كان الموسيقار اللبناني توفيق الباشا يعتبر أن الأغنية، مهما كان نوعها، ليست للّهو بل لأهداف إجتماعية وتربوية. على ذلك فإن"كل أغنية ذات قيمة إنسانية، تحكي عن الحب والعشق أو عن السياسة أو عن أي موضوع من صلب حياتنا اليومية، هي أغنية وطنية"، على ما يقول الفنان اللبناني أحمد قعبور. لكن الحاصل أن الأغنية الوطنية في لبنان التي ارتبطت بأسماء فنانين معيّنين كقعبور نفسه ومارسيل خليفة وسامي حواط وخالد الهبر وحنان مياس وآل الحافي وأسامة حلاق وغيرهم، صُنّفت على أنها سياسية. من هنا يعتقد الناس أن الأغنية الوطنية هي الأغنية السياسية فقط لا غير. ودرجت العادة في العالم العربي على ارتباط الأغنية الوطنية أو السياسية بالمأساة. فبات الملحنون والشعراء الذين يتسابقون على تقديم الأغاني الخفيفة التي لا تمتّ إلى الفن بشيء، يتسابقون أيضاً مع كل هزيمة وكل عدوان لتقديم أعمال مناسباتية بامتياز. إذ فجأة ومن دون سابق إنذار تتحوّل القنوات الفضائية من محطات متخصّصة بتقديم الأغنيات والفيديو كليب المعتمدة بالدرجة الأولى على الإغراء، إلى محطات"وطنية"تعرض فيديو كليب لأغان ترفض هذا العدوان أو ذاك. لكن سرعان ما تستنفد أرشيفها من هذه الأغاني التجارية المسماة وطنية، والتي يستغّل مؤدوها الظرف لئلا يجلسوا في بيوتهم بلا عمل. وهذا النوع من الأغاني المصوّرة أشبه بالتقرير الصحافي حول حدث مفاجئ، معياره السرعة في نقل الخبر! في المقابل، هناك في لبنان من يستمر في النضال لتقديم أغنية وطنية بكل ما للكلمة من معنى، من جيل قعبور وخليفة أو من جيل الشباب أمثال شربل روحانا وزياد سحاب. لكن هذه المبادرات تبقى فردية ويمكن اعتبار أصحابها مغامرين! ويعتبر معظم الناس ومنهم فنانون ومثقفون وسياسيون أن الأغنية الوطنية أو الوطنية السياسية ماتت، مع انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، أما نظراؤهم في مصر فأعلنوا وفاة الأغنية الوطنية مع وفاة جمال عبدالناصر. لكن هذا الإعلان المتشائم، جاء بعد رحلة طويلة من النضال الإنساني والفني لأسماء تسبقهم أعمالهم، كسيد درويش والشيخ إمام وعزة بلبع في مصر، وغيرهم من الأسماء اللبنانية التي ذكرناها والتي أسّست للأغنية الوطنية السياسية وفي الطليعة غازي مكداشي. لكن، لا بدّ من الإعتراف بأن حال الأغنية السياسية أو الوطنية لا يختلف كثيراً عن الأغنية الشعبية أو العاطفية الخفيفة. فالأخيرة أيضاً تعاني من مشكلات لسنا بصدد طرحها هنا. إلا أن الفارق أن شركات الإنتاج الفنية التي تستهدف الربح السريع، تدعم الأغنية الخفيفة وما تسميها شبابية أو شعبية. كما أن الرقابة الإيجابية طبعاً، والمحاسبة، على القيمة الفنية للأعمال المنتجة، غائبة عن النوعين أو المجالين. يبدو أن العناصر المسبّبة لهذا الإنهيار كثيرة، أهمها وسائل الإعلام المرئية والمسموعة التي تعمل، بقصد أو من دون قصد، على إحباط الأغنية الوطنية ذات القيمة الإنسانية، من خلال تغييبها. باعتبار أن هذا النوع من المواد الفنيّة الراقية، لا يجذب المعلنين وبالتالي لا يدرّ الأموال! كما