كتاب «العلاقات الفرنسية - السعودية» (الدار العربية للعلوم - ناشرون / بيروت 2014) يؤرخ للفترة الزمنية بين 1967 و2012، ويخوض مؤلفه فيصل المجفل في الوثائق فيجعلها دليله إلى الخلاصات، بدلاً من أن تقوده الشعارية، أو الرؤية السياسية والفكرية المسبقة، إلى تركيب الوقائع استنسابياً، بما يبرر الفكرة، ويشهد «اعتباطاً» لصحتها. عبر ما يقرب من السرد، المرفق بالوثائق، يعتني المؤلف فيصل المجفل بتحديد الحقبات الزمنية التي يرى أنها مناسبة لدراسة تطور العلاقات الفرنسية - السعودية، فيختار البداية من العام 1932، أي سنة إعلان قيام المملكة، في الوجه الذي نعرفها عليه اليوم. