السجن والغرامة ل 6 مواطنين ارتكبوا جريمة احتيالٍ مالي واستعمال أوراق نقدية مقلدة والترويج لها    وزير الاستثمار: 1,238 مستثمرًا دوليًا يحصلون على الإقامة المميزة في المملكة    866 % نمو الامتياز التجاري خلال 3 سنوات.. والسياحة والمطاعم تتصدر الأنشطة    الجامعة العربية بيت العرب ورمز وحدتهم وحريصون على التنسيق الدائم معها    تحت رعاية ولي العهد.. انطلاق أعمال المؤتمر السنوي العالمي الثامن والعشرين للاستثمار في الرياض    مدير المنتخب السعودي يستقيل من منصبه    تعطل حركة السفر في بريطانيا مع استمرار تداعيات العاصفة بيرت    مسرحية كبسة وكمونيه .. مواقف كوميدية تعكس العلاقة الطيبة بين السعودية والسودان    بحضور وزير الثقافة.. روائع الأوركسترا السعودية تتألق في طوكيو    وزير الصناعة في رحاب هيئة الصحفيين بمكة المكرمة    جبل محجة الاثري في شملي حائل ..أيقونه تاريخية تلفت أنظار سواح العالم .!    أسعار النفط تستقر عند أعلى مستوى في أسبوعين    القيادة تهنئ رئيس جمهورية سورينام بذكرى استقلال بلاده    الأرصاد: انخفاض ملموس في درجات الحرارة على أجزاء من شمال ووسط المملكة    مدينة الأمير عبدالله بن جلوي الرياضية تستضيف ختام منافسات الدرفت    أمير الشرقية يفتتح أعمال مؤتمر الفن الإسلامي بنسخته الثانية في مركز "إثراء"    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    مذكرة تفاهم بين إمارة القصيم ومحمية تركي بن عبدالله    الاتحاد يخطف صدارة «روشن»    بركان دوكونو في إندونيسيا يقذف عمود رماد يصل إلى 3000 متر    «العقاري»: إيداع 1.19 مليار ريال لمستفيدي «سكني» في نوفمبر    16.8 % ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية في الربع الثالث    «التعليم»: السماح بنقل معلمي العقود المكانية داخل نطاق الإدارات    لندن تتصدر حوادث سرقات الهواتف المحمولة عالمياً    صفعة لتاريخ عمرو دياب.. معجب في مواجهة الهضبة «من يكسب» ؟    «الإحصاء» قرعت جرس الإنذار: 40 % ارتفاع معدلات السمنة.. و«طبيب أسرة» يحذر    5 فوائد رائعة لشاي الماتشا    «واتساب» يغير طريقة إظهار شريط التفاعلات    ترحيب عربي بقرار المحكمة الجنائية الصادر باعتقال نتنياهو    نهاية الطفرة الصينية !    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    اقتراحات لمرور جدة حول حالات الازدحام الخانقة    أمير نجران: القيادة حريصة على الاهتمام بقطاع التعليم    أمر ملكي بتعيين 125 عضواً بمرتبة مُلازم بالنيابة العامة    السودان.. في زمن النسيان    لبنان.. بين فيليب حبيب وهوكشتاين !    «كل البيعة خربانة»    مشاكل اللاعب السعودي!!    في الجولة الخامسة من دوري أبطال آسيا للنخبة.. الأهلي ضيفًا على العين.. والنصر على الغرافة    أسبوع الحرف اليدوية    مايك تايسون، وشجاعة السعي وراء ما تؤمن بأنه صحيح    ال«ثريد» من جديد    الأهل والأقارب أولاً    اطلعوا على مراحل طباعة المصحف الشريف.. ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة يزورون المواقع التاريخية    أمير المنطقة الشرقية يرعى ملتقى "الممارسات الوقفية 2024"    في الجولة 11 من دوري يلو.. ديربي ساخن في حائل.. والنجمة يواجه الحزم    مصر: انهيار صخري ينهي حياة 5 بمحافظة الوادي الجديد    انطلق بلا قيود    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين ونيابة عنه.. أمير الرياض يفتتح فعاليات المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة    مسؤولة سويدية تخاف من الموز    السلفية والسلفية المعاصرة    دمتم مترابطين مثل الجسد الواحد    شفاعة ⁧‫أمير الحدود الشمالية‬⁩ تُثمر عن عتق رقبة مواطن من القصاص    أمير الرياض يكلف الغملاس محافظا للمزاحمية    اكثر من مائة رياضيا يتنافسون في بطولة بادل بجازان    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"دار الافتاء" تنفي علاقتها وعلماء يعتبرونها "قضية زائفة" . زوبعة في فنجان تطرح مستقبل الحريات العامة في لبنان : الادعاء على مرسيل خليفة "نصيحة جاهل" أم مناورة سياسية غامضة ؟
نشر في الحياة يوم 30 - 09 - 1996

فاجأ النائب العام الاستئنافي في بيروت القاضي عبد الله بيطار الرأي العام اللبناني والعربي، يوم الأربعاء 18 أيلول سبتمبر، بالادّعاء على الفنّان مرسيل خليفة بتهمة "تحقير الشعائر الدينيّة"، لادائه قصيدة لمحمود درويش، بعنوان "أنا يوسف يا أبي" من أسطوانة "ركوة عرب"، 1995، أدخل عليها الشاعر آية من القرآن الكريم. ثمّ بادر رئيس الحكومة اللبنانيّة إلى طلب وقف ملاحقة الموسيقي والفنّان اللبناني، بعد يومين من اندلاع القضيّة كانا كافيين لانفجار غضب عارم في بيروت وخارجها.
سلّطت قضيّة مرسيل خليفة الضوء على معضلة أكبر، هي قضيّة الحريات العامة في لبنان، وتوالت شهادات التضامن والعرائض، وارتفعت الأصوات المحذّرة من "تعريب النظام اللبناني"، مع العلم أن "الاستثناء" اللبناني ليس إلا وهماً قائماً على توازن الطوائف، في كثير من الحالات. فهل يخفي الصراخ الذي علا في بيروت حرج المثقّفين الذين سكتوا ويسكتون عن تنازلات أكبر؟ هل ما جرى علامة على مزيد من التضييق على الحريّات في بيروت؟ كيف اتخذ النائب العام قراره، وانجرّ إلى موقف يجاري تيّار "المحافظة الراديكاليّة" بتعبير المفكّر الاسلامي رضوان السيّد؟ هل اكتفى باجتهاده الشخصي؟ أم اتكأ على مرجع لا يزال حتّى هذه اللحظة مجهولاً ومستتراً؟ مع العلم أن "دار الافتاء" نفت علمها بالقضيّة جملة وتفصيلاً! في مصلحة من تصب تلك الدعوى المتسرّعة التي سحبت بسرعة مدهشة؟ تلك الأسئلة وغيرها يطرحها تحقيق "الوسط"، متناولاً القضيّة من زاوية شاملة، هي مستقبل الحريات في بيروت، وطبيعة النظام اللبناني المنقسم إلى شوارع متقابلة وسلطات مختلفة، ومكانة دولة القانون وكيفية تدخلها في المجتمع...
وفي هذه الاثناء يواصل مرسيل خليفة جولته في الولايات المتحدة مع "الميادين"، تمهيداً لتقديم عمله "جدل" في القاهرة يوم 15 تشرين الثاني نوفمبر المقبل في القاهرة خلال أمسية موسيقيّة استثنائيّة تستضيفها "دار الأوبرا" المصريّة. ومن بوسطن وافانا الفنّان اللبناني بشهادة هي بعض مذكّرات رحلته الأميركيّة.
الدعوى "ليست بذات موضوع". هذا هو حكم السيد محمد حسن الأمين، القاضي الديني والأديب، على قضية مرسيل خليفة. أي أنّه يعتبرها - بعبارة أخرى - قضية زائفة. والأرجح أن معاوني رئيس الحكومة اللبنانيّة رفيق الحريري الذين نصحوه بالتدخّل لوقف تحريك دعوى الحقّ العام على المغنّي اللبناني، وجدوا هم أيضاً أن القضية "ليست بذات موضوع". على الرغم من ذلك كانت التهمة الموجّهة إليه مخيفة، نافرة: "تحقير الشعائر الدينيّة"! إن تهمة بهذه الخطورة يتبعها، بطبيعة الحال، ملاحقة وتحقيق جنائيان.
