في باحة المدرسة السعيدية، في وسط مدينة مسقط التاريخية، لم يترك ذلك الشيخ العُماني الذي شارف على الثمانين مجالاً للتردد عندما سألناه إذا كان ينتخب امرأة لعضوية مجلس الشورى. إذ جاء الرد سلبياً قاطعاً. لكن ابنه الذي قاد خطوات أبيه إلى صندوق الانتخابات بعدما أكمل دروسه في الخارج وعاد إلى بلاده منذ سنوات حسم أمره بسرعة، مؤكداً أنه انتخب للتو امرأة. جيلان، بل عُمانان، في خطين يتقاطعان أحياناً ويتوازيان أحياناً أخرى، لكنهما، بالتأكيد، يقودان البلاد إلى نهضتها المنشودة، إنما بحذر وتمهل شديدين. هل كانت مجرد صدفة أن تكون المدرسة السعيدية في مسقط القديمة، أول مدرسة تأسست في السلطنة عام 1940، مركزاً انتخابياً تخوض فيه شكور الغماري أول امرأة عُمانية تدخل مجلس الشورى، معركة تجديد عضويتها في المجلس؟ بالطبع، كان ذلك مجرد صدفة، لكنها صدفة حملت أكثر من رمز ودلالة، في بلاد لا تخجل من الاعتراف بالعشائرية الراسخة في مجتمعها، ولا من المباهاة بجهودها الكبيرة لمواكبة العصر. ولعل مجلس الشورى أهم هذه الجهود، فمنذ انشائه في العام 1991 وهو لا يزال يتطور. فبعدما كانت عضويته مقتصرة على الرجال، فُتح الباب في فترته الثانية 1994 - 97 أمام مشاركة المرأة، إنما عن ولاية مسقط فقط، حيث فازت امرأتان. وفي فترته الثالثة توسعت مشاركة المرأة لتشمل جميع ولايات السلطنة، تحقيقاً لما وعد به السلطان قابوس، في خطابه الذي افتتح به الفترة الثانية للمجلس، من اعطاء المرأة حقها في الأدلاء بصوتها والترشيح لعضوية المجلس في كل المناطق بعدما نجحت التجربة في مسقط. أسباب تاريخية لكن توسيع مشاركة المرأة لم يُطبق على أرض الواقع، فمن أصل حوالى 763 مرشحاً لعضوية مجلس الشورى كانت هناك 27 امرأة فقط، ومن أصل 51 ألف ناخب مندوب واحد لكل 35 شخصاً بلغت نسبة النساء بين 10 و15 في المئة. ويعود سبب هذا الإحجام إلى طبيعة المجتمع العُماني، خصوصاً في الريف والمناطق الداخلية، حيث يسيطر الطابع الذكوري سيطرة تامة لأسباب تاريخية معروفة. إلا أن اللافت في الانتخابات العُمانية أنها فريدة لا تشبه غيرها. لا شكلاً ولا مضموناً، فمن حيث الشكل خلت الشوارع والساحات العامة من أي ملصقات. فلا صور للمرشحين والمرشحات ولا برامج انتخابية مطبوعة. كذلك غابت الحملة الانتخابية عن الصحف، وقيل في تفسير ذلك انه الحفاظ على البيئة، فشوارع مسقط النظيفة جداً لا تحتمل مواكب السيارات في مهرجانات تأييد لهذا المرشح أو ذاك، ومنازلها الناصعة البياض لا تحتمل ألواناً مزركشة وحبراً يلطخها. وقيل أيضاً ان المجتمع العُماني غير مولع بالمضارب والولائم الانتخابية، في غمز ولمز من بلدان عربية تعرف هذا النوع من الحملات الانتخابية، حيث تتحول الشكليات إلى أساسيات وبالعكس. إلا أن هناك من يقدم أسباباً أخرى لغياب الحملة الانتخابية، معتبراً أن مجرد السماح بها، مع ما يعنيه ذلك من شعارات وبرامج