كان وزير المال السوداني الراحل الشريف حسين الهندي أبرز قادة المعارضة التي ناهضت نظام الرئيس السابق جعفر نميري. وقد اختار الانحياز الى رافضي صيغة الانقلاب العسكري نظاماً لحكم البلاد، على رغم ان حليفه الرئيسي السيد الصادق المهدي اختار المصالحة مع نميري. وذات يوم عام 1983 رحل حسين الهندي في غرفة متواضعة في احد فنادق أثينا بعد حياة كرسها للسياسة ومحاولات اصلاح مسار الحكم والادارة في البلاد. وكان غيابه فاجعة كبرى لمؤيديه الكثيرين من اعضاء الحزب الاتحادي الديموقراطي، ولمئات الآلاف من السودانيين من مختلف مناطق البلاد الذين كان ينفق عليهم في صمت وصبر. وعندما تحقق ما يصبو اليه حسين الهندي العام 1985، بقيام انتفاضة شعبية عارمة اطاحت نظام نميري، برز اسم شقيقه الشريف زين العابدين الهندي 64 عاماً حلاً وسطاً بين من عرفوا قدرات الرجل، وأولئك الذين بقيت تشدهم أشواقهم الى الزعيم الراحل الذي بنى جبهة وطنية عريضة لمعارضة نميري ضمت الشيوعيين وحزب الأمة والاتحاديين والاخوان المسلمين. وبدا لبعض السودانيين - خطأ او صواباً - منذ الوهلة الاولى للحكم الديموقراطي الذي أطاحه انقلاب 30 حزيران يونيو 1989 ان زين العابدين الهندي اقرب الى دنيا الأدب والشعر منه الى المناكفات البرلمانية والارتباطات الحكومية. وسرعان ما تنادى المتحمسون له لتكليفه الأمانة العامة للحزب ريثما ينعقد مؤتمره العام لانتخاب هيئة قيادته. وعين الشريف زين العابدين نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للخارجية. وبدأ نائب رئيس الحكومة يتحدث عن عيوب الممارسة الديموقراطية التي رأى انها لم تحقق ولو النزر اليسير من تطلعات الذين اطاحوا نميري. وشيئاً فشيئاً صار الشريف زين العابدين يشعر بالضجر من مساوئ العمل السياسي الذي لم يكن لصيقاً به بدرجة كافية ابان حياة شقيقه. وأخذ يتغيب عن جلسات مجلس الوزراء. ويختفي من مكتبه في وزارة الخارجية تاركاً احياناً السفراء وأوراق اعتمادهم ورسائل خطية من رؤساء دولهم قيد الانتظار. وقبل اجهاز الفريق عمر البشير على النظام المنتخب، قرر الشريف زين العابدين ان يقاطع جلسات الجمعية التأسيسية البرلمان، بعدما بشّر بتداعي التجربة الديموقراطية الثالثة وأنذر النواب والأمة بدبيب اقدام العسكر، وذلك في اشهر خطبة شهدها البرلمان المنتخب. وكان يتحدث بصفته زعيماً للمعارضة بعدما انسحب حزبه من الائتلاف الحكومي مع الصادق المهدي الذي اختار ان يتحالف مع جبهة صهره الدكتور الترابي. وكان انذاره مفزعاً لمعظم السودانيين الذين يعشقون الديموقراطية ويحترفون السياسة الى جانب حرفهم التي يقتاتون منها، بل لقادة الحزبين الكبيرين اللذين اضطرا الى معاودة ائتلافهما لتخرج الجبهة الاسلامية القومية من الحكومة من بوابة "القصر الجمهوريش، ثم ما لبثت ان عادت بعدما وثبت من نافذة انقلابها العسكري. وبعد خروج الشريف زين العابدين من السودان اختار القاهرة منفى له، ما لبث ان نأى عن رئيس حزبه السيد محمد عثمان الميرغني اثر خلافات في شأن تنظيم الحزب وبناء مؤسساته، منتقداً عدم تمكن الحزب من عقد مؤتمره العام منذ انقلاب نميري في ايار يوليو 1969. وخاصم تجمع احزاب المعارضة السودانية مفضلاً الدعوة الى احياء الجبهة الوطنية التي ارسى دعائمها الشريف الراحل. وقرر ان يعتبر نفسه زعيماً لجناح حمل اسم الحزب نفسه مضيفاً اليه عبارة "الأمانة العامة". هكذا بقي مثيراً للجدل وسط السودانيين الذين اقترب منه بعضهم باعتباره مفكراً ورجلاً متواضعاً يبذل كل ما يسعه لخدمة القطاعات الشعبية القروية التي نشأ معها وأحبها، واعتمد تراثها واخيلتها وصورها الاجتماعية قالباً لقصائده التعبيرية الطويلة. ونأى عنه بعضهم وناصبوه العداء بعدما اعتبروه اخفق في تحمل عظم امانة الحكم والنيابة. وطفق سليل الاسرة الدينية الكبيرة يتفرج منذ سنوات على الخصومة المستمرة بين الحكومة التي تساندها الجبهة الاسلامية القومية والمعارضة التي تمسك بأنها تمثل السودانيين كافة ما عدا جماعة الدكتور حسن الترابي. وفجأة برز اسمه اثر اجتماعه عشية اختتام القمة العربية الاخيرة في القاهرة مع الرئيس عمر البشير وعدد من وزرائه. فأثار ذلك ثائرة المعارضين. وسارع التيار الرئيسي في الحزب الاتحادي الديموقراطي الذي يتزعمه السيد الميرغني في اصدار بيان وقعه نائبه الدكتور احمد السيد حمد، وصف الهندي بأنه "الأمين العام السابق" للحزب، واعتبر محادثاته مع الرئيس السوداني تصرفاً فردياً لا يمثل الحزب مطلقاً. وانطلق انصاره في القاهرة ولندن وعواصم خليجية اخرى يختصمون حول نيته في مواصلة الحوار مع البشير ونظامه، بين موافق ورافض وبدا كثيرون ممن عرفوه خائفين ان تنتهي مبادرته لمحاورة النظام الى لا شيء فيكون "أحرق نفسه". غير ان الشريف زين العابدين كعادته دائماً لا يفقد اعصابه، بل ينهمك في حماسة شديدة لشرح ما يقوله ويدعو اليه، ومع حرصه الى توجيه الانتقاد في كل اتجاه الا انه أشد حرصاً على عدم الدخول في مهاترات وتراشق مع خصومه. ورغم تقلبات السياسة السودانية وقتامة آفاقها، لا يزال الشريف زين العابدين متمسكاً بطروحاته التي ترك بسببها أرفع المناصب في الحزب والحكومة. "الوسط" وجهت اليه الأسئلة الساخنة في شأن مواقفه ومبادرته الأخيرة وحواره مع الفريق البشير وما يقال عن احتمال عودته الى السودان. * تصف نفسك انك الأمين العام للحزب الاتحادي الديموقراطي وتقول انك نهضت لاصلاح المؤسسة الحزبية. لكن الجناح الآخر في الحزب يقول انك أمين عام "سابق". كما ان كثيرين من أنصارك يقولون انهم فوجئوا باجتماعك وحوارك مع الفريق البشير... - هناك مفهومات كثيرة اذا لم توضّح فانها تثير بلبلة وضباباً شديدين. حزبنا ليس لديه رئيس، لأننا ببساطة لم ننتخب رئيساً بعد وفاة الرئيس