الديوان الملكي: وفاة صاحبة السمو الأميرة نورة بنت بندر بن محمد آل عبدالرحمن آل سعود    الجبران: مسلسل الزافر يعكس صراعات النفوذ والبقاء    أبرز العادات الرمضانية في بعض الدول العربية والإسلامية.. دولة السودان    رئيس الوزراء المصري والأمير عبدالعزيز بن طلال يشهدان توقيع بروتوكول تعاون تعليمي للطفولة المبكرة    مبادرة اليوم العالمي لمتلازمة الداون    خلال مبادرة "شرقيتنا خضراء".. زراعة أكثر من 3 مليون و600 ألف زهرة 550 ألف شجرة في 18 حي    مرور المدينة المنورة يؤمن كافة الطرق المؤدية من وإلى المسجد النبوي الشريف    الإمارات و قطر ترحبان باستضافة المملكة محادثات بين أمريكا وأوكرانيا    ارتفاع أسعار الذهب وسط مخاوف الرسوم الجمركية وبيانات التضخم المتفائلة    خسوف كلي للقمر يشاهد من أجزاء من الوطن العربي    فرع هيئة الصحفيين بجازان يحتفي بيوم العلم السعودي بالتعاون مع فندق جازان ان    القيادة تهنئ رئيس موريشيوس بذكرى استقلال بلاده    الاتفاق يودع دوري أبطال الخليج    السعودية تستضيف "نخبة آسيا" الشهر المقبل في جدة    77 حالة اشتباه بتستر تجاري    موجز    بحضور عدد من قيادات التعليم.. انطلاق «قدرات» الرمضانية في جدة التاريخية    إدخال السرور على الأسر المتعففة.. «كسوة» تطلق سوقها الخيري الخامس    محافظ جدة يشارك أبناء وبنات شهداء الواجب حفل الإفطار    تعهد بملاحقة مرتكبي انتهاكات بحق وافدين.. العراق يعيد مواطنيه من «الهول» ويرمم «علاقات الجوار»    مشروع الأمير محمد بن سلمان يحافظ على هوية مسجد الجامع في ضباء    عناوينه وثّقت محطات مهمة في تاريخ المملكة.. الموت يغيب خوجه خطاط «البلاد» والعملة السعودية    «تعليم الطائف» يكرم المتأهلين لنهائي «إبداع 2025»    ضغوط تجاه «مقترح ويتكوف».. وتباين حول موقف «حماس».. الضبابية تخيم على «مفاوضات الدوحة»    المفتي ونائبه يتسلمان تقرير فرع الإفتاء بالشرقية    «السداسي العربي» يبحث مع ويتكوف خطة إعمار غزة.. ترامب يتراجع عن «التهجير»    وزير الخارجية يشارك في اجتماع بشأن فلسطين في الدوحة    التسليح النووي: سباق لا ينتهي نحو القوة والردع    عَلَمُنا.. ملحمتنا الوطنية    أمير القصيم يزور شرطة المنطقة ويشارك رجال الأمن مأدبة الإفطار    المملكة تدشّن مشاركتها في معرض لندن الدولي للكتاب    ملبوسات الأطفال في رمضان.. تعكس هوية الشمالية    إدانات دولية لجرائم الحرب الإسرائيلية    الرياض يهدد صدارة الاتحاد    الحرص على روافد المعرفة    الجنين.. ودودة العلق    رينارد يعلن قائمة الأخضر لمواجهتي الصين واليابان    السمات الشخصية المظلمة في بيئة العمل    السهر في رمضان.. تراجع إنتاجية العمل    فيصل بن مشعل يرفع العلم على سارية ميدان التوحيد    أمير الشرقية يكرّم شركاء التأهيل.. ويطمئن على المرضى    «الملك سلمان للإغاثة» يواصل أعماله ضمن مشروع سلة إطعام    الأهلي يهدد بالانسحاب من الدوري المصري    الأمن العام والدفاع المدني يشاركان في معرض «الداخلية»    سعود بن مشعل يشهد «ليلة وقفة جود مكة»    مركز جراحة المخ والأعصاب بمجمع الدكتور سليمان الحبيب بالعليا يعيد الحركة لمراجعة وينهي معاناتها مع الآلام    إدارة الحشود في المسجد الحرام بالذكاء الاصطناعي    الزواج من البعيدة أفضل!    