ومهرجانات وتحركات، سيهدد بتفجير مشاعر وأحقاد قبلية وعشائرية مكبوتة، وربما مناطقية، يضطرب معها حبل الأمن. لا تصدير ولا استيراد ولا يحلو للمسؤولين العُمانيين أن يقارنوا بين تجربتهم وتجارب أخرى في المنطقة، إذ ردّ وزير الداخلية العُماني علي بن حمود البوسيعدي على سؤال "الوسط" عن احتمالات انعكاسات مشاركة المرأة العُمانية في الانتخابات تصويتاً وترشيحاً، على دول مجلس التعاون الأخرى، خصوصاً مع وجود برلمان منتخب في إحدى هذه الدول لا تشارك فيه المرأة، بالقول إن "على الآخرين ان يستفيدوا إن أرادوا ذلك، فنحن لا نروج لاطروحاتنا والمسألة ترجع إلى أصحاب القرار في تلك الدول". وفي المقابل، قال الوزير العُماني إن بلاده "لا تستورد تجارب الآخرين وإنما تتصرف وفق رؤيتها الخاصة لواقعها المجتمعي"، لافتاً إلى أن التجربة العُمانية تملك فلسفة خاصة "بالتدرج المحسوب"، وهي سياسة خطها السلطان قابوس في كل الميادين. وعلى عكس ما يجري عادة في مثل هذه المناسبات، وربما تأكيداً لما يردده العُمانيون من أن تجربتهم لا تشبه غيرها، لم تحشد الدولة قواها المدنية والعسكرية، لتأمين سير الانتخابات، ففي ذلك الموعد الذي صادف يوم خميس لم يظهر شرطي أمام مركز انتخابي، ولم تحمل التقارير الاخبارية والأمنية أي إشارة إلى حادث، حتى في المناطق الداخلية. وبدت مسقط والمدن الأخرى، مثل صلالة ونزوى وصحار، كأنها تواصل حياتها العادية، ولولا بضعة رجال انتظموا في طابور أمام مركز انتخابي لما أمكن القول إن العُمانيين ينتخبون اليوم أعضاء مجلس الشورى. حتى ان عدداً من الوزراء، بينهم وزير الاعلام عبدالعزيز الرواس، غابوا عن وزاراتهم اثناء الانتخابات بسبب مرافقتهم السلطان قابوس في جولته السنوية التفقدية على مناطق البلاد، للاستماع إلى مطالب المواطنين وشكاويهم، والإقامة خلالها في ما يشبه المخيمات. وقد نشرت الصحف العُمانية صورة للسلطان وهو يستقبل القائد العام للقيادة المركزية الأميركية الفريق أول انطوني سي زيني مع السفيرة الأميركية في عُمان السيدة فرانسيس دي كوك، داخل خيمة وعلى كراسٍ من البلاستيك. سقوط المقارنات وعبثاً يحاول الآتي من بلاد أخرى ومن تجارب مختلفة ان يجد وجوهاً للشبه أو للمقارنة. فهنا في عُمان، مثلما في أي مجتمع شبيه بمجتمعها، تسقط المقارنات، وإذا توغل في الأرياف والمناطق النائية سيجد الأجوبة على كل التساؤلات، وسيدرك حجم اختلاف المجتمعات والمفاهيم، وسيتأكد ان الديموقراطية والليبرالية وحرية المرأة وحقوقها ليست حبوباً جاهزة تبتلعها المجتمعات المحافظة لتصحو في اليوم التالي وهي تمارس هذه الحقوق. لذلك يتمهل العُمانيون وهم يعرفون مثلاً أن نظامهم التعليمي عمره 27 عاماً فقط، وان الأمية كانت حتى الأمس القريب هي الطاغية، وان مجرد وصول امرأتين إلى عضوية مجلس الشورى هو انجاز بحد ذاته. من هذا المنطلق يركز العُمانيون على تجربتهم، لذلك سيطر