، وبالتالي عدم حصول الاشتباك بدأت حملة اعلامية وعلى جبهات عدة لمحاولة امتصاص او احتواء الاثار السلبية للمشهد الرهيب. أولى جبهات هذه الحملة، محاولة "تسييس" مذبحة الاقصر وبالتالي تبرير مشهدها الرهيب. وقد جرت عملية التسييس هذه من خلال مرور يومين على المذبحة تبنت فيه "الجماعة" مسؤولية ما حصل وعرضت ايقاف عملياتها بشروط "سياسية"، منها قطع العلاقات مع اسرائيل، والافراج عن الشيخ عمر عبد الرحمن المسجون في اميركا. وقد واكب ذلك صدور تصريحات عن قيادات وجماعات اخرى للعنف تهدد بشن عمليات مماثلة لعملية الاقصر ضد الاسرائيليين والاميركيين في مصر الأمر الذي فسره كثيرون بأنه محاولة لمغازلة مشاعر الرأي العام الساخط ضد سياسات اسرائيلية واميركية في عملية السلام، في حين لا يتذكر الرأي العام اية عملية عنف نسبتها الجماعات لنفسها ضد الاسرائيليين او الاميركيين طوال تاريخ هذه العمليات. ويدخل في سياق محاولة التسييس هذه اعلان قيادات للجماعات في الخارج عن حوار غير رسمي وغير مباشر مع "وسيط" قريب من دوائر الحكومة المصرية، الامر الذي شددت الجهات الرسمية على نفيه اكثر من مرة. وسيط غير رسمي وعلمت "الوسط" من مصادر مطلعة ان شخصية مصرية تعمل بين عواصم اوروبية انطلاقا من باريس في نشاطات اهلية تتعلق بالحوار بين الاديان والتقريب بين المذاهب التقت شخصيات اسلامية من جنسيات مختلفة في لندن قبل مذبحة الاقصر بنحو ثلاثة اسابيع، ودار حوار بينها على قيام اصوليين متطرفين بتشويه الاسلام. وكان هدف الحوار كيفية معالجة هذا التشويه، لجهة منع دوائر اوروبية واميركية معينة من إذكاء حملات تحاول ان تجعل من الاسلام عدوا جديدا للغرب بعد سقوط العدو الشيوعي. وقد أطلعت هذه الشخصية ديبلوماسيين مصريين وعرباً على هذا الحوار في اطار علاقات صداقة، وليس في اطار رسمي، كون هذه الشخصية لا تحمل تفويضا من اي جهة رسمية في مصر للتحديث باسمها. وفي السياق نفسه وبعد فشل المحاولتين السابقتين في فتح ثغرة في جدار العزلة او الدفع باتجاه تشكيل لجنة ايقاف العنف او فتح قناة للحوار مع القوى والاحزاب السياسية او الحكومة، جرى إحياء ما سمي بالمبادرة غير المشروطة لايقاف العنف. التي اطلقها قادة الجماعات في السجون في تموز يوليو الماضي، حيث اعلن مصطفى سيد احد المتهمين في قضية للجماعات تنظر حاليا امام المحكمة في يوم 3 من الشهر الجاري، ان القادة في السجون مصرون على الاستمرار في مبادرتهم. وانهم "يناشدون الاخوة خارج مصر كذلك اعضاء الجناح العسكري الفارين من ملاحقة الشرطة، ان يعملوا على وضع المبادرة موضع التنفيذ على ارض الواقع، والتوقف عن اصدار بيانات محرضة على اي عمليات عنف في المستقبل". وناشد الحكومة "التعاطي بايجابية مع المبادرة". نداء السري وفي تطور لاحق، اعلن ياسر السري أحد القيادت الهاربة خارج مصر، انه يناشد اعضاء الجماعات الدينية ايقاف العمليات خلال شهري شعبان ورمضان كانون الاول وكانون الثاني ديسمبر ويناير ما يعني ايقافاً موقتا هدفه "افساح المجال امام الحكومة لاتخاذ خطوات ايجابية في الطريق الصحيح" اي الافراج عن معتقلين من اعضاء الجماعات. واضاف السري انه حصل على موافقة قادة "الجماعة الاسلامية" وفي "حركة الجهاد - طلائع الفتح" على مضمون ندائه، واوضح انه أبلغ قياديين في جماعة "الجهاد" التي يرأسها ايمن الظواهري لكنه لم يعرف رده. وزاد في لهجة يأس انه لا يعرف "جدوى ذلك". اما جبهة العمل الثانية للحملة الاعلامية للجماعات، فقد اتجهت الى موضوع السياحة. وبرأي المراقبين ان مذبحة الاقصر لم تكن امرا عفويا. مثلما ان اختيار موقع المذبحة لم يكن ايضا اختيارا عفويا ولا استهدافاً لمجرد مكان يتوقع ان يكون اقل حماية امنية. بل إن استهداف ضرب السياحة كان هدفا محددا لذاته. فالسياحة، برأي قيادي هارب استضافته اذاعة البي.بي.سي. دون ذكر اسمه للتعليق على ما حدث في حينه،هو "دعارة مقنعة وليست من الاسلام. وادت الى تفكيك الاسرة وبيع الاعراض. فهي خطأ اسلامي واجتماعي. ويتمتع بأموالها الطغاة والشياطين. والسياح مخلب قط سياسي للغرب من اجل التجسس". ويذكر ان رأيا بالمعنى نفسه كان اعلنه الشيخ عمر عبدالرحمن في العام 1993. ولم يصدر بعد ذلك اي ادبيات اخرى عن "الجماعة الاسلامية" تفيد بتأجيل فكري مغاير من عملية السياحة. لكن نتائج مذبحة الاقصر التي اثرت على الحياة المعيشية اليومية لأسر العاملين في صناعة السياحة أربكت قيادات "الجماعة"، وانعكس ذلك في حرص مصطفى سيد على التصريح بقوله ان "الجماعة" لم تستهدف السياح يوما. وان عملياتها في الماضي كانت تستهدف صناعة السياحة! واوضح ان قيادة الجماعة اصدرت في ايلول سبتمبر الماضي "عهد امان للسياح". وراحت الحملة الاعلامية تتوقع صدور بيان عن "القادة التاريخيين" يتضمن "قرارا بفصل اي عضو يشارك في التحريض او التخطيط لتنفيذ عمليات ضد السياحة". لكن اللافت ان البيان الذي صدر 3/12 لم يتضمن شيئا من ذلك. وحتى عندما اذيع في تطور لاحق بيان باسم "الجماعة الاسلامية" بانها قررت بشكل نهائي وبالاجماع ايقاف اية هجمات على السياحة، فوجئ المراقبون ببيان اخر باسم "الجماعة الاسلامية" ايضا ينفي صدور مثل البيان السابق، الامر الذي تجدد معه الحديث عن انشقاق محتمل او حتى تشرذم. وتساءل الشارع السياسي المصري عن "الصحيح" و"المدسوس" بين هذه البيانات. لكن مراقبين ذهبوا الى ان ذلك ربما يكشف عن خلاف في تقدير موقف سياسي، لكنه لا يمتد الى الجوانب الايديولوجية او الفقهية، وتساءلوا عن اي من البيانين سيلتزم به اعضاء الجماعات الهاربون في الجبال ومزارع القصب وغيرها في صعيد مصر، خصوصاً ان مدى تأثير اي من قادة الخارج او الداخل في الجيل الجديد من شباب الجماعات لم يعد واضحا بما يكفي. اما ثالث جبهات الحملة الاعلامية للجماعة لفتح ثغرة في جدار عزلتها، فهي الترويج في البداية الى ان عملية الاقصر مسؤولية قادة الخارج ثم الترويج التدريجي الى اعتراض قادة الخارج على العملية، وان منفذيها "لم يحصلوا على موافقة اي من قادة الخارج على تنفيذها" ثم الى ان قادة الخارج "فتحوا تحقيقا في شأن تجاوزات عملية الاقصر" وان احد هؤلاء القادة "غضب غضبا شديدا لتنفيد العملية .. واعتبر انها اساءت الى الجماعة. واستكملت الحملة على هذه الجبهة مداها بالقول "إن منفذي العملية قاموا بها من تلقاء انفسهم"، فيما يعني ان المشهد الرهيب في الاقصر بات يتحمل مسؤوليته فقط ستة اعضاء اصبحوا في ذمة الموت. وبالتالي تكون "الجماعة" وقيادتها في الداخل والخارج قد غسلت يديها من مذبحة الاقصر، وبذلك تكون الحملة النشطة للجماعة تناست وقائع محددة نشرت منسوبة الى قيادات منها في الخارج ولم يصدر عنها اي نفي لها. ومن ذلك مثلا ان "حركة الجهاد - طلائع الفتح الاسلامي اعلنت في 21/11 اي بعد ثلاثة ايام من المذبحة ان عملية الاقصر "كانت مقررة قبل هذا الوقت". ومن ذلك - كمثال اخر - صدور تصريحات تؤكد ان "التعليمات يتلقاها منفذو العمليات من الخارج طوال السنوات الخمس الماضية" حتى ان بعض المراقبين استخلص ان "قرار العمل" افلت من يد القيادات التي تعيش في السجون، واصبح القرار بيد قيادات الخارج، والمعروف في العمل السري السياسي او العسكري، ان الكلمة الفصل في صنع القرار تكون دائما للقائمين على العمل الميداني. سواء في مناطق العمل، أم في المنفى، وغالبا ما تحظى قيادات المنفى لأسباب مختلفة، بمكانة استثنائية في صناعة قرار العمل. لانها تمسك عادة بمفاتيح التمويل والاعلام والدعاية والاتصالات، لكن الحملة تواصلت لتروج ان قادة الخارج الذين رفضوا مبادرة تموز يوليو غير المشروطة واطلقوا مبادرة