أن الفنان الملتزم بالقيم الإنسانية واللحن الأصيل، يحتاج إلى دعم مادي ومعنوي، الأمر المفقود حالياً لدى الحكومات أو الأحزاب أو الأنظمة أو شركات الإنتاج التي تتحكّم بدورها، بأذواق الناس بعامة. أضف إلى ذلك، غياب القضايا العامة الموحِّدة، التي أنتجت في السابق أعمالاً وطنية، تعتبر ثروة حقيقية للأوطان. فحين لحّن سيد درويش في العام 1919"بلادي بلادي"و"قوم يا مصري"، وحين لحّن محمد عبدالوهاب"وطني الأكبر"، وسيد مكاوي"الدرس انتهى لمّوا الكراريس"، كانوا يعرفون جيّداً لمن يتوجّهون وأي عدوّ يواجهون، كما أن هذه الأغنيات لم تتوجّه الى المصريين من دون غيرهم من الشعوب العربية، فالشريحة التي توجّه إليها هؤلاء، شملت كل مواطن عربي يريد تحرير أرضه إن كان من الاستعمار الغربي أو من المحتلّ الإسرائيلي. كان الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين وقبله الاستعماران البريطاني والفرنسي للمنطقة العربية، من القضايا الكبرى الواحدة والموحّدة، ولم يكن يختلف اثنان على هوية عدو العرب. أما الآن وفي ظلّ تعدّد القضايا واشتداد الأزمات في الدولة الواحدة، واشتعال النيران من السودان إلى العراق، شُتّت التفاف الناس حول قضية بحدّ ذاتها. وبالتالي فكل شارع في البلاد العربية بات يحتاج إلى ملحّن وشاعر ومغن، للحضّ على التغيير من جهة والوقوف عند مشاعر المواطن العربي المنهار! ولا ننسى طبعاً، ظهور التيارات الإسلامية المتطرّفة بقوّة في السنوات العشر الأخيرة، وهي إجمالاً تُحرّم سماع معظم أنواع الموسيقى والأغاني، إن لم يكن كلها. في المقابل، قد تحتاج الأغنية الوطنية إلى نوع من التطوير يجاري التغيّرات والتحوّلات السياسية والإجتماعية والتكنولوجية. فلم يعد هدف الأغنية الوطنية بثّ الحماسة في المقاتلين على الجبهة، كما كانت الفكرة بدءاً من قرع الطبول وصوت النفير. بعد هذا العرض لحال الأغنية الوطنية الأشبه بعجوز يصارع المرض، كحال مجمل القضايا في الوطن العربي، ما زال هناك فنانون متفائلون يراهنون على استمرارية أعمالهم. وأيضاً فنانون يُنتجون نوعاً جديداً من الموسيقى التي يعتبرونها وطنية بامتياز. أحمد قعبور ووليد غلمية مثالان على فنان مؤمن بعمله ويراهن على تطوّره. وهنا أجوبتهما حول حال الأغنية الوطنية وانتقاداتهما، في هذا العام بالذات الذي كثرت فيه الأغاني عن الوطن، تحت نيران الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز يوليو الماضي، وفي ظلّ انقسام البلد بين معارضة وموالاة. غلمية: ما زلنا في عصر الخطابة! يرى الناقد والمسرحي اللبناني عبيدو باشا في كتابه"ذاكرة الأغنية السياسية"، أن"الأغنية الوطنية السياسية في لبنان عبّرت عن تداخل اجتماعي ببعض القوى والأحزاب الوطنية والتقدّمية اللبنانية إضافة إلى المقاومة الفلسطينية، في السبعينات. فحضنتها إذ وجدت فيها هامشاً واسعاً لإقامة علاقة بجماهير متعطّشة للتغيير". وليد غلمية لحّن آنذاك قصيدة"ما همّ أن نموت في دوي صرخة الحرب"من كلمات تشي غيفارا، جاءت في مسرحية قدّمتها فرقة محترف بيروت للمسرح. غير