توسيع مشاركة المرأة على كل مناطق البلاد على الانتخابات برمتها، ومع ان النتائج لم تسفر عن فوز أي امرأة خارج العاصمة، إلا أن مجرد ترشيحها كان حدثاً في البلاد، خصوصاً أنه جاء بعد صدور قانون الأحوال الشخصية في حزيران يونيو الماضي الذي اعتبر منصفاً للمرأة، خصوصاً في مسألة الزواج والطلاق، وما يتفرع عنها. واللافت في الانتخابات العُمانية أنها لا تنتهي باعلان النتائج وصدور مرسوم سلطاني بتسمية الأعضاء المختارين. ففي السلطنة مجلس آخر يسمى مجلس الدولة، وهو يشكل مع مجلس الشورى مجلس عُمان. ومجلس الدولة يختار السلطان اعضاءه، على شاكلة مجلس الأعيان في الأردن. لذلك مع اقتراب احتفال السلطنة بعيدها الوطني في 18 تشرين الثاني نوفمبر المقبل، تكثر التوقعات حول اختيار عدد من الذين لم يحالفهم الحظ في انتخابات مجلس الشورى ليكونوا أعضاء في مجلس الدولة، مما يحقق توازناً بين شريحة العشائر والقبائل ورجال الأعمال وبين القوى المثقفة التي لا تملك قاعدة شعبية تؤمن وصولها إلى مجلس الشورى. كذلك يحقق مجلس الدولة توازناً من نوع آخر مع مجلس الشورى الذي يركز اعضاؤه، بحكم انتماءاتهم المناطقية، على تأمين المصالح للولايات التي انتخبتهم، بينما أعضاء مجلس الدولة غير مدينين لأي انتماء عشائري أو مناطقي، بل لكفاءاتهم الشخصية فقط. وفي غمرة التوقعات السياسية ترتفع أسهم وزراء وتهبط أسهم وزراء آخرين، في بورصة التغيير الحكومي الذي يتردد ان مسقط ستشهده في فترة العيد الوطني. وترشح التكهنات أكثر من وزير للتقاعد السياسي أو "الاعتزال"، وتبادل حقائب بين وزراء، وانصراف وزراء إلى أعمالهم الخاصة فقط. لكنها تبقى تكهنات باعتبار ان الحكومة ليست مسؤولة إلا أمام السلطان، ولا يستطيع مجلس الشورى سحب الثقة منها، لأن ذلك ليس من صلاحياته. وتذهب التوقعات الى توزير عدد من المثقفين الشباب، فهناك شبه قناعة في أوساط الرأي العام العُماني بصعود تيار الشباب. ويقدمون في هذا المجال حججاً لتأكيد التوقعات، منها أن تقدم المرأة في الحياة السياسية لا بد وأن يترافق مع صعود الشباب، إذ لا يمكن أن تنال شريحة من المجتمع حقوقها بينما تبقى أخرى "مهضومة" الحقوق، فكيف إذا كانت هذه الشريحة "عصب" النهضة الحديثة للبلاد. لقد اتجهت عُمان إلى ديموقراطيتها الخاصة، لكنها لم تذهب إليها مباشرة ولم تختر أقصر الطرق، فجاءت العملية معقدة وصعبة بالنسبة إلى التجارب الأخرى في العالم، إذ لم يكن مفهوماً مغزى أو مبرر أن يسجل الناخب المندوب اسمه على ورقة الاقتراع، إلى جانب الأسماء التي اختارها لعضوية مجلس الشورى، فيسقط بذلك أحد أهم شروط ممارسة الديموقراطية، وهو سرية الاقتراع المرتبطة بالحرية. لكن مَن قال ان هذا الذي شهدته سلطنة عُمان أخيراً اسمه ديموقراطية على الطريقة الغربية؟! ألم يركز المسؤولون على أن السلطنة لا تستورد تجارب الآخرين، وان مجلس شوراها نابع من طبيعة مجتمعها؟ .