دلت حرارة الاستقبال الذي لقيه الرئيس جاك شيراك اثناء زيارته الى المملكة العربية السعودية من قبل المسؤولين السعوديين، وفي مقدمتهم خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز، على مدى ما تتمتع به فرنسا من مكانة مهمة لدى السعوديين خصوصاً والعرب عموماً. ولعل قراءة بسيطة لتاريخ علاقات البلدين تؤكد ان إرساء دعائم الصداقة بين الرياضوباريس يعود الفضل فيها الى الملك فيصل - رحمه الله - والجنرال شارل ديغول عندما زار الأول باريس في صيف 1967 في اعقاب العدوان الاسرائيلي على العرب، وكان من ابرز نتائج ذلك اللقاء اتخاذ الجنرال ديغول قراره "التاريخي" بوقف ارسال الاسلحة والمساعدات الفرنسية الى اسرائيل ليشكل بذلك نقطة انطلاق الدور الفرنسي المؤثر في سياسات وقضايا منطقة الشرق الأوسط من دون ان يخل ذلك بتوازن علاقاتها مع شريكاتها في الاتحاد الاوروبي أو مع واشنطن. ويشعر المسؤولون السعوديون بأن الرئيس شيراك امتداد لديغول وربما اكثر تفاعلاً وإدراكاً لدور بلاده، في ظل الاوضاع الدولية التي رسمت معالم جديدة للسياسة العالمية، وفي ضوء مصادر القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تمتلكها باريس. وبالنظر الى جدول المناقشات السعودية - الفرنسية يتأكد مدى أهمية وطابع الزيارة، ابتداء بمستقبل عملية السلام بعد وصول تكتل ليكود المتشدد الى الحكم في اسرائيل بقيادة بنيامين نتانياهو، مروراً بالوضع في منطقة الخليج والتهديدات التي قد تعرض أمن دول المنطقة للخطر، وصولاً الى التعاون الثنائي على الصعيد الاقتصادي والعسكري. وعلى رغم القناعة بأن المجموعة الاوروبية اوكلت الى فرنسا التحدث والتعامل نيابة عنها مع قضايا الشرق الأوسط إلا انه لا يمكن اغفال حقيقة سيطرة "الشبح" الاميركي انطلاقاً من ان قوائم المصالح لم تعد تخضع للاحلاف القديمة. واستناداً الى مصادر "الوسط" فان الرئيس الفرنسي والملك فهد اتفقا على أهمية دفع العملية السلمية في المنطقة استناداً الى مقررات مدريد وعدم السماح بحدوث مزيد من الانتكاس للمسيرة السلمية من خلال استثمار علاقاتهما مع بقية الدول المؤثرة"، خصوصاً الولاياتالمتحدة، الأمر الذي بادرت السعودية الى ممارسته، ولما يزل الرئيس شيراك في المنطقة، اذ عمد الملك فهد بن عبدالعزيز الى توجيه رسالة حملها سفيره لدى واشنطن الأمير بندر بن سلطان بن عبدالعزيز الى الرئيس بيل كلينتون سبقت وصول رئيس الوزراء الاسرائيلي نتانياهو الى واشنطن، يطلب فيها الملك فهد من الادارة الاميركية ضرورة ممارسة "الضغوط الكافية" على تل ابيب بما يؤدي الى انسحابها من الجولان السورية وجنوب لبنان ويحقق قيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس، ويحذر في الوقت نفسه من مخاطر افشال مساعي السلام وانعكاساتها السلبية على المنطقة وبالتالي على المصالح الاميركية وعلاقات واشنطن مع العواصم العربية البارزة بعيداً عن حجة الاشتغال بالانتخابات الرئاسية في الولاياتالمتحدة. وقالت المصادر ل "الوسط" ان الرئيس الفرنسي قدم خلال محادثاته مع الملك فهد التي دامت تسعين دقيقة رؤية بلاده لمستقبل عملية السلام في منطقة الشرق الأوسط والتي جاءت متوافقة مع ما إتفق عليه في مدريد اضافة الى رغبة باريس في سد أي ثغرة في الوضع السياسي للمنطقة وتفعيل نشاطها وزيادة مبادراتها نحو إيجاد منطقة خالية من التعقيدات والمشاكل. ولم يُخفِ الجانب الفرنسي وجود بعض التباين في وجهات النظر بينه وبين البيت الابيض حول هذه المسألة، ففي الوقت الذي ترى واشنطن ضرورة منح رئيس الوزراء الاسرائيلي فرصة للتعرف على آرائه الحقيقية تجاه مسألة السلام، تعتقد باريس بأن مجرد بدء تجميد عملية السلام أمر من شأنه خلق مصاعب وإيجاد عقبات يصبح من الصعوبة تجاوزها والتغلب عليها مستقبلاً مما يفسح المجال واسعاً امام محاولات تهديد دول المنطقة وتزايد المخاطر الامنية على دولها. ومن المفيد الاشارة الى اللقاءات