سعوديات يدرن مركز الترميم بمكتبة المؤسس    الرباعي السعودي يتزعم القارة الصفراء    آرت بروميناد تستهوي زوار جدة    52 خزانا تنقل وتوزع المياه المجددة    الشباب شغوفون بالطائرة والمشي يستهوي الفتيات    غُرفة عمليات أجاويد 3 بخميس مشيط تحتفل بيوم العلم    أمير منطقة جازان يتسلم التقرير السنوي لفرع الإدارة العامة للمجاهدين بالمنطقة    دلالات عظيمة ليوم العلم    الأولمبية والبارالمبية السعودية تعتمد تشكيل مجالس إدارة 24 اتحاداً ولجنة ومركز التحكيم الرياضي    وزير الدفاع يستقبل وزير الدفاع التركي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الوسط" ترصد وقائع ندوة شارك فيها حزبيون واسلاميون في الخرطوم . السودانيون يحلمون بتعددية حزبية والنظام يريدها "على الطريقة الانقاذية"
نشر في الحياة يوم 07 - 10 - 1996

أثارت المبادرة السياسية التي قام بها وفد أرسله الشريف زين العابدين الهندي نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية السابق والأمين العام للحزب الاتحادي الديموقراطي المعارض - الذي حظرت السلطات السودانية نشاطه منذ انقلاب الفريق عمر البشير العام 1989 - جدلاً لا يزال مستمراً بين حادبين مشفقين على ما وصل اليه تمزق القوى السياسية في ظل النظام الذي تهيمن عليه وتديره الجبهة الاسلامية القومية، ومنادين بوفاق يعيد الى الحياة السياسية السودانية ديموقراطيتها وعافيتها على رغم الصعوبات والأزمات، وبين دعاة وأد الحزبية وهيمنة التيار الذي يتزعمه الدكتور حسن الترابي، ومن يطالبون بحل وسط يستبعد عيوب الممارسة الديموقراطية ويبقي التعددية الحزبية المغيّبة بقوة السلاح منذ سبع سنوات.
وبلغ الجدل حول مبادرة الهندي التي تدعو الى حوار على نطاق واسع بين السودانيين للاتفاق على أفضل السبل لحكم البلاد وتجنيبها مخاطر الاستقطاب والعداء الخارجي والعزلة التي تعيشها، ذروته بمشاركة مندوبيه - الدكتور أحمد بلال وهو وزير دولة سابق في وزارة الصحة، والدكتور علي عثمان محمد صالح الأستاذ السابق للآثار في جامعة الخرطوم - في ندوة أمّها أكثر من ألف شخص موضوعها "التعددية السياسية هل هي الخيار السياسي للسودان؟" وشارك فيها عدد من رجال "الحرس القديم" في جبهة الدكتور الترابي، منهم أحمد عبدالرحمن محمد والدكتور الطيب زين العابدين، وعدد من المعاونين الحاليين للترابي الذين يتولون مناصب تنفيذية رفيعة، منهم أمين حسن عمر المستشار الصحافي للفريق البشير، وبعض الشخصيات التي لعبت دوراً في التعددية التي وأدها انقلاب 1989 ويقومون بأدوار في الحزب الحاكم الجديد المؤتمر الوطني، منهم تيسير مدثر القيادي السابق في حزب البعث السوداني الذي يشغل منصباً مهماً في الحزب الحاكم.
كان مثيراً سماح الحكومة بعقد الندوة التي تتناول قضية حساسة تمثل لب الخلاف بينها وبين معارضيها في الداخل والخارج، بل بينها وبين الرعيل الأول من قادة الجبهة الاسلامية القومية الذين يتعرضون لتهميش واضح في ادارة النظام على رغم ان بعضهم يتولى مناصب تنفيذية وسياسية فيه. وكان لافتاً أن الندوة أعقبت تصريح الأمين العام ل "المؤتمر الوطني" الدكتور غازي صلاح الدين استبعد فيه ان تكون الحكومة وافقت في حوارها مع وفد الشريف الهندي على اعلان تحولها الى التعددية الحزبية. ولذلك توجهت "الوسط" الى رئيس الوزراء السابق ورئيس حزب الأمة المحظور السيد الصادق المهدي وطلبت منه التعليق على حصيلة الندوة، والاجابة عن السؤال الأساسي الذي طرحه عنوانها: هل تصلح التعددية خياراً سياسياً لمستقبل السودان؟ واستطلعت أيضاً وجهة نظر الحاج مضوي محمد أحمد أبرز قادة الحزب الاتحادي الديموقراطي المحظور الذي يعد أحد الحزبين الكبيرين في البلاد.
