"عندما أحتضن العود، أشعر أني امتداد لقرون ماضية، وأعزف بلغة تتجاوز عمري بأضعاف السنوات". هكذا يختصر الفنّان العراقي الشاب نصير شمّة تجربته كمؤلف موسيقي وكعازف عود، معتبراً أن هذه الآلة اداة حوار حضاري وتواصل بين الشعوب ووسيلة ارتقاء بالانسانيّة إلى مراتب سامية. والموسيقي الذي لقّبه النقد "حفيد زرياب"، فرض نفسه في وقت مبكّر على الساحة الموسيقيّة، وحقّق نجاحاً في أكثر من مدينة عربيّة وأوروبيّة. المحطّة البريطانيّة هذا الأسبوع. ينحني نصير شمّة محتضناً عوده ليخبرك أن عازفاً سومرياً تقمصه منذ سنواته الأولى... تستمع إليه، فتشعر أنّك أمام موهبة فذّة، وفنّان متحدّر من حضارة عريقة. فالموسيقي الذي كرّسه النقّاد عازفاً فذّاً ومؤلّفاً مبدعاً، وبايعته الجماهير سلطاناً على العود، يعتبر وريثاً شرعيّاً لثراء العراق الحضاري ولتراثه الموسيقي العريق. وهو عبر مسيرته الفنيّة الحافلة بالانجازات تخرّج من "معهد الدراسات العليا" في بغداد سنة 1986، عرف كيف يجدّد التراث الموسيقي جامعاً بين أجواء الطرب ومناخات التأمّل. كما عرف كيف يخاطب أسماع الناس وقلوبهم وعقولهم بإداء هو الأصالة على تجدّد وانفتاح، ناقلاً المقام من قفص التقاسيم المرتجلة إلى فضاء البناء السيمفوني، مع الاحتفاظ بنكهته الشرقيّة. المتنبي يحاور السياب. صوت الماء ووشوشة الرمال. رقصة الفرس. صلوات بابلية. قصص الحب العربية... كأن كلّ مقطوعة من مقطوعاته مفعمة بالحنين إلى مكان وزمان مطلقين. حيثما عزف نصير شمّة، من باريس وبروكسيل وبرلين وغوتبرغ وتركيا واليونان وسويسرا وايطاليا والبرتغال، مروراً ببغداد - قبل أن يهجرها - وتونس والمغرب والأردن... كان اللقاء استثنائيّاً. تجربته تجاوزت عمره ولد سنة 1963 في مدينة الكوت لكنه ما زال يتساءل كيف يتّسع العمر لبدايات جديدة. وحفيد زرياب يحيي أمسية موسيقيّة في لندن مساء الثاني عشر من تمّوز يوليو الجاري، في قاعة "كينسنغتون تاون هول الكبرى" بدعوة من النادي العربي في بريطانيا. قبل سفره إلى مدينة الضباب، إلتقيناه في تونس حيث يقيم وكان هذا الحوار. ما الذي دفعك إلى الموسيقى؟ - عندما رأيت معلم النشيد مع عوده للمرّة الأولى، شعرت بأن شيئاً ما تغيّر في حياتي. كنت أنتظر فرصة ما بين الحصتين كي أدخل غرفة الصف لأداعب العود وأوتاره. لم أكن أجيد العزف طبعاً، لكنّني رحت منذ ذلك الحين أتدرب على العود خلال العطل الصيفية. ثم تابعت دورات موسيقية تحت اشراف أستاذي حسين الناموس تعلمت فيها أسس العود. ومنذ سنة 1977، أصبح العود يدي الثالثة، وأصبحت أنا يده الأصلية. كنت أستيقظ أحياناً فجراً وأعزف. وبعد 10 سنوات من العمل المتواصل، على ايقاع 12 ساعة تمرين يوميّاً ، أصبح يعطيني ويحقق كل ما أنتظره منه أمام الجمهور بشكل مرتجل. وكلما أعطيته من وقتي ومن روحي أعطاني هو من أسراره. أحياناً أتمنى لو تمكنت من الحياة مرتين علني أمتلك أدق أسرار العود. تربطك بهذه الآلة علاقة غريبة تتجاوز حدود المكان والزمان... - العود ابتكار أكدي. ولد مع معلمين كبار في سومر وبابل. وهناك أساتذة وصناع مهرة للعود اشتهرت بهم حضارة الآشوريين. ومنذ 2350 قبل الميلاد صار العود أرضاً خصبة لعازفي وصانعي آلات، بقيت بصماتهم متميزة في تاريخ الموسيقى. وعندما أحتضن العود اليوم، أشعر أني امتداد لكل هذه القرون. وأبقى صغيراً أمام ما تحتويه الآلة. وكلما أمعنت غوصاً أكتشف جهلي أكثر. لم أثأثّر بأحد بمن تأثرت؟ - منذ البداية حاولت ألا أشبه أحداً. درست أعمال جميل بشير وهو أعظم عازف عود على الاطلاق، وشقيق منير بشير ومعلّمه. درست أعمال سلمان شكر، كما درست أعمال أستاذهم جميعاً الشريف محي الدين حيدر. دخلت معهد الموسيقى سنة 1982، لكنني لم أعزف أمام الجمهور إلا عندما أحسست أن بوسعي الاتيان بشيء يختلف عن كل ما قدّم من قبل. هكذا انطلقت كعازف منفرد. كان طموحي أن أقدم أسلوباً خاصاً بي، وعندما كتب أحد النقّاد المرجعيّين "أن نجماً جديداً بزغ في سماء الموسيقى العراقية"، شعرت أنّي ولدت من جديد. ألم تتأثّر في البداية بمن تتلمذت عليهم؟ - على رغم اعجابي الكبير بجميل بشير، لم أترك سطوة هذا الاعجاب تؤثر على أعمالي. كذلك بالنسبة إلى الشريف محي الدين حيدر. حاولت أن أبدأ في المرحلة التي توقفوا فيها. وكان همي الأساسي أن أنطلق من تجربة أناس كبار وضعوا ودرسوا وقدموا. ما الأرث الذي تركه برأيك تلاميذ الشريف محي الدين حيدر؟ - جميل بشير وضع طريقة خاصة لآلة العود ودوّنها في كتاب، وكان له تلميذ رائع وهو جميل علي الإمام أستاذي في الموسيقى. كان مزيجاً من عازفين عدة، لكنه لم يتميز بأسلوب جديد. منير بشير لا يعمل إلا لنفسه، ولم يقدم إلا الارتجالات التي تبدأ مع العزف وتنتهي بنهايته. كأنني بك تريد أن تقول: "لستُ من هذا العالم!"... - هذا صحيح بشكل من الأشكال. أحس أنني أنتمي إلى الماضي البعيد، وكأني من زمن مضى. ربّما تقمّصني عازف سومري. عزفت مقطوعة صلاة بابلية، ومقطوعة من آشور إلى اشبيلية... داخل القاعة الآشورية في المتحف العراقي. أحسست بنداء صوت سومري، وكانت المدينة تحت الركام. قصدت مؤيد سعيد مدير المتحف العراقي. لأجد كل محتويات المتحف مجمعة في صناديق خشبية. وبعدما أبلغته رغبتي، بذل هو والأصدقاء جهداً جباراً لمساعدتي لتقديم الحفلة. عزفت مقطوعة "آت من الماضي نحو المستقبل" في القاعة الرئيسية للمتحف. خلفي رمز الحكمة نابو وعلى يميني ويساري ثيران مجنحة يزن كل واحد منها 37 طناً وفي الوسط عرش العود ، وأمامي وخلفي حشود الناس. وهناك في تلك اللحظة أحسست انني سومري مئة في المئة. أعزف بلغة تتجاوز عمري بأضعاف السنوات. توقّف بعد النقّاد عند البعد "التصويري" والجانب "الروائي" لأعمالك الموسيقيّة. ألا تخشى أن يحدّ ذلك من قدرة مؤلّفاتك على تجاوز الاطار الحدثي؟ - كلا. فقصصي غير محددة، كما انّها متنوعة. في الوقت نفسه الذي وضعت "العامرية" 1988، ألّفت "قصة حب شرقية"، وخضت في موضوعات أخرى مختلفة تماماً. أنطلق غالباً في وضع ألحاني من سيناريو وهمي، قائم على حدث وشخصيّات ورموز. لديّ الآن عمل عن "مجزرة قانا"، كما وضعت أعمالاً عدّة عن فلسطين. عن الحب، عن المرأة والألفة، عن مشاعري تجاه الطبيعة. أستمدّ غالباً مادة وحيي من مطالعاتي، خصوصاً في مجال علم النفس. معزوفة "النورس" أهديتها إلى مظفر النواب وهي تحمل معنى الغربة. الغربة داخل الوطن وخارجه. إستوحيت عملي هذا إذاً، من شخصية الشاعر المنفي منذ سنوات طويلة. ومن جهة أخرى، هناك أسطوانة أصدرتها أخيراً، تضمّ مجموعة من المقامات يرجع تاريخها إلى ألف عام، وكانت تعتبر وسيلة لعلاج الصداع والتوتر وأوجاع المعدة... وأعمل منذ سنوات على مسيرة الحسين واستشهاده، وما علق في ذهني من حكايات الطفولة. ماذا قدّمت لك الاقامة في تونس من اضافات؟ - كانت لديّ خطة لنشر العود العراقي، ووضعت برنامجاً يشمل أجزاء من الوطن العربي. شاءت الظروف أن تكون البداية من تونس التي كانت أوّل من وجّه لي الدعوة لتدريس طريقتي، في "المعهد الأعلى للموسيقى". وما زلت آمل مواصلة التجربة في المغرب وسورية ولبنان ودول الخليج وصولاً إلى أوروبا. وجدت هنا جمهوراً متنوعاً يتعامل مع تجربتي بحساسية مرهفة. والجمهور التونسي خاص جداً وصعب المنال أحياناً. إذا لم يقتنع يغادر القاعة فوراً. وهذا ما يجعلني أشعر بالتحدّي والمسؤولية كبيرة، عندما أعزف منفرداً خصوصاً في الأماكن النائية. وبما أنّني أشعر بتجاوب الجمهور، أحاول ايصال أفضل ما لديّ كنوع من التواصل معه، فالعود آلة تخاطب حضارية. وأنا أعتبر أن اقامتي هنا في تونس محطّة مهمّة، وجزء من حياتي في الوطن الكبير. حوار المتنبّي والسيّاب... عزفت في أكثر من مدينة غربيّة، كيف يتمّ التواصل مع جمهور غير عربي؟ - عندما أبدأ بالعزف أنسى أين أنا ومع من؟ أصبح كأني في غيبوبة في منزلي وبجلابيتي العراقية. نادراً ما أرفع عينيّ. وإذا رفعتهما ورأيت التأثر في عيون المستمعين انطلق في نفحة جديدة. موسيقاي وليدة علامات الاستفهام التي تنبت فيّ، استرجاع لطفولة مشاكسة ترفض التسليم بالأمر الواقع. وهذه كلّها عناصر تواصل مع الانسان أينما كان. في باليرمو ايطاليا، عزفت 8 دقائق ضمن برنامج ضمّ موسيقيين من 18 بلداً أوروبياً ومتوسطياً. قدّمت مقطوعة بعنوان "حوار بين المتنبي والسياب"، وعلى رغم جهل الجمهور بالمتنبي والسياب، أوصلت اليه من خلال العزف ما كنت أود ايصاله. في اعتقادي أن موسيقانا العربية لم تصل إلى العالمية لأننا لم نستطع ان نفصل بين الغناء والموسيقى. ولو اهتم الفنّانون العرب أكثر بتراثنا الموسيقي العريق واستمرّوا في تطويره، لاختلفت الأمور. السماعيات والبشارف واللونغات تركية، أما نحن فليس لدينا إلا الغناء: الموشحات والقدود الحلبية والأندلسيات والمالوف... كانت الموسيقى في بابل تعبد، وأنا أنتمي إلى تلك النهضة البعيدة التي كانت فيها الثقافة سلطة روحية. ما علاقتك بالأغنية العربيّة الأصيلة؟ - علاقتي مع الأصوات ظرفية حسب فترات حياتي. أسمع دائماً أم كلثوم لأن هذا الصوت يتجاوز المنطق. عاشت مع عمالقة كبار وكتب عنها الكثير، لكن صوتها لم ينل حظّه من الدراسات العلميّة. كان يمكن ان تصل إلى الكون أجمع بما تملكه من امكانات. قد لا تجوز المقارنة، إلا أنني أعتبر إن صوت أم كلثوم نادر وفريد، يضاهي صوت أكبر مغنّيات الأوبرا. وحنجرة أم كلثوم، كحنجرة محمد عبدالوهاب، حنجرة مثقفة. لكن الفارق أن أداء هذا الأخير عقلاني، أما أم كلثوم فهي تضيف كل مرة في أدائها عذوبة ورقة وإحساساً كبيراً... وتبني كل مرة اضافة نوتة للنوتة الأخرى. أما عبدالحليم حافظ، فهو صاحب صوت كبرنا عليه. حاولت أن أقدم الحاناً مثل اغاني عبدالحليم تبكي لسماعها البنات. ترجمت أغاني أم كلثوم وعبدالحليم بطريقة ركّزت عندي الاحساس في الأداء. لكني ابتعدت منذ البداية عن طريقة تلحين الغناء. أسعى إلى أن يكون العزف هو الأداء. وأحاول أن أعقلن الموسيقى من دون أن أنسى أنّها روح طاغية قبل كلّ شيء. ومكانة الطرب في موسيقاك؟ - للطرب عندي معنى آخر يختلف عن ذاك المتعارف عليه. أفهم الطرب مقدرة على ترك بصمات، أثر عميق على روح الانسان. الطرب المستهلك يعيش اللحظات التي يقدّم فيها. أما أنا فهمّي الحقيقي الغوص في أعماق الانسان، وبلوغ آفاق السفر الداخلي والتأمل. الموسيقى الأصيلة تشرّع آفاق الوجود، وهي بحث دائم لدى الانسان عن انسانيته، واحتمالات الارتقاء بها عبر تجاوز الآني وحدود المادة.