التي عقدها الرئيس الفرنسي مع عدد من الزعماء العرب قبل وصوله الى جدة، فهو التقى السلطان قابوس بن سعيد ورئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري وأجرى اتصالات مع الملك الحسن الثاني والرئيس حافظ الأسد أكد فيها موقف بلاده من عملية السلام، وهو الموقف المطابق لرأي الاتحاد الاوروبي الذي أعيد تأكيده خلال القمة الاوروبية في مدينة فلورنسا والقمة الصناعية في ليون، وهو قريب من الموقف الذي اعتمدته الدول العربية خلال قمتها الاخيرة في القاهرة. اما على صعيد منطقة الخليج فان الجانبين ناقشا، حسب المصادر، استمرار التهديدات العراقية والايرانية لدول الخليج وسبل مواجهتها، وأبدت باريس استعدادها الكامل لدعم خطوات دول مجلس التعاون الخليجي تجاه حماية امنها واستقرارها. ومن المعروف ان الاستراتيجية الفرنسية تجاه المنطقة تقوم على مبدأ مفاده ان هذا الجزء من العالم لا ينبغي ان يكون حكراً على أحد وهو ما يمكن ملاحظته من خلال عرض حجم التعاون العسكري والاقتصادي بين فرنسا ودول المنطقة وتأكيدات الأليزيه المستمرة عن الاستعداد لزيادة الوجود العسكري الفرنسي في الخليج. ووصف مسؤول سعودي ل "الوسط" زيارة جاك شيراك لبلاده بالقول "ان شيراك لا يقوم برحلة استجمام او تأكيد صداقات هي في الأصل لم تتغير مع المملكة وإنما جاء ليؤكد ان فرنسا ومعها دول القارة الاوروبية شركاء تاريخ وعلاقات مستقبل". ومن الملاحظ كثافة الوفد الوزاري الذي رافق شيراك وضم وزراء الدفاع والداخلية والخارجية، وتلك اللقاءات الثنائية التي عقدوها مع نظرائهم السعوديين. ففي اللقاء بين الأمير سلطان بن عبدالعزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع والطيران مع نظيره الفرنسي شارل ميون تركز البحث على مسار التعاون العسكري بين الجانبين، خصوصاً ما يتصل بمشروع الصواري لتطوير القوات البحرية السعودية وامكان حصول المملكة على 150 دبابة من طراز لوكليرك بعدما استكمل خبراء عسكريون من الجانبين وضع اللمسات النهائية على درس حاجات المملكة من الاسلحة الفرنسية، وبينها صواريخ أرض - جو وهي الصفقة التي يتوقع ان تتراوح قيمتها في حال اقرارها ما بين 2 و3 مليارات دولار، ويستثمر ما نسبته 35 في المئة منها في برنامج التوازن الاقتصادي. يُشار الى ان البلدين وقعا في شهر حزيران يونيو 1990 مذكرة تفاهم التزمت الحكومة الفرنسية بموجبها الدخول في برنامج التوازن الاقتصادي واستثمار نسبة 35 في المئة من قيمة العقود والخدمات الفنية لأي عقد دفاعي توقعه فرنسا مع المملكة، وكانت بداية تنفيذ ذلك في كانون الأول ديسمبر 1993 عندما وضع حجر الاساس لشركة "ذهب" كأول شركة فرنسية - سعودية تؤسس في اطار البرنامج يشمل نشاطها تصفية الذهب وانتاج سبائك واسلاك وصفائح الذهب بطاقة انتاجية تصل الى 110 اطنان ذهب صاف سنوياً، فيما صدرت الموافقة على ثمانية مشاريع اخرى بينها مشروع إعادة تأهيل المواد الكيمائية وانتاج البطاقات الالكترونية. وفي لقاء الأمير نايف بن عبدالعزيز وزير الداخلية مع نظيره الفرنسي جان لوي دوبريه بحث الرجلان مطولاً في تفاصيل ملف التعاون الامني، في ضوء الاتفاق الموقع بين البلدين عام 1994، والذي ادخلت تعديلات عليه تتناسب والتطورات الامنية في المنطقة وسبل مكافحة الارهاب. ويُلخص مسؤول في الخارجية السعودية رأيه في زيارة الرئيس الفرنسي للمملكة بالقول: "اذا كانت الولاياتالمتحدة القطب الأكبر والوحيد في العالم، ففرنسا التي تتحدث باللسان الاوروبي لا تقل اهمية عن اميركا، اذا ما ادركنا ان اوروبا تعد بالوزن نفسه لو قدر لها ان تلعب دوراً يتناسب وحجمها وتختار ممثلاً لها بحجم فرنسا وقوة ومرونة الرئيس شيراك. ففرنسا دولة كبرى ولها تجربة كبيرة في علاقاتها مع المملكة وقت الانفراجات والازمات، ولم يحدث في العقود القريبة ان اتصفت علاقات البلدين بالجمود ان التوقف حيث كل طرف يقدر استقلالية قراره والإطار الذي يعمل فيه".