الداعون الى الحوار
الدكتور أحمد بلال رئيس وفد مبادرة الهندي:
دعا في مستهل مداخلته الى الاتفاق على مشروع وطني يكفل تحقيق الوحدة الوطنية، ويدرأ مخاطر الاستقطاب الخارجي، ووقف البنادق الموجهة الى صدر الوطن. وقال: ان التجربة الديموقراطية نفسها اذا تحدثت عن عودتها الآن أو بعد عام أو عامين فإن ذلك يصبح ترفاً. الظروف الحالية تتطلب ذلك المشروع الوطني الذي أشرت اليه، وينبغي أن يكون مشروعاً وطنياً حقيقياً يلتف حوله الجميع وينفذونه لئلا يكون هناك مواطن أفضل من مواطن آخر. ان عودة الديموقراطية يجب أن يقررها الشعب في استفتاء عام أو في شكل حوار، لأن السودان يعاني من استقطاب خارجي وداخلي، والحكم لم يحقق السلام الجماعي المنشود، وبالتالي لا يمكن أن يستقر السودان، كما ان هناك حروباً. والحكم يعمل على تأمين نفسه وليس على تأمين المجتمع. إن رفض الديموقراطية والتعددية الحزبية بسبب أخطاء ارتكبها أشخاص معاقبة للشعب السوداني كله.
وأضاف: ان تجربة "ثورة الانقاذ الوطني" تمت بصياغة من حزب معين وهو المسيطر والحكم فعلاً. وابتعاد الأطراف الأخرى جعل قادة هذا الحزب وحيدين في الساحة. لذلك يجب أن نفكر في المشكلة بشكل مباشر وواقعي، اذ أن السودان يعاني الآن من ظروف صعبة وأخطار محدقة به، والبلاد مستهدفة في مالها وأرضها وشعبها، ولا بد من السعي الى درء تلك المخاطر، وهو واجب ولا يمكن بناء السودان من جديد من دون التوجه نحو الديموقراطية. ونحن نطالب بديموقراطية فوضوية، لا ديموقراطية يسيطر عليها بيت أو بيتان، لأن بامكاننا أن نستن قانوناً لتنظيم الأحزاب وتشذيب تجربتها. وهكذا يمكن أن تكون لدينا ديموقراطية معافاة. ولا ننادي بأن تكون هذه الديموقراطية موجودة خلال عامين أو ثلاثة، بل يمكن أن تأتي بعد خمسة أو ربما سبعة أعوام.
الدكتور علي عثمان صالح
عضو وفد مبادرة الهندي:
بدأ مداخلته بالقول: إن الأحزاب السياسية السودانية تملك القدرة على اصلاح نفسها، وان الجبهة الاسلامية القومية ليست وحدها التنظيم القادر على اصلاح حال السودان، وان السودان للجميع، وهذا هو المبدأ الذي ينبغي أن يسود. ان تجربة "المؤتمر الوطني" - النظام السياسي لحكومة الانقاذ - ضيقة للغاية، ومن أراد أن يدخله فسيعرف أن الأحزاب كلها كانت في الحقيقة اتجاهات فكرية ثم تطورت احزاباً. أنا شخصياً لست مقتنعاً مطلقاً بأن هناك نظاماً سياسياً يمكن اعتباره في موقع وسط بين الحكم الشمولي والديموقراطي. والواقع أن "المؤتمر الوطني" لا يمثل بأي حال نظاماً ثالثاً لأنه لا توجد فيه أي تعددية. والحقيقة أنه تماماً مثل التنظيم الذي أوجده نظاما أيار مايو 1969 بزعامة الرئيس السابق جعفر نميري وتشرين الثاني نوفمبر 1958 بزعامة الرئيس الراحل الفريق ابراهيم عبود. وتجربة المؤتمر الوطني ضعيفة ولا تستطيع الوقوف أمام أي تجربة علمية، لأنه يقوم على ثلاث نظريات متناقضة، ويقوم على الحكم بأن الأحزاب سيئة، وهو حكم جزافي. وأستغرب أن الديموقراطية لم تحكم السودان سوى نحو عشر سنوات فحسب، ومع ذلك نقول انها فشلت. المفروض ان يتاح لها الاستمرار فترة أطول ثم بعد ذلك يحكم لها أو عليها.
