من السابق لأوانه تحديد الأولويات التي سيعتمدها رئيس الحكومة التركي نجم الدين أربكان في صياغة علاقات بلاده بدول المنطقة. هل تكون الأفضلية لإيران والعراق وسورية وغيرها من الدول العربية والاسلامية وغيرها من الدول العربية والاسلامية ام لإسرائيل؟ المؤشرات حتى الآن متعارضة احياناً ومتوازية احياناً اخرى. تراجع اربكان عن معارضته توقيع اتفاقات عسكرية وأمنية اخرى مع اسرائيل التي ستوفد مسؤولاً من وزارة الدفاع لتوقيع اتفاق جديد لصيانة الطائرات التركية "فانتوم" الاميركية الصنع، في خطوة تثير قلق واشنطن. التقرير الذي تنشره "الوسط" يكشف معلومات جديدة لم تنشر عما دار في المحادثات بين مسؤولين أتراك واسرائيليين عشية توقيع الاتفاق العسكري بين البلدين، وتلقي اضواء على حقيقة مضمونه الاستراتيجي. الاتفاقات بين الدول كالطائرات، لكل منها "صندوق أسود" يرجع اليه المعنيون عند الحاجة لحل اي لغز او التباس. ففي الطائرة، يسجل صندوقها الاسود احداث الدقائق الاخيرة في قمرة القيادة وحوارات طاقمها وتحركات أنظمة التحكم فيها. اما في الاتفاقات فإن محاضر الجلسات المغلقة قبل التوقيع تعد بمثابة صندوق اسود هو المرجع لتوضيح اي التباس يثيره احد اطراف الاتفاق عند تنفيذه. ولا تزال التباسات الاتفاق العسكري الاسرائيلي - التركي كثيرة. وعزز الشكوك في خفايا صندوقه الاسود، نشر الصحافة التركية "نص الاتفاق" الذي سربته دوائر في انقرة بهدف طمأنة دول الجوار. لكن النص، بخلاف الهدف، كشف مفاجأة إذ اتضح ان ما نشر ليس سوى عرض او "ملخص" انتقائي للنص الحقيقي. ومن أمثلة ذلك، ان المادة الخاصة ب "تغيير الاتفاق" أحالت الطرف الراغب في ذلك، على "احكام المادة 20" التي لا وجود لها في النص الانتقائي الذي نشرته صحف عدة - منها عربية - مترجماً عن التركية نقلاً عن صحيفة "اكسيون" العمل التركية في 18 ايار مايو الماضي. علماً بأن النص الكامل حرر في نسختين بالانكليزية وتضمن 21 مادة. ومن المواد غير المنشورة، المادة 19 التي تنص على ان مراجعة التنفيذ تتم بالاتصال المباشر مع هيئة الاركان العامة لجمهورية تركيا على الهاتف الرقم 4250642-312-90-00 وهو رقم الفاكس ايضاً، ومع وزارة الدفاع الاسرائيلية على الهاتف الرقم 6976285-972-00. بينما تضمن النص الانتقائي المنشور 12 مادة فقط. أجهزة الكترونية وأنظمة مراقبة وقالت مصادر موثوق بها ل "الوسط"، ان خفايا "الصندوق الاسود" للاتفاق الذي وقع في العاشرة والنصف صباح 23 شباط فبراير 1996 في تل أبيب، اثر آخر محادثات مكثفة استمرت ثلاثة ايام، تفوق في اهميتها الاتفاق ذاته. ويذكر ان الاتفاق ينظم عمليات التدريب العسكري ومتابعة المناورات العسكرية وتبادل زيارة قواعد الطيران وموانئ حربية وتبادل محتويات الارشيفات العسكرية وبعض محتويات المتاحف العسكرية التاريخية. قبل ثلاثة ايام من توقيع الاتفاق، وصل الى تل ابيب وفد عسكري تركي برئاسة الجنرال تشويك بير نائب رئيس هيئة الاركان العامة التركية. وبدأت المحادثات الاخيرة المكثفة، بجلسة عقدت في 21 شباط مع رئيس الاركان الاسرائيلي آمنون شاحاك ومساعده ناتان فلنائي وايفري ديفيد المدير