لحّن مرسيل خليفة وغنّى قصيدة محمود درويش "أنا يوسف يا أبي"، من مجموعته "ورد أقل" "دار توبقال للنشر"، الدار البيضاء - 1986، التي يستعير فيها قصة يوسف الصدّيق كمجاز للفلسطيني المعاصر، على الأرجح، ويرصّعها في الختام بآية كريمة من سورة يوسف: "إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين". وردت الأغنية في شريط صادر سنة 1995 في بيروت بعنوان "ركوة عرب". وتضمّن قصائد أخرى لطلال حيدر وجوزيف حرب ومحمد العبدالله... وحصل على إذن جهاز المراقبة في الأمن العام اللبناني.
والدعوى غريبة فالقصيدة لمحمود درويش، وترصيعها بآية قرآنية لا يجعل منها نصاً قرآنياً. هكذا رأى القاضي محمد حسن الأمين. وهذا هو رأي أستاذ الفلسفة والباحث في التراث الاسلامي رضوان السيد. فليست هذه المرة الأولى التي تستعار فيها آية لنص شعري، أو غير شعري. تستعار الآيات لخبر أو حديث عادي، وتستعار لقطعة نثرية أو شعرية. وقد استدعى ذلك عدداً كبيراً من الدراسات، خصوصاً أن عدداً من الآيات القرآنيّة الكريمة موزون أصلاً، ويتحول بسهولة فائقة إلى جزء من بيت شعري. يكفي النظر في مجلدات كتاب "الأغاني" الشهير لأبي الفرج الاصفهاني، لنجد أمثلة لا تحصى على هذه الاستعارة. من أمثلة ذلك استعارة الآية "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون". والخلاصة أن هذه الأبيات لحنت وغنيت ولم يخطر لأحد أن اللحن أو الغناء لنص قرآني.
"دعوى غير ذات موضوع"، اتضح ذلك لمستشاري رئيس الدولة وبعضهم ضليع بالتراث الاسلامي فنصحوه بسحبها. وهكذا كان. اختفت الدعوى في يومين، إلا أن هذين اليومين، بين رفعها وسحبها، كانا كافيين لانفجار غضب عارم أثار، في بيروت وخارجها، الكثير من الغبار.
تيار المحافظة الراديكالية
جرى العرف على عدم تلحين القرآن بموسيقى مصاحبة. أما الترتيل القرآني، أو التجويد، كما يذكّر المؤلف الموسيقي ومدير المعهد الموسيقي الوطني اللبناني وليد غلمية، ففي كنفه تعلم الملحنون والمطربون الكبار الذين بدأوا قارئين للقرآن، مثل سيد درويش.
أما نبيه الخطيب، المؤلف الموسيقي وقائد الفرقة الغنائية، فيرى في التلاوة القرآنية تجويداً بالصوت، تلحيناً فورياً. والمسألة عند الدكتور رضوان السيد موضع اختلاف: فالفرق الاسلامية التي لها امتداد صوفي، لا ترى حرجاً في شيء من الانشاد والترجيع في التلاوة القرآنية. فيما يتحرج الحنابلة ويؤثرون تلاوة "الحدر" السريعة الخالية تقريباً من الترجيع.
ويرى وليد غلمية أن اللحن ليس مسؤولاً، فلماذا يدان خليفة؟ الكلام هو المسؤول، واللحن يقوم احياناً مقام الوزن الذي يتفنن الشاعر في استعماله. لكن العهدة على الكلام والمعنى. "إن لحناً تراثياً كال "دلعونا" مثلاً - يقول غلميّة - يمكن أن يكون لنص ماجن، كما يمكنه أن يكون لغايات نبيلة سامية. والخلاصة أن محمود درويش ومارسيل خليفة فعلا ما سبقهما إليه العصر الأموي نفسه. والاعتراض عليهما لا يأتي من التراث، بل - بتعبير رضوان السيّد - من "تيارات المحافظة الراديكالية" التي ترفض أي صفة أدبية للنص القرآني، ولا ترى فيه سوى طبيعته القدسية.
لكن السؤال هو: كيف انجرّ النائب العام الاستئنافي في بيروت، القاضي عبدالله بيطار - وهو غير المسلم علاوةً على ما سبق - إلى موقف يجاري "المحافظة الراديكالية"؟ من طلب إليه ذلك؟ هل اختلط عليه الأمر فأعار أذناً مصغية، عن غير قصد، لداعية متشدد؟ وما هو سنده في مسألة كهذه، خصوصاً أن دار الافتاء تنفي علمها بالموضوع جملة وتفصيلاً؟...