المحامي غازي سليمان مستقل:
أشار المحامي غازي سليمان، الذي يعتقد أن سلسلة المقالات الجريئة التي كان يكتبها في صحيفة الرأي الآخر كانت سبباً في منعها من الصدور، الى أن ما يتردد عن حلقة مفرغة بين الديموقراطية والشمولية أمر غير صحيح، لأن السودان لم يمر عليه حكم شمولي كالذي كان يحكم الجزائر، ولم يحكمه حزب واحد، إذ ان حزب "الاتحاد الاشتراكي السوداني" الذي كان الحزب الوحيد الشرعي ابان عهد الرئيس نميري كان صنيعة وديكوراً فحسب. وينطبق ذلك على "المؤتمر الوطني" الحالي، فهو حزب لا تاريخ له. وهما حزبان قاما في ظل نظامين ديكتاتوريين لم يكن لديهما ارتباط مع الشعب. ونظام الانقاذ هو أيضاً شمولي ولا بد من الاتفاق على شيء نخرج بموجبه من هذه الدوامة. ويجب ألا يكون المثقفون انتهازيين، اذ ينبغي عليهم أن يأخذوا من الطائفة الجوانب الجيدة فيها، والواقع ان الطائفية في السودان محترمة على رغم ما يشوبها من نقائض. والذين يهاجمونها ليس لهم أي وزن قبلي وانما يسعون الى المناصب الوزارية ويجب أن نقر بأن الطائفية وحدت السودان وربطت طائفية الختمية في الشرق مع المؤمنين بها في الغرب. ويجب تقويم نقائصها وليس هدمها، والحوار أحسن من العراك. ولذلك أنا لم أفقد الأمل بالتوصل الى حلول بسيطة كفيلة باخراج السودان من المأزق الحالي. وأرى ان الخطوة الأولى نحو الحل يجب أن تتمثل في الغاء المرسوم الدستوري الثاني عشر الذي يمنع الحريات، وأن يكون همنا الدفاع عن وحدة السودان، وهو أمر لا يمكن أن يتحقق من دون اطلاق الحريات.
رجال "الحرس القديم"
أحمد عبدالرحمن محمد الأمين العام لمجلس الصداقة الشعبية العالمية من مؤسسي الجبهة الاسلامية ومثلها وزيراً للداخلية في حكومة نميري ومعروفة عنه دعواته التي لا تنقطع الى وفاق سياسي قال: لا بد من الاقرار بدءاً بأن قضية الحكم في العالم الثالث شائكة ولا أعتقد بأن الأنظمة العسكرية هي الحل الناجع لمشكلة الحكم على رغم انجازاتها عندما تقارن مع أداء أنظمة الفوضى والتعددية. والأخيرة ليست ضئيلة الانجاز لسوئها أو عجزها، بل اعتقد بأن هناك متطلبات غير متوافرة لا تتيح نجاح النظام التعددي. والواقع ان الأحزاب السياسية ناجحة في البلدان الأخرى، ولو كانت لدينا في السودان أحزاب كلها غير عقائدية لكان لنا شأن آخر بين الأمم.
ان مبادرة الشريف الهندي جريئة، لكن السياسة هي علم الممكن، ففي المصالحة التي قمنا بها في الجبهة الوطنية العام 1977 مع نميري قلنا اننا لا نريد الدخول في الحكم إلا بعد خروج بدرالدين سليمان وزير في حكومة البشير حالياً وآخرين من الوزارة لأنهم شيوعيون. وكنا نتمسك بوصية الناظر شيخ القبيلة المرحوم بابو نمر الذي قال "القرد أوصى ولده إذا لم تمسك بغصن فلا تفك الغصن الذي أنت ممسك به". لذلك أقول ان الذين يريدون العمل السياسي عليهم أن يدخلوا النظام، وأتمنى ألا تطول غربة الاخوة في الخارج، وأنا متفائل بتحقق الوحدة الوطنية.