العام لوزارة الدفاع. وبدأ تشويك الجلسة بالحديث عن مشاكل الارهاب التي تواجهها كل من تركيا واسرائيل والاردن. وأعرب عن امله بتوقيع اتفاق بين الدول الثلاث لضمان مكافحة الارهاب. وهو الامر الذي رأى انه يحتاج ايضاً الى اتفاق ثلاثي بين هذه الدول في مجال الاستخبارات وتبادل المعلومات. وأوضح في هذا الخصوص ان حدود جنوبتركيا تعاني من عمليات الارهاب على يد حزب العمال الكردي. واتهم سورية بأنها تدرب "هؤلاء الارهابيين" في أراضيها وتساعدهم على التسلل الى الاراضي التركية، وتدعمهم بكل ما يحتاجون من مال وسلاح. وأشار الى ان اسرائيل تواجه مشاكل مماثلة على يد "حزب الله" في جنوبلبنان، وعلى يد حركة "حماس" التي يتسلل بعض عناصرها ايضاً عبر الحدود مع سورية. وأكد اهمية حماية حدود الدول الثلاث. وأشار الى إمكان الافادة من الخبرات الاسرائيلية في هذا الصدد. وذكر بأن تركيا تستعد لإنتاج طائرات هليكوبتر حربية بمعاونة الخبرات الاسرائيلية. وأوضح كل من شاحاك وفلنائي وديفيد في الجلسة، كل على حدة، ان المسار الحقيقي للتعاون العسكري ومكافحة الارهاب، يبدأ بالاتفاق بين تركيا واسرائيل، مع التأكيد على الحاجة الماسة الى الاردن طرفاً ثالثاً في التعاون. وابدى الجانب الاسرائيلي استعداده لإرسال فريق من الخبراء للبحث في هذا الموضوع مع عمان، وطرح نتائج ذلك لاحقاً، وتمنى الحصول على ايضاح واف عن المدى الذي يمكن ان تذهب اليه العلاقات بين تركيا وسورية. وشدد على اهمية معرفة موقف الجيش التركي ومصير الاتفاق بين الجانبين، اذا فاز حزب الرفاه الاسلامي في الانتخابات او حصوله على نسبة عالية من الاصوات تسمح بمشاركته في ائتلاف حكومي، مذكراً بأن المسألة نفسها طرحها سفير اسرائيل في انقرة، ولم يتلق جواباً كافياً. ونبه الى عدم وجود اتفاق في مجال الاستخبارات بين البلدين باستثناء التعاون في شأن الاجهزة التقنية للاستخبارات. وقال انه يمكن التوسع في مجال التعاون ليشمل بعض الانشطة المخابراتية. وأكد الجنرال التركي ان اي اتفاق تعقده بلاده مع دولة اخرى، هو اتفاق بين دولة ودولة. وان وجود حكومة تمثل حزباً او اكثر لا يعني عدم التزام الاتفاقات الموقعة، وان ذلك ينطبق على حزب الرفاه او اي حزب آخر. وأشار الى ان الديموقراطية في بلاده كفيلة بضمان ذلك وبالتالي لا مبرر للقلق او الخوف من اي احتمالات سلبية في هذا المجال. وأعرب عن أمله مجدداً بإمكان تسوية مسألة انضمام الاردن من خلال لجان الخبراء. وكرر الحديث عن حاجة تركيا الى تأمين حدودها الجنوبية مع سورية "لمنع الاعمال الارهابية وتسلل الارهابيين". وفي الجلسة نفسها 21 شباط 1996 في تل أبيب، وجه فلنائي مساعد رئيس الاركان الاسرائيلي سؤالاً الى الجنرال بير: "أليس على حدودكم اجهزة الكترونية للحماية والحراسة وأنظمة للمراقبة؟" وكان رده: "لقد اتخذنا بعض التدابير اللازمة، ولكن ليست لدينا اجهزة الكترونية في مجال مراقبة الحدود. ان لدينا اتفاقاً مع اميركا للافادة من نتائج اجهزتها في هذا المجال". وقال فلنائي: "اذا رغبتهم يمكننا ان نعرض لكم بعض الاجهزة والانظمة التي نستخدمها على الحدود مع لبنان. هذه الانظمة