تبقى هذه النقطة معلّقة. فالنائب العام لدى رفع الدعوى وسحبها بقي على صمته. والدعوى نفسها لم تستند إلى طلب أو توصية من "دار الافتاء"، كما كان الحال لدى منع "الروض العاطر في نزهة الخاطر" للامام النفزاوي، وهو من كلاسيكيات الايروسية العربيّة، أو منع كتب الصادق النيهوم المفكر الاسلامي ذي الاتجاه النقدي. هل اكتفى النائب العام باجتهاده الشخصي، أم اتكأ إلى مرجع، لا يزال حتى هذه اللحظة غائباً.
انتشار ظاهرة الحسبة؟
ذلك هو سر الدعوى التي رُفعت بقوة لافتة، واختفت بسرعة مدهشة. لكن اليومين الفاصلين بين رفعها وسحبها، اتسعا مع ذلك لمعركة صحفية وبدايات حملة قوية، ليس أقلها استفتاء جريدة "النهار" الذي شمل 17 أديباً ومفكراً وموسيقياً، عبّروا بصوت واحد عن خوفهم على الحريات الديموقراطية. وتخوف البعض من تسرب نظام الحسبة إلى بيروت، ومثله البشع التفريق بين نصر حامد أبو زيد وزوجته. وتخوف هؤلاء، بالدرجة نفسها، من "تسرب الهيمنة الأزهرية إلى المجال الثقافي اللبناني" على حدّ تعبير شوقي بزيع الذي سبق له استعمال آيات قرآنيّة في قصائده.
هذه المخاوف تعكس شعوراً بخصوصيّة النظام اللبناني وأفضليّته، من هذه الناحية، على سواه... وقلقاً من "تعريب" النظام اللبناني وفقدانه خاصيته الديموقراطية. ربط الجميع بطبيعة الحال بين الدعوى على مرسيل خليفة وما يتهدد الديموقراطية اللبنانية ويحاك ضدّها، خصوصاً بعد قانون الاعلام الذي يحصر البث التلفزيوني بخمس محطات، ثلاث منها مملوكة لرئيس الحكومة ونائب رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب!
لا شك طبعاً في أن للنظام اللبناني - الذي يتحول من هذه الناحية إلى بقايا - أفضلية على بقية الأنظمة العربية في ما يتعلق بحرية التعبير. لكن الأفضلية الديموقراطية مهددة، بل مريضة للغاية، بعد الوصاية الاقليمية والتمديد لرئيس الجمهورية خارج أي عرف، والعودة إلى نظام انتخابات متفاوت... وأخيراً قانون الاعلام. هكذا فإن خوف أكثر من مشارك في الاستفتاءات التي أجرتها الصحف اللبنانيّة، من "تعريب النظام"، في محلّه وبعض هؤلاء استعمل عبارات أكثر حدة. لكن ذلك ينبغي ألا يبتعد بنا إلى تعميم الأفضلية اللبنانية. فالأرجح أن لا أفضلية لبنانية على الاطلاق، في ظلّ نظام خاضع لسيطرة الهيئات الدينية وصلاحياتها.
أما التخوّف من تسرّب ظاهرة الحسبة وانتشارها، فغريب وفي غير مكانه. فمتولي الحسبة في هذه الحالة، أي النائب العام الاستئنافي، غير مسلم. في حين أن مثل تفريق نصر حامد أبو زيد عن زوجته ابتهال يونس، له ما يعادله في بيروت، إذ لجأت المحاكم الاسلامية إليه، في لبنان، من دون ضجة، فحكمت مثلاً بتفريق رجل عن زوجته بدعوى أنه لا يؤمن بنبوّة آدم! هذه حكاية مشهورة، ولا يقلل منها أن زوجة الرجل وأبناءه، وهم من الأحباش جماعة أصولية، هم الذين طلبوا التفريق.
كما أن توصية "دار الافتاء" بمنع كتب الصادق النيهوم نفذت فوراً، ولم تجد أي سلطة تسألها أو تراجعها. في حين أن الرئيس المصري، صرّح أن مصادرة الكتب لا تتمّ إلا بقرار من القضاء، أي أن قرارات الأزهر ليست لها صفة قانونية ملزمة في هذا المضمار. هذا الكلام قيل في مصر، حيث للأزهر كل السطوة التي نعرف. أما في لبنان، فلا تستطيع الدولة ولا القانون أن يتصديا للهيئات الدينية في هذا المجال، وكل اقتراح لها نافذ فوراً.
والسبب واضح. ففي مجتمع متعدد دينياً وطائفياً، لا تملك الدولة حق النيابة عن أي طائفة أو دين، وتترك للسلطة الدينية حرية كاملة وسلطة كاملة في كل ما تراه عائداً لها. صودر مثلاً كتاب الشيخ الجليل عبدالله العلايلي "أين الخطأ" من دون الاستناد إلى أي حكم صادر عن القضاء. ومُنعت مسرحية شكيب خوري "أرانب وقديسون" بتوصية من هيئة دينية، فلم تُعرض مجدّداً الاّ بتراجع الهيئة نفسها عن توصيتها.
حرج طائفي!
والحرج الطائفي يحول دون اجماع المثقفين والهيئات الثقافية على التصدي لقرار من هيئة دينية، يمنع كتاباً أو مسرحية أو أغنية. والحرج الطائفي نفسه، يجبر أيّ مواطن على الامتناع عن البحث في مسائل تخص غير دينه. كما أن البحث الديني من هذه الناحية، مغلق ومراقب، ويصعب تناول الأديان من وجهة تاريخية، أو أنتروبولوجية. لذا قلما نجد لبنانياً يدرس الاديان من هذه النواحي.
ليس للبنان إذاً أفضلية من هذه الناحية. بل ثمة تجنب طوعي خيّل معه إلى الجميع أن هناك أفضلية. والمفارقة أن الانظمة العسكرية، مثال "التعريب" الذي يتخوّف منه مثقّفو لبنان، حاسمة في اخضاع الهيئات الدينية للسلطة الحاكمة.
وكالعادة عندما تخضع جريدة لضغوط، أو يمنع أثر فكري أو ابداعي، تندلع في بيروت معركة الحريات. وكان يمكن لهذه الحساسيّة شبه المرضيّة، ولذلك الخوف الذي يقارب الهوس، أن يشكّلا صمّام أمان... لولا أن اندلاع معركة الديموقراطية عند كل "صغيرة" يخفي حقيقة أكثر مبعثاً للقلق، هي أن "الكبيرة" تمرّ بلا معركة! ففي بلد تقرّ فيه الصحافة، من دون أدنى حرج، أن القرار الفعلي لا يُبتّ في لبنان، ولا يناط بالحكم اللبناني أساساً، يبدو هذا الخوف الكبير من منع كتاب أو مسرحية أو أغنية، مرائياً. كأننا بالصراخ، عند كل منع من هذا النوع، نكفّر عن سكوتنا عن تنازلات أكبر. وإذا علمنا أن الضجيج يقلّ، كلما علت المسألة، وباتت تمس حدود العلاقات الاقليمية وحدود النظام اللبناني الجديد، فهمنا لماذا تتحول بيروت إلى بابل صاخبة في شؤون أصغر.
جاءت قضية مرسيل خليفة بعد انتخابات "كرنفاليّة"، لم يشك أحد في أن الضغط الاقليمي كان في أساس تكوين لوائحها وجمع مرشّحيها. ومع اندلاع معركة حرية الاعلام، بعد حصر ترخيص البث التلفزيوني بخمس محطات كما ذكرنا بعضها غير موجود أساساً حتّى الآن. وهي بقايا معركة أكثر منها معركة حقيقية، وقتال أثناء التراجع والانسحاب. لذا توسل الكثيرون في منع أغنية مرسيل معركة بديلة، للتعويض عن نقص والتكفير عن تقصير، على النحو الذي ذكرناه.
كان يمكن الكلام مجدداً عن خنق الحريات، لولا أن الرئيس الحريري بادر إلى سحب الدعوى. هكذا ضاعت القضية من ناحية، وبدا رئيس الوزراء حساساً لهذه المسألة، ومدافعاً عن الحريّات... الأمر الذي يجده السيد محمد حسن الامين مريباً، فيما يعتبره رضوان السيد تصحيحاً لهفوة، وقعت بنتيجة نصيحة جاهلة للنائب العام.