الديموقراطية تحتاج الى وجود تنمية اقتصادية. وهذا النظام الانقاذ حقق لأهل السودان مطلبهم الحقيقي وهو تطبيق الشريعة الاسلامية. وحقق شيئاً آخر لم تحققه الأحزاب من قبل وهو اعطاء أهل الجنوب نوعاً من الحكم الذاتي هو الفيديرالية. وكل الأنظمة العسكرية التي حكمت السودان كانت وراءها الأحزاب السياسية، وكذلك حكم ثورة الانقاذ. فلماذا يكون حلالاً على بلابله الدوح وحرام على الطير من كل جنس؟ أهل السودان لم يحتجوا أو يرفضوا ثورة الانقاذ الوطني، الذين احتجوا هم الغربيون لأن عندهم وصفة أو لوناً محدداً لطريقة الحكم يريدون لها أن تحكم البلاد.
أنا أريد الوفاق الوطني، لكني لا أريد عودة الأحزاب القديمة، لأن الطائفية والرأسمالية الاقطاعية تعوقان التعددية. وقد قال السيد علي الميرغني زعيم الاتحاديين والختمية ان الفرق الحزبية نفسها لا تؤمن بالحزبية لشيء سوى القفز الى السلطة. لذلك قلت ان الجيش لم يتحرك وحده وانما حركته وآزرته الأحزاب. وعندما أطالب بتحقيق الوفاق أرى أنه يجب أن تؤخذ تجربة نميري في المصالحة في الاعتبار. والتعددية الفكرية في حكم ثورة الانقاذ موجودة ولا بد من تطويرها، كما أنه لا بد من تجانس لمعالجة القضايا الاقتصادية والاجتماعية ومشكلات الامن القومي باعتباره العامل الرئيسي المحقق للحرية والانفتاح. ومع هذا فأنا لا أعتقد بأن ما تم في عهد الانقاذ هو الأمثل. نحن لا نزال بحاجة الى قدر أكبر من النمو الاجتماعي والوعي. وما تم فيه تشجيع للحريات لذلك لا بد من ضمانات، ففي الغرب يتحدث الفرد من دون خوف، وهنا يتحدث بعد الالتفات يمنة ويساراً، فالذي لا يملك الحرية لا يمكن أن يمنحها للآخرين. والحوار أمر لا بد منه حتى يعرف من هم في الخارج كل شيء. والسودان لا يمكن أن يدار بحزب واحد.
الدكتور الطيب زين العابدين مفكر اسلامي وأستاذ جامعي، رأى ان هناك قواسم مشتركة، أبرزها أن التعددية تمثل الوضع الطبيعي للأشياء. قد يكون هناك اختلاف حول هل يجب أن تكون تعددية حزبية، لكن حدوثها نفسه يعتبر أمراً ينتهي الى طبيعة الأشياء، ولذا فهي سمة من سمات البشر، وهي تناسب الوضع في السودان، وهي من القواسم المشتركة. لأن النظام السياسي اذا لم ينطلق من قواسم مشتركة لن يتفق الناس فيه على شيء.
والواقع أن تجربة التعددية الحزبية في السودان لم تكن ناجحة لأسباب عدة. وقد برهنت فشلها بعدم استمرارها، وهذا حكم على التجربة بحد ذاتها. وتجربة الديموقراطية التعددية شابها عندنا نقص كبير، وهو أمر يجب أن ينطلق الناس منه عندما يهمون بالتفكير في البديل، فالأحزاب في الحقيقة تعتمد على القواعد القبلية والطائفية، وهي لا تعجب المثقفين السياسيين الذين يدركون أن الاحزاب السياسية ينبغي أن تقوم على برامج وأفكار، وأن تكون قيادتها منتخبة انتخاباً. لكن تلك هي طبيعة المجتمع السوداني، وخطأه يجب ألا يُنسب الى فرد، بل هي طبيعة المجتمع كله، فقد نشأنا لنجد السودان مقسماً الى طوائف. وذلك لا يمنع القول إنها طبيعة أصرت بالتجربة الديموقراطية.
أتفق المتحدثون في الندوة على ضرورة حل الازمة القائمة، وعلى أنها موجودة وأن هناك توتراً. والحوار هو السبيل الامثل انطلاقاً من القواسم المشتركة، فلا بد إذن من الاتفاق على مبدأ استقلال الوطن وتحقيق العدل والحرية وإحلال السلام وتداول السلطة بطريقة سلمية.