حافظت على نجاح حماية الحدود الى حد كبير". فيلم لمنتجات الدفاع جلسة اليوم التالي، 22 شباط 1996، حضرها اعضاء الوفدين أنفسهم بعدما انضم اليهم مدير التسويق في وزارة الدفاع الاسرائيلية. وبدأ الجنرال التركي موجهاً كلامه الى شاحاك طالباً المعاونة في شأن الاجهزة الالكترونية وأنظمة المراقبة، مقترحاً ارسال فريق اسرائيلي مجهز لتدريب الضباط والجنود الاتراك على الحدود لاستخدام هذه الاجهزة. وتدخل مدير التسويق الاسرائيلي موضحاً ان هذه الاجهزة هي أحدث ما انتجته بلاده، وان الولاياتالمتحدة استوردت بعضاً منها. وحققت نتائج ممتازة، على رغم انها لم تؤمن الحدود مع لبنان بنسبة 100 في المئة، وان نتائجها ستكون اقوى على الحدود التركية نظراً الى طبيعة هذه الحدود. وأوضح ان الجهاز الالكتروني للحراسة ونظام المراقبة تبلغ نفقته بين 350 ألف دولار و500 ألف لكل كيلومتر. وهنا، اقترح الجانب الاسرائيلي على الوفد التركي ان يشاهد عرضاً لفيلم تسجيلي لمنتجات وزارة الدفاع ومنها اجهزة الكترونية. وشمل العرض انظمة المراقبة وطائرات الاستطلاع التي تحلق من دون طيار، وعمليات بناء الطائرات وتحديثها، وتطوير صناعة الملابس المضادة للرصاص، وأنظمة الصواريخ المضادة للصواريخ ارض - ارض، وغيرها. وعلق الجنرال بير بعد العرض بقوله: "أظن ان هناك مجالات واسعة للتعاون بين البلدين. ان ما اراه مثير جداً للاعجاب". تعاون استراتيجي مفتوح الجلسة الثالثة للمحادثات عقدت صباح 23 شباط 1996، وكانت قصيرة وشبه احتفالية للتوقيع على الاتفاق. وبدا فيها الجنرال بير الذي وقع عن هيئة الاركان العامة التركية، قائلاً: "نحن نعيش الآن حدثاً تاريخياً، والاوضاع الحالية تحتم وجود تعاون واتفاق بين الدولتين". ورد ايفري ديفيد الذي وقع عن وزارة الدفاع الاسرائيلية: "حقاً، ان اليوم يوم تاريخي. واني اذكر هنا ان الطيارين التابعين لقواتنا الذين تدربوا مع الطيارين الاتراك قالوا لي ان ذلك التدريب كانت له اهمية كبيرة. وأظن ان ذلك فتح باباً جديداً في مجال التدريب. وسيساعد على فتح ابواب اخرى في مجالات متنوعة. ان الاتفاق الذي سنوقعه الآن سيؤدي الى تعاون استراتيجي بين دولتينا". وأضاف: "إن هذا الاتفاق ليس الاول بين دولتينا ولن يكون الاخير". وذكّر باتفاق برنامج تبادل تدريب ضباط القوات الجوية الذي وقع في 31 آذار مارس 1994 مع اتفاق "الأمن والسرية"، وباتفاق التبادل التجاري وزيادة الاستثمارات الذي وقع اثناء زيارة الرئيس سليمان ديميريل لاسرائيل. وأشار الى أهمية اتفاق التعاون في مجال صناعة الدفاع الذي تم التفاهم عليهم وسيوقع في الشهور المقبلة. وأعرب عن أمله في ان يزور رئيس الاركان التركي اسرائيل قريباً، منوهاً بأهمية الزيارة التي قام بها لاسرائيل قبل ذلك كل من قائد القوات الجوية وقائد القوات البحرية التركيين. وبعد انتهاء كلمة كل من الجانبين، وقع الاتفاق الذي تشير كل الدلائل والتداعيات، الى انه جرى في سياق اطار اوسع من حيث المضمون، ومن حيث احتمال توسيع المنضمين اليه. وبعدها ايضاً، بدأت تتصاعد الشكوك في خفاياه... وهي لم تهدأ بعد، والارجح انها لن تهدأ في المستقبل القريب.