اخرى مشروطة بعد مذبحة الاقصر، يقومون الان "باعادة النظر في مبادرة وقف العنف التي اطلقتها قيادات تاريخية في السجن". حوار تحت الارض وعلى اية حال فالثابت ان الحملة الاعلامية في اتجاه فتح ثغرة في جدار عزلة الجماعات، او في اتجاه العمل على اقامة حوار بينها وبين القوى والاحزاب السياسية او الحكومة، لم تحرز أي نجاح حتى حينه. وبرأي بعض المراقبين ان الدفع في هذا الاتجاه، على النحو الجاري الان، فيه قفز على الاساليب المرعية طوال عهود مضت. فقد كان للدولة دائما طريقتها في ما يمكن تسميته بالحوار مع اعضاء المعارضة تحت الارض. فهي تقوم بذلك من خلال اعمال القبض والافراج والتحقيق وتوجيه الاسئلة عن طريق قنوات مسؤولي الامن والسجون والتحقيقات. وتستخلص من ذلك كله ما تستخلصه. وقد افضى الحوار على تلك الطريقة، الى تحقيق مصالحة بين الدولة والشيوعيين في العام 1964. والى مصالحة اخرى مع "الاخوان المسلمين" في العام 1974. وكان الامر في الحالتين نتيجة تطورات محددة. في الحالة الاولى مع الشيوعيين كانت المصالحة نتيجة ظروف موضوعية، الجزء الاساسي منها ذاتي على جانبي كل من الدولة والشيوعيين. وخلاصته ان الدولة في حينه كانت حسمت اختياراتها الفكرية والسياسية، بتبني هدف تحقيق "الاشتراكية" وقطعت في هذا السبيل شوطا كبيرا وحددت تحالفاتها الداخلية والخارجية مع القوى الاجتماعية والدولية التي تعمل في الاتجاه نفسه. حتى وإن اختلفت معها في بعض الجوانب. خصوصاً على صعيد الديموقراطية. ومن هنا كان قرار غالبيتهم في حل تنظيماتهم الحزبية تحت الارض. وكان ذلك كله، على الجانبين، تغيراً ذا طابع استراتيجي. والجزء المعاون الخارجي على هذا التغير، كان خلاصته تصاعد المواجهة السياسية بين الحكم وبين الغرب خصوصاً الولاياتالمتحدة. وقد كان لهذه التطورات جميعا تجليات واضحة في الادبيات الفكرية والسياسية للدولة ميثاق العمل الوطني مثلا وللشيوعيين بيانات حل تنظيماتهم. اما في الحالة الثانية مع الاخوان المسلمين فكانت المصالحة ايضا نتيجة تغير واضح في حركة الاختيارات السياسية وخصوماتها. ومن خلال اتجاه الدولة في عهد الرئيس انور السادات الى اعادة ترتيب وبناء الاولويات بعد حرب تشرين الاول اكتوبر 1973، حاصر السادات نفوذ قوى اليسار ناصريين وشيوعيين بالافراج عن "الاخوان المسلمين" بل وتسهيل بدء بناء تنظيمات الجماعات الاسلامية. وكان ذلك التغير احد تجليات توجهه السياسي الى اعادة الاراضي التي احتلتها اسرائيل، من خلال التعاون مع الغرب واميركا بصفة خاصة. وعلى جانب جماعة "الاخوان"، فقد رأت في ذلك سبيلا الى التخلص من الاسس السياسية والاقتصادية والثقافية لعهد عبد الناصر. وكانت لهذه التطورات جميعا تجليات واضحة في الادبيات الفكرية والسياسية للدولة ورقة المتغيرات السياسية وللاخوان المسلمين كتابات مرشدهم وقتها الشيخ عمر التلمساني. وبصرف النظر عن التطورات التي جرت بعد مضي سنوات على كل من هذه المصالحات، فالثابت حتى الان ان الظروف الموضوعية الحالية الذاتية والخارجية على جانبي الدولة والجماعات لم تشهد تحولات مغايرة. فالعنف المسلح هو الخطر الرئيسي الذي يواجه المجتمع وفق الحسابات السياسية المعلنة للدولة. والعنف المسلح ما زال عاملا اساسيا في حسابات الجماعات حتى وإن التزمت بايقافه. ذلك لانها لم تعلن عن اسقاطه بشكل مطلق كوسيلة لتحقيق اهدافها. مثلما انها من وجهة النظر الامنية المعلنة للدولة لم تبد اي اشارة ايجابية لالقاء السلاح وتسليمه واعلان نبذ العنف المسلح على اساس من التأصيل الفكري والسياسي معا. وأيا ما تكون عليه التطورات المقبلة فان حملة الجماعات الاعلامية التي سادها الارتباك والتضارب لم تنجح حتى الآن في فتح ثغرة في جدار العزلة التي طوقت الجماعات بسبب المشهد الرهيب لمذبحة الاقصر.