إن التجربة الحالية حكم الانقاذ حديثة العهد والحكم عليها بأنها اجتازت الامتحان متعجل. فقد عاصرنا محاولات انقلابية عدة خلال الوضع القائم، لذلك لا بد من التوافق على نظام يجد القبول من الشعب السوداني كله حتى نتداول الحكم بطريقة سلمية. إذا تحققت هذه المبادرة فسنكون وصلنا الى حل أزمة الحكم في السودان. وأعتقد بأن الحوار هو السبيل الأمثل. والمبادرة التي جاء من أجلها أحمد بلال وعلي عثمان محمد صالح تساهم في تحقيق ذلك.
صقور "الانقاذ"
أمين حسن عمر المستشار الصحافي لرئيس الجمهورية، شارك في الندوة وهو من القادة البارزين في الجبهة الاسلامية القومية، وكان مديراً لتحرير صحيفتها "الراية" إبان العهد الديموقراطي الذي وضع انقلاب البشير حداً له. وعلى رغم أنه شيوعي سابق، فإنه يوصف عادة بأنه من المتشددين من أنصار الترابي.
قال عمر في مداخلته: إن الشمولية لا تنفع، ولا يُقدر عليها. فهي تتطلب فرض برنامج واحد وقيادة واحدة. وفي الوقت نفسه لا يمكن وجود ديموقراطية من دون تعددية. ولا يشترط أن تكون التعددية حزبية، فالحديث عن صيغة الأحزاب على النمط القديم غير وارد، لأن الاحزاب لا تمثل تعددية حزبية، وإنما هي نظام تمييزي، قائم على العشائرية الطائفية.
هناك سؤال مهم: هل التعددية لازمة للديموقراطية؟ وهل يمكن أن تكون هناك ديموقراطية من دون تعددية؟ إن تعددية التيارات الفكرية والمواقف مهمة جداً، فلا يمكن أن تكون هناك ديموقراطية من دون حوار، لهذا لا بد من تعددية سياسية، لكن كثيراً من الناس يخلط بين التعددية السياسية والتعددية الحزبية. وقد اضحت الاحزاب واجهات لخوض الانتخابات، وصارت المكتسبات الشخصية للمرشحين اهم من الحزب وبرنامجه.
دعونا نتساءل: هل كلمة تعددية تمثل ترجمة دقيقة لكلمة جمع بالانكليزية pluralism؟ نحن ترجمناها خطأ، بأن جعلنا الجمع تعدداً والجمع أصلاً يعني أن الكل يتكون من أشياء متعددة. فالكلمة الانكليزية تعني الجمع، لكن الترجمة العربية تدل على التفريق، على رغم أننا نملك ما يجمعنا أكثر مما لدى الغربيين. وكان ينبغي أن نركز في الترجمة على الجمع أكثر من تركيزنا على الأعداد المفردة.
الكلمة الاخرى المهمة في هذا السياق هي كلمة party وهي جزء من كل. وقد استخدمنا كلمة حزب، والمعروف أنها كلمة ليست لها معان في تاريخ اللغة والفكر إلا معاني التشرذم والانقسام على أساس أن تلك المجتمعات لها وجهة واحدة ومقاصد متفق عليها.
لقد فشلت ديموقراطية السيدين عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني وهي تفشل كل مرة لأنها لم تكن مؤهلة للبقاء. فهل كان عبد الله خليل رئيس وزراء السودان 1957-1958 شخصية حزبية طائفية؟ الواقع أنه كان وطنياً غيوراً، وعندما شعر بأن هناك خطراً يدهم البلاد سلم السلطة الى كبار ضباط الجيش، خصوصاً اللواء احمد عبد الوهاب نائب رئيس المجلس الاعلى للقوات المسلحة الذي حكم السودان إثر انقلاب 1958 الذي كان من تيار حزب الامة، لكن انتماءه العسكري أقوى من انتمائه الحزبي، مما جعله يؤْثِر الفريق عبود على نفسه لرئاسة الانقلاب العسكري 1958-1964.
نتحول الى تجارب الاحزاب في السودان فنقول إنها كانت سيئة ومحزنة، لأنها - اي الاحزاب - لم تكن لديها ارادة طبيعية، ولم يكن الشعب السوداني نفسه حريصاً عليها. ولا يمكن أن تكون هناك ديموقراطية من دون تعددية. ولكن ليس من الضرورة أن تكون تلك التعددية السياسية حزبية. ولا يمكن أن تحكم بلداً يريد أن ينمو اقتصادياً واجتماعياً بنظام شمولي، فالذي يريد أن يفرض الشمولية في بلد شاسع كالسودان لا بد أن يكون غبياً، لأنه لن يستطيع السيطرة على الاوضاع. فالحكومة العاقلة هي التي تحاول أن تصل الى صيغة شعبية.