أن الأغنية السياسية في السبعينات والثمانينات لم تلبث أن صارت من محاور رغبات التجديد، تساهم في نفض الغبار عن الواقع الذي علق بالحياة الثقافية وجعلها أسيرة تكرار الماضي. أما الآن ومع تدهور حال الأغنية في شكل عام كما ذكرنا، ومع تعدّد القضايا الوطنية واختلافها، صار لكل حزب أو قضية أو ما يُسمى قضية سياسية، مطربها أو منشدها الخاص. لدرجة أنه صار لكل تظاهرة أو اعتصام أغان خاصة، تُنتج بأسرع من البرق. هذا الوضع بدأ يحيط من يدأب على إنتاج أنواع راقية من الموسيقى كرئيس المعهد الوطني للموسيقى وليد غلمية الذي أسّس الأوركسترا السيمفونية اللبنانية. فهو يرى أن الأغنية المسماة وطنية اليوم،"تنضح بهمجية وتخلّف وتسيّب، لا إبداع فيها ولا ذوق، سواء من ناحية الموسيقى أم من ناحية النص". يصفها على أنها"صراخ بصراخ، وفيها من العبث ما يُقرف". باعتبار أن"الأغنية الوطنية هي التي تربي الإنسان من مولده إلى مماته وتكسبه قيماً إجتماعية رزينة". ويرى غلمية أن"كل إنسان ينفعل مع الأغاني التي تغزو الأسواق، هو متخلّف فكري وذوقي وثقافي، لأنها دون مستوى الأمية". من المسؤول عن هذا التخلّف؟ يؤكد غلميّة أن"هذا الإنحطاط بدأ مع ترويج الإذاعات والتلفزيونات للأغاني اللاأغاني المصنّفة بالشعبية"، موضحاً أن"وسائل الإعلام ساهمت في سقوط الذوق من خلال الترويج لهذا النوع من الأعمال الموسيقية الغرائزية". واعتبر أن"العمل الإبداعي يجب أن ينتقل من الغرائزية إلى الذهنية ليتطوّر ويصبح ذا قيمة فنيّة عالية، فلا يجوز حشر الوطن في هذه الزاوية الغرائزية وإلغاء تاريخه السابق والحالي واللاحق". وتساءل غلميّة: كيف توجد في لبنان أغان وطنية يُغنّيها مثلاً الأصولي واليساري واليميني في الوقت ذاته، وكل منهم يرى فيها معنى خاصاً به؟ وأوضح أن هذه النتيجة تعني أن هذه الأغاني مشغولة من دون لون ولا طعم ولا هدف، هي أعمال أنتجت بهدف إستغلال حال سياسية معيّنة. وفي ما يتعلّق بالتصنيفات والتوصيفات، يرى أنه ليس مطلوباً من الأغنية أن تكون سياسية أو حماسية حتى تصبح وطنية، موضحاً أن كل عمل مبدع هو عمل وطني بحدّ ذاته، ضارباً المثل بمواويل وديع الصافي التي فيها من الوطنية ما يفوق أي أغنية حماسية أخرى. يرفض غلميّة فكرة الرقابة على الفنّ، لكنه يعترف أنه لا بدّ من وجود مصفاة، ويوكل هذه المهمّة لوسائل الإعلام وللمجلس الوطني للإعلام، مشيراً إلى أن نقابة الفنانين لا يمكنها القيام بدور الرقيب وإن من الناحية الإيجابية"فهي غارقة في هموم مختلفة". يعتبر غلميّة أن المعرفة مصدر كل عمل في حياتنا اليومية، سياسياً أو فنياً أو اجتماعياً، مشيراً الى أن الحاصل في بلادنا هو العكس تماماً، إذ تتحكّم السياسة بكل شيء. وأكد أن"العالم العربي ما زال في عصر الخطابة، الفنانون هم خطباء يُجيّشون الشعب، لكن عندما ينتهي الخطيب من الكلام تنتهي حماستنا"... قعبور: الفن تحوّل مطية للإستهلاك أحمد قعبور من الفنانين القلّة الذين يراهنون على وجود أغنية وطنية لبنانية. فما زال صاحب أغنية"أناديكم"و"يا رايح صوب بلادي"و"شوارع