هل يعقل فعلاً أن يكون الأمر مجرد نصيحة جاهلة؟ إن القوة التي وسمت قرار المدّعي العام "تحقير الشعائر الدينية"، وطلب الملاحقة، أمران لا يمكنهما أن يصدرا فقط عن نصيحة جاهلة، بل يفترضان استناداً إلى مرجع متين.
سيناريو محتمل
قضية تفريق نصر حامد أبو زيد عن ابتهال يونس إن أعطتنا درساً، فهو أن المعركة ضد الارهاب الاصولي تقتضي في وجه منها - عن قصد أو غير قصد - قيام السلطة بالمزايدة على الأصوليين أنفسهم، ومجاراتهم في التشدد، وانتزاع صفة حماية الايمان والتشدد فيه... منهم.
مصادر "دار الافتاء" في لبنان انكرت صلتها بالمنع. كما أن كاسيت مرسيل خليفة في السوق منذ أكثر من سنة، ولم تعترض عليها أية جهة، أصولية أو غير أصوليّة. فلماذا كانت الدعوى؟ إذا كانت الدولة دخلت المعركة وحدها، فلعلّ في ذلك قدراً من المزايدة على السلطات الدينيّة، وعلى الجماعات الاصولية. فكأنّها تريد التأكيد على كونها حامية الايمان والساهرة عليه.
وإذا تذكرنا أن معركة الانتخابات خاضتها الدولة تحت شعار الاعتدال رئيس الدولة خاصة ضد التطرف الاسلامي حزب الله والجماعة الاسلامية والى حد ما الاحباش، بدا أن التشدد المفاجىء بعد انتصار رموز السلطة يخدم هذه المعركة. فها هي الدولة تقلب الطاولة على معارضيها المتطرفين. إنّها راعية الجهاد والمقاومة، وهي حامية الايمان الذي يعتبر المتطرفون أنفسهم قائمين على حمايته.
خاضت الدولة معركتها أيضاً رئيس مجلس النواب خصوصاً، ضد اليساريين. وكاد التطرف الاسلامي في الجنوب حزب الله يتحالف مع الشيوعيين واليساريين. هكذا فإنّ في اتهام رمز يساري كمارسيل خليفة ما يجدد اتهام الشيوعيين واليساريين بالكفر بل والمس بالقرآن. فيعبىء ضدهم، ويحرج الأصوليين الاسلاميين المتحالفين معهم، ويشير من طرف بعيد إلى ما في هذا التحالف من "خيانة" وزندقة.
هذا سيناريو بين سيناريوهات أخرى. لكن الدولة كانت وحدها في الميدان، واذا كان ثمة نصيحة جاهلة فهي التي أصغت إليها، وهي على كل حال لم تخسر، فإذا تعذر عليها أن تكون حامية الايمان، لم تخفق على الأقلّ في أن تكون حامية الحريات.
هذا سيناريو بين سيناريوهات أخرى. ليست عليه سوى دلائل "منطقية"، وإذا صح أم لم يصح فإن الامر مقلق. مقلق أن يكون القضاء اللبناني استند "إلى نصيحة جاهل" وأن يكون أولو الأمر، في دولة متعددة الطوائف متعددة الاديان، أصغوا إلى وجهة نظر متشددة في مذهب من المذاهب، أو دين من الأديان. مقلق أن تقع الدولة تحت هذا الابتزاز، فيما يفترض بها أن تكون ملتقى التعقل والاعتدال لشتى الطوائف والمذاهب. ومقلق أيضاً أن تنسى دولة القانون صفتها الجامعة المتعددة المتعالية على الجماعات، فتدخل مزاد جماعة من هذه الجماعات وطائفة من الطوائف. وليس أدل من هذا على تحولها إلى شوارع متقابلة وسلطات مختلفة.
وسواء نجت الدولة من هذا الامتحان أم لم تنجُ، فإن في مسألة كهذه - كما في مسائل أخرى لا تُحصى - ما يوحي بأن مكان الدولة، ونظامها، وكيفية تدخلها في المجتمع... أمور غامضة فعلاً في لبنان ولا تستند إلى قاعدة عقلانيّة ووضعيّة ثابتة.
اعتذار
الملفّ الذي نكرّسه لقضيّة مرسيل خليفة، على أثر قرار ملاحقته قضائيّاً في بيروت، ثم العودة عن هذا القرار، اضطرّنا إلى تأجيل المتابعة النقديّة الخاصة بعروض "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي" إلى العدد المقبل، فاقتضى الاعتذار.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.