اسماعيل الأزهري العام 1969. وخلال سنوات نظام ايار مايو الذي تزعمه الرئيس السابق جعفر نميري كنا نعيش شتاتاً. ولم يتسن لنا اللحاق بركب من سبقونا بمصالحة نميري العام 1977 الى الاعتناء ببنية احزابهم. لذلك لم يتمكن حزبنا من بناء هياكله، ولم يعقد مؤتمراً عاماً حتى اليوم. وبما ان معظم بناة الحزب من الرعيل الاول رحلوا عن دنيانا، فلن يضم شتاتنا الراهن سوى تكوين مؤسسة حزبية قادرة على حشد اعضاء الحزب حول برنامج موحد وواضح، ثم ينعقد بعد ذلك الممؤتمر العام للحزب. ولا يوجد خلاف بيننا وبين السيد محمد عثمان الميرغني سوى انه لم يفترض تلك الفرضية. * لم تجب عن السؤال. أنت أقدمت على خطوة خطيرة بحوارك مع البشير، لكنك لم تستشر فيها أحداً... - الحدث وقع فجأة، لكن كثيراً من المشاورات تجري بيننا الآن على صعيد داخلي، ولم نجد من يخالفنا، لأن المبادرة تهم جميع السودانيين وليس الاتحاديين وحدهم. ونحن نركز الآن على موضوعية المبادرة، وهل تعالج الوضع القائم حالياً في السودان أم لا. والحقيقة ان منطقنا يقول ان المعارضة الآن شراذم وجماعات، كل فئة محتفظة بكيانها الخاص يتحدثون عن تنسيق ولكنهم لا يصدرون اي قرار جماعي. أقصد قراراً يمس الوطن السوداني بكل ما فيه من اتجاهات وأحزاب. * ذكرت أخيراً انك لست "معارضاً"، وتفضل ان تصف نفسك بأنك "رافض". ماذا تعني تحديداً؟ - هناك طبعاً فارق لغوي بين اللفظين، واذا هدأت مشاعر من يسمعونني فسيجدون الفرق واضحاً. هل أقوى الرفض ام المعارضة؟ الرفض هو ان ترفض اي حكم عسكري قهري او ديكتاتوري مدني، وهو أمر ثابت في سياسة حزبنا، وقد بدأنا رفضنا منذ 25 أيار مايو 1969، وظل مستمراً وحيّاً حتى الآن. وهو رفض لهرم بُني في مايو وقمته تتمثل الآن في نظام الحكم في السودان. أما المعارضة فهي تفعيل لذلك الرفض، لكن هل يتحملها كيان جزئي ام يحملها الوطن كله؟ لقد كانت ثورة تشرين الاول اكتوبر 1964 وانتفاضة 1985 رفضاً وطنياً شاملاً شارك فيه كل السودانيين الذين تحول رفضهم معارضة أدت الى تغيير النظام. لذلك الرفض هو خطوة استراتيجية، والتكتيك الخاص به هو نوع من انواع المعارضة. * اذا كنت تدعو الى حوار أليس حرياً بحوارك هذا ان يكون بينك وبين السيد الميرغني ومن وقفوا معه ضد طروحاتك قبل ان يتحول حواراً مباشراً مع الفريق البشير؟ - صحيح، ذلك هو المفروض. لكن الخلاف بيننا داخل الحزب ليس موضوعياً لأن السيد الميرغني انفصل بادارة يمكن ان نعيدها الى حزب الشعب القديم، او نعتبرها ادارة طائفية بحتة، لأنها تجمع من المريدين اكثر منه تجمعاً سياسياً او وطنياً. لذلك لا أرى ان هناك مادة لخلاف موضوعي بيننا لنتحاور. لذلك لا بد من طرح هذا الأمر على الساحة الاتحادية العامة في السودان، والفيصل هم الجماهير الموجودة هناك. لكن الحوار بيننا وبين الفئات الاخرى، خصوصاً في حزب الأمة والكيانات السياسية الاخرى، مفتوح الى الآن. لأننا نعتقد ان القضية الوطنية ستجمع الناس في نسيج اجتماعي سياسي اقتصادي موحد كفيل بانقاذ بلادهم من الازمة الشاملة التي تتعرض لها. "الأمة" وكيان الانصار * حزب الأمة في الخارج يرفضك. وفي الداخل يقول رئيسه السيد الصادق المهدي ان الحكومة تستخدمك لشق المعارضة. عن اي حزب أمة تتحدث؟ - جمعتنا مع حزب الأمة سنوات من النضال والجهاد العسكري الذي سمي غزو المرتزقة تموز/ يوليو 1976. وهي علاقة حميمة ووطنية حتى كدنا ان نتوحد ككيان. كان ذلك أبان الجبهة الوطنية القديمة وكان معنا فيها الاخوان المسلمون والشيوعيون. حينما اتحدث عن حزب الأمة تجدني اتحدث عن أناس ربطت بيننا وبينهم آلام لا حصر لها وآمال لم تتحقق الى الآن. ولا تزال الصلة بيننا مستمرة وحيّة. * عن أي فئة في حزب الأمة تتحدث؟ - أتحدث عن كيان الأنصار. لأن الرؤية الاتحادية الحقيقية تعتبر مشاكل البلاد كلها من اختصاص كل مواطن في البلاد. أعني المشاكل التي عالجها الحزب في ائتلافه مع حزب الامة جناح الإمام الهادي المهدي وذلك بارساء قواعد الديموقراطية الحقة والتوجه السليم للسودان، وهي المبادئ التي لا زلنا نؤمن بها ونجاهد من اجل تحقيقها. الحركة التصحيحية القائمة في حزب الامة نعتبرها حركة حقيقية تمثل نداء وطنياً لمواطنين قرروا الانتقال من طريقة طائفية معينة الى انفتاح سياسي. ونحن نحترم كل الطرق الصوفية في بلادنا لكننا ضد التجاوز الطائفي على مجريات الامور السياسية هناك. * أنت نفسك تنتمي الى طائفة وبيت كبير، المسألة تبدو غير منطقية بهذه الطريقة. أين تضع نفسك اذن؟ - دعني أعود الى الفرق بين الرفض والمعارضة وأتساءل: ما هي الطائفة؟ أنا انتمي الى طريقة صوفية لا دخل لها بالعمل السياسي ولم يكن لها دخل في النسيج السياسي في السودان منذ نشأة الحركة الوطنية الحديثة في الاربعينات، وأنا احترم طريقتي جداً والتزم آدابها لكنها لا تتدخل في السياسة ولا اعتمد عليها في مسيرتي السياسية. لكني لا احترم الطوائف التي تنحرف بالمقاصد الاساسية الروحية الى اغراض مادية بحتة. * قلت اخيراً ان النظام وعدك بأن تدير حواراً مفتوحاً مع الجماهير؟ فيم ستحاورها؟ وهل تقصد جماهير حزبك أم جمهور المعارضة بوجه عام؟ - أنا اريد ان احاور الجماهير السودانية بوجه عام التي هي اليوم بمعزل عن الحكم في الداخل والمعارضة المدّعاة في الخارج المشتتة على شراذم مختلفة. الشعب السوداني بأسره يعيش اليوم بمعزل عن هذين الكيانين. اذن لا بد ان يسأل ليجيب: هل هو مع الحكومة وراض عنها؟ ام انه مع المعارضة وينتظرها ليتفاعل معها؟ - ان ادعاء اي فصيل سياسي في السودان او قائد طائفي بأن طائفته او فصيله سيصنعان معجزات في البلاد واهم وباطل، لأن الوطن الآن يتعرض لوضع يخرج من يد الحكومة والمعارضة على السواء. فهو في عزلة ويواجه احتمال فرض عقوبات وترابه اضحى مستباحاً لكل من استطاع حمل البندقية. لا أعتقد ان الحكومة سعت الى ارضائي، بل التقطت القفاز وقالت انها لا تمانع في المساهمة في مبادرتنا الرامية اصلاً الى جمع افراد الشعب السوداني على صعيد واحد ليقولوا رأياً واضحاً وموحداً في ما يريدونه لمستقبل بلادهم. نحن الآن نعاني ازمة وطنية. وكلنا مدعوون الى المساهمة في حلها باعتباراتنا الوطنية وليست الحزبية. نحن في بيت يتحطم وينتزع الآخرون ما بقي منه. الطلائع تقرر العودة * ذكر انك عائد الى السودان ثم صرحت بأنك تفضل ارسال "طلائع" الى الخرطوم قبل اقدامك على العودة. ما هي حقيقة موقفك من العودة؟ - الطلائع قسمان، احدهما سري لا يعلمه الا الله، وهم ناس يعرفون هذه الارض وشعبها. وهؤلاء ذهبوا الى السودان لنقل الرسالة. والآخر وفد رسمي معلن سيذهب الى السودان ليرى بنفسه هل ستتحمل الحكومة حواراً كالذي تحدثنا في شأنه أم لا. وهؤلاء مستعدون للتضحية حتى اذا اقتيدوا الى "بيوت الأشباح". بعد التقرير الذي سيرفعونه الينا اذا لزم الأمر فسأذهب، لأنه لا بد من خوض هذه التضحية بأي طريقة. وكل ذلك سببه ان الشعب السوداني ليس مع الحكومة ولا هو مع المعارضة، وهو ينتظر صوتاً عاقلاً حانياً حريصاً عليه وعلى ترابه. * يعني انت لست مع الحكم ولا المعارضة... - الحالمون الذين ينتظرون المعارضة من دون معرفة تفاصيلها، ومحاولاتها الهزيلة خارج الحدود، سيجدونها مدعاة للسخرية. كذلك اطلالة بسيطة على نوع الحكم الحالي ومجرياته في البلد تكشف انه مخالف لكل ما عرف من أنواع الحكم في البلاد. كلا الكيانين يقفان بمعزل عن الشعب. * ما هي آليات الحوار الذي تدعو اليه؟ وعلى أي مستوى سيتم؟ - نريده حواراً على كل المستويات في الخارج والداخل، وعلى الصعيدين الاقليمي والدولي حتى على مستوى الأممالمتحدة لتعرف شعوب العالم كلها ان تلك هي ارادة الشعب السوداني في التغيير وان ثوراته وانتفاضاته ليست ملكاً لقائد او لحزب. وهذه الارادة هي السبيل الى اعادة هيبة الشعب السوداني في نفوس الدول التي تقاطعه الآن. أما الآلية فتكون عبر المواطنين انفسهم. كل "زول" ينفتح على الآخرين والحوار لم يتوقف في اي يوم بين السودانيين. لكن الحيرة كانت أكبر، لأن الدعاية الزائفة من جانب المعارضة والسلطة كانت أكبر. * هل ينبغي ان يفضي حوارك هذا الى مشاركة في النظام الحالي؟ - هذا الأمر تحدده ارادة الشعب السوداني، وهو بالمناسبة شعب لا يمكن حكمه عسكرياً. ويظل طوال سنوات العسكر يتقلب بين الدفاع والهجوم حتى تكتب النهاية للعسكر. من المهم ان اقول لك انه لا يمكن ان يحكم ايضاً بالمرأى الاخير للديموقراطية الماضية التي كنت أنا جزءاً منها. لا بد له من ديموقراطية واعية وجديدة ومحددة، وبالعدل والمشاركة. ومبادرتنا ماضية حتى العقيد جون قرنق واريتريا وأثيوبيا وكينيا وتشاد وأوغندا. * ماضية حتى قرنق الى آخر ما ذكرت. ماذا تقصد؟ - لا بد ان يسأل قرنق: ماذا يريد؟ فهو مواطن سوداني لكنه يقاتل من اجل حق غامض. الحوار مع البشير * نُسب اليك قولك انك فوجئت بمقابلة البشير... - لا شك. * لكن صحف الحكومة والصحف المستقلة الموالية لها خصوصاً صحيفة "أخبار اليوم" قالت انك دعيت الى لقائه في منزل سفير السودان لدى القاهرة... - لا... البشير لم يزرني في منزلي. كنت اجلس في احد فنادق القاهرة، ولم يكن يخطر ببالي انه سيقابلني في غمرة مشغوليات القمة العربية التي جاءت به الى مصر. وحتى بعدما امتطيت سيارة احد الاخوان تلبية لدعوة كريمة منه لم أكن أعرف شيئاً عن وجهتنا. وعندما وجدت نفسي في حي المعادي عرفت اننا نقصد بيت السفير السوداني لأني كنت من سكان ذلك الحي وأعرف شعابه. وكنت مستغرباً مما يحدث. حتى انني قلت لمرافقي: نحن اختطفنا! ودخلنا منزل السفير ومكثنا قرابة ساعة ننتظر شيئاً لا أعلمه. وقلت للرجل الذي جئت معه انني اعتبر نفسي مسجوناً في أرض سودانية، على سبيل الدعابة. وفوجئت بالفريق البشير يدخل علينا. وقد استقبلني بعفوية سودانية اصيلة. وأقول هذا احقاقاً لحق ولن اجبن عن وصف الرجل بما يستحقه. ولا يعني ذلك انني ذهبت اليه طالباً مقابلته. وقد استقبلني كما يفعل السودانيون وقدم لي نفسه. ووجدنا انفسنا سودانيين عراة امام الحقيقة المتمثلة في اننا في مكان بعيد عن البلاد مما يقتضي مثل ذلك الاستقبال. * وماذا كان انطباعك عنه؟ - تحدثنا بلا قيود. ومن الاشياء المهمة انه نوه بدور الحزب الوطني الاتحادي مع ملاحظة اني اتحادي ديموقراطي، وهو بذلك كأنما يعني ان الاتحادي الديموقراطي توجد فيه الطوائف ولذلك رجع الى الوطني الاتحادي الخالي من الطائفة. وقال لي نحن كلنا من بيئات تربت في الحزب الوطني الاتحادي، ومنا من اتجه الى الجبهة الاسلامية القومية، ومنا من توجه يساراً فصار شيوعياً او اشتراكياً او قومياً. وتلك هي تفاصيل المجتمع السوداني التي اعرفها ربما قبل ان يولد البشير نفسه. كذلك قال لي ان الحكم ليس شغلنا ولذلك تعرضنا لأخطاء، وسبحان من لا يخطئ، ولذلك قلنا نرسي دعائم توجه معين ثم نعطي الخبز الى خبازيه. فتحدث حديثاً وطنياً، وليس حديث رئيس الى مرؤوس. وهكذا التقينا في مساحة التداعي الوطني العام الذي يشملنا جميعاً. لم يكن ثمة معنى لأن أرفض مقابلته أو أهرب من لقائه. وقد تحدثت معه في كل ما يقال وما حصل للسودان. واعتقد ان هناك مساحة يلتقي فيها كل الناس، ولا داعي للمبادرة بالعداوة من دون ان يعرفوا لماذا يتعادون؟ * ما حصل قد حصل... قل لي بصراحة اي نتيجة سيخرج بها الحوار الذي تنادي به؟ - الحوار نتيجته مجهولة, وقد يؤدي - يا أخي - الى اسقاط النظام، او الى مواجهة شعبية تعجز كل اسلحة النظام عن مواجهتها. وقد يؤدي الحوار الى تغيير الاسلوب الذي انتهجه النظام طوال السنوات السبع الماضية. وقد يسفر عن اعادة الهيبة الى الشعب السوداني في المحافل الدولية. قد يؤدي الى خصام او الى وئام. ونحن لا ننوي مطلقاً المشاركة في حكم. وقد قلت للرئيس البشير ان الحكام عندما يدخل وسطهم سياسي منتم الى حزب فهو يربكهم ويربك نفسه، لأنه لا يستطيع المضي في برنامج لم ينشأ عليه مرة ولا يعرف عنه شيئاً. ولذلك الحاكم يجب ان يتحمل الامانة والمسؤولية. والحكم يتلخص في ان الشعب السوداني يريد ان يأكل ويشرب ويعمل وينام مطمئناً ويستطيع إكرام ضيفه. هذه لو عملتموها فستبقون في الحكم ولن يضايقكم احد. وإذا لم تعملوا ذلك فلن تبقوا في السلطة. وإذا لم نعملها نحن فلن نبقى. وهذه تعمل بالآلية السودانية الجماعية لأنها مطلب كل الناس ما عدا طالبي الحكم، بالقوة كالحكومة الحالية او بالقوة ايضاً كالمعارضة الحالية. المعارضة تتوسل القبلية * مثير حقاً انك تدعو الى حوار وأنت ترفض محاورة الأقربين - أعني المعارضة السودانية المقيمة معك في القاهرة. ألا توافقني؟ - خاطبنا "التجمع الوطني الديموقراطي" العام 1989. في ذكرى الاستقلال، واعترضنا على التكوين الهيكلي للتجمع وانتقدناه بموضوعية، وقلنا ان فيه مسميات منتحلة انتحالاً، نقابات وأحزاباً. وفيه قيادات عليها ان تعتذر من الشعب السوداني الذي تعتقد انه نسي كثيراً مما اقترفته. وانتظرنا ردهم علينا لكنه لم يأت. وكل ما يمارسه التجمع طوال هذه السنوات انه يبحث عن هيكلية مريحة دون ان يجدها. حتى معسكراته التي اقامها انشأها باسم القبائل اليجا - الجنوبيون باستثناء قوات العميد عبدالعزيز خالد. * كثير من التجمعيين الذين تضايقهم انتقاداتك للتجمع يتهمونك بأنك على صلة وطيدة بالجبهة الاسلامية منذ بداية انقلابها... - هذه اسلحة العاجزين. بل رموني بتهمة انني كنت على علم مسبق بوقوع الانتقلاب العسكري في 1989. الم تسمع بذلك؟ انها فرية. لو كانت لي بهم صلة أو دروب كما تقول لكنت بكل شجاعة تصرفت وفقاً لذلك. وكيف تكون لي معهم دروب وسكك وأنا معذب ومنفي بعيداً عن تراب وطني وأهلي وذكرياتي؟ * يشار في هذا الصدد مثلاً الى انك غادرت السودان مبكراً قبل الانقلاب، وذلك بعدما امتنعت عن حضور جلسات البرلمان. هذا "الحرد" اعتبره كثيرون مؤشراً الى موقفك... - لم أكن "حردانش، لكني انقطعت عن جلسات الجمعية التأسيسية البرلمان لأنها لم تكن تمثل الرفض المخزون ضد نظام نميري. وآل الأمر بالانتفاضة الى ان المايويين أنصار نميري أضحوا قادتها. وأنا أقول الآن ان الهرم المايوي يجلس على قمته نظام الجبهة الاسلامية القومية الحاكم حالياً. * خصومك، بل بعض مريديك، ينتقدونك دوماً بأنك أقرب الى الأدب منك الى السياسة، وحديثك دوماً أرفع من مستوى الجماهير التي تريد محاورتها. - هذا صحيح، فأنا أفضل الانزواء لأن الممارسات السياسية أضحت ملطخة بأشياء كثيرة ولم تعد فيها عفة ولا وطنية ولا شرف ولا قدوة صالحة. لذلك افضل لي الانزواء لئلا اختنق.