المدينة"يحارب عكس التيار من أجل انتصار قيمة الفن. بالنسبة اليه الأوطان"هم الناس الذين نحبّهم، وأحلامنا التي نطمح الى تحقيقها وتلامذة المدرسة، وبائعو الخضار. لهم نغنّي ومنهم نستوحي كلماتنا وألحاننا". ويرى إنه من الظلم تصنيف الأغنية الوطنية على أنها أغنية تُعنى بالحرب والأزمات السياسية والإقتتال، مؤكداً أن"ما يُحدّد قيمة أية أغنية مهما كان نوعها هو قيمة عناصرها الفنية الأساسية، قيمة القصيدة واللحن والتوزيع والأداء، وعمق المعنى الإنساني". وأشار إلى أن الأغنية الوطنية هي التي تستعيد قيمة الحياة والفرح والحبّ وتتمتّع بقيمة فنيّة بحدّ ذاتها، وليست كلام لافتات وشعارات، كما يحصل اليوم بأناشيد الأحزاب اللبنانية، التي شبّهها بالفطر المعلّب سرعان ما يفسد. ويراهن قعبور على الوقت كغربال يكشف مدى صدقية هذه الأغاني. وحول تحوّل الأغنية الوطنية إلى أغنية مناسباتية، يرى قعبور أنه"كما أصبح الفن والحب والجنس مطية للإستهلاك، كذلك الوطن ومناسباته"، مشيراً إلى أن هذا النوع من الإستغلال في لبنان"ليس جديداً ويتعلّق بتحوّل شركات الإنتاج من فنية إلى تجارية الى درجة تعهير الفنّ وبالتالي تعهير الوطن". وقال إن الأغنية الوطنية بدت في الآونة الأخيرة، تجارة رابحة وفرصة للإنقضاض على مكان الضوء حيث الكاميرات والإعلام. وحول المشاكل التي يعانيها الفنان الملتزم مع شركات الإنتاج، اعتبر أن على المبدع أن يجرؤ على قول ما قاله الشاعر السوري محمد الماغوط"أنا أكتب ما أريد التعبير عنه ولا أكتب للمجتمع"، بمعنى أن معادلة العلاقة بين المنتج الفني والجمهور ليست علاقة عرض وطلب. وقال"لذلك يمكنني أن أنتج عملاً فنياً أو أدبياً أرضي هذا الجمهور ولكن لا أرضي نفسي، وهذا هو مقياس الصدقية الأدبية والفنية"، مفيداً أن"العمل الفني والأدبي هو عمل ذاتي بالدرجة الأولى، وبقدر ما تكون هذه الذات متفاعلة مع الآخرين بقدر ما يصل الإنتاج بصدق إلى الناس". لكن، هل يُعتبر الفنان من أمثال قعبور الذي ما زال يُنتج أغاني وطنية مغامراً؟. يعترف قعبور أنه فعلاً مغامر بحقّ نفسه وبحق زوجته وأولاده، كونه ما زال يُنفق من أمواله الخاصة التي يجمعها من تلحين الإعلانات التجارية التي امتنع عنها طوال مسيرة حياته، لإنتاج أعمال ذات قيمة إنسانية وفنيّة ترضيه. لكن، لماذا لا يتعامل الفنان الملتزم مع شركات الإنتاج الموجودة والتي تحترف التسويق والترويج، فتحوّل أي شخص من صعلوك إلى عملاق؟ يردّ قعبور قائلاً:"إنها لا تشبهني وليس لي مكان فيها، فهي تملي على الملحّن شروطاً سخيفة لا تتناسب مع تفكيري وقناعاتي الفنية". غابت الأغنية لأن الالتزام بالقضايا العامة أصبح ضعيفاً. أصبح الإنسان يفتّش عن حضوره وعن فرديته وعن لقمة عيشه. تغيب الأغنية السياسية اليوم في غياب القضية السياسية الوطنية الموحّدة وفي غياب القوى الحاضنة، وغياب الأفق والتطلعات. لذا أصبحت أغنية بلا دعم ولا داعم. لذلك ستبقى الأغنية السياسية رهن اللاراهن، كحال لبنان الآن. رهن المستقبل الآتي المنظور وغير المنظور. قد يتأخّر لكنه سيأتي.