أما في ما يتعلق بفرص المستقبل، فإن أي حديث عن العودة الى صيغة الاحزاب على نمطها القديم غير واردة لأننا نطبق الشريعة الاسلامية وقد لُدغنا ثلاث مرات يقصد تجارب الحكم الحزبي التي سيطرت على السلطة ثلاث مرات منذ الاستقلال . فهذه الاحزاب لا تمثل تعددية حزبية وإنما تمثل نظاماً تمييزياً قائماً على العشائرية الطائفية، ولو لم تكن هناك أحزاب طائفية في السودان لما كان هناك أي تحفظ عن الاحزاب. هذه الاحزاب الطائفية هي التي تفسد المناخ السياسي والاجماع ومشكلتها أنها لا تريد أن تتطهر وتتوب من طائفيتها. فهي سواء كانت في الحكم او في المعارضة تبقى طائفية. وأنا أتساءل: لماذا تعارض هذه الاحزاب؟ ومن هو أفضل لقيادة المعارضة؟ هل هو مبارك الفاضل أم عمر نور الدائم؟ وما هو كسب مبارك الفاضل السياسي والفكري ما سمح له بقيادة المعارضة؟ انه ابن الفاضل المهدي فحسب. لكن عمر نور الدائم له اسم وكسب سياسي معروفان لكنه ليس ابن المهدي!
تيسير مدثر أمين القطاع القانوني في "المؤتمر الوطني" الحزب الحاكم، قال المحامي تيسير مدثر القيادي السابق في حزب البعث العربي فرع القطر السوداني الذي قرر الاندماج في نظام الانقاذ اندماجاً كلياً: أوافق على أن التعددية هي أقرب أنماط الحكم الى نفس الانسان، والديموقراطية هي الخيار الافضل حسب تجارب الحكم التي شهدها السودان. غير أن التجارب الديموقراطية التي سادت عقب ثورتي تشرين الاول اكتوبر 1964 ونيسان ابريل 1985 أنجبت تعددية سياسية كسيحة وعاجزة.
وعلى رغم ذلك كله نمت المشكلات الوطنية من خلال تجربتي الحزب الواحد اللتين شهدهما السودان 1958 و1969. ويمكن القول من الناحية النظرية ان خيار التعددية هو الأقرب الى الشورى، ولا يمكن اعتبار تجربة "المؤتمر الوطني" تجربة حزب واحد، لأن قادته يعتبرون المؤتمر نظاماً سياسياً وليس تنظيماً. كما أنه تنبغي الاشارة الى أن الاحزاب السياسية تعاني ظاهرة مرضية فتّاكة تتمثل في التعصب وإفرازات الصراع السياسي الذي شهدته البلاد منذ استقلالها العام 1956، وهي في الغالب تخضع لزعامات طائفية تفرض وصايتها على الشعب. وإذا لم تكن طائفية فهي عقائدية تتحكم فيها الصفوة التي تفرض وصايتها على الشعب. في حين أن هناك تيارات فكرية لا يمكن تجاوزها بأي حال برزت من خلال مؤتمرات عقدها النظام للحوار الوطني، وحتى إذا غابت هذه التيارات عن الحوار فهي موجودة.
وإذا أردنا تحديداً لهذه التيارات فهناك تيار وسطي، وآخر اسلامي، وثالث قومي، ورابع عروبي، وتيار يدعو الى قومية سودانية. هذه التيارات موجودة وقادرة على التعبير عن نفسها شئنا أم أبينا. والسودان يحتاج الى معادلة تصيغ رؤية مشتركة لهذه التيارات في ظروف بالغة التعقيد. ولا بد من الاشارة الى بعد إضافي في الممارسة السياسية يتمثل في العلاقة التي نشأت بين غرف العمليات في تلك الاحزاب وغرف العمليات الاجنبية التي تملك منظوراً مستقلاً للوضع الاقليمي والدولي، وهي مسألة خطيرة جداً وتتم على حساب مصلحة البلاد. وهو بعد جديد لأننا أضحينا نرى قيادات حزبية سياسية تشارك في مخططات تتعلق باستراتيجيات تمس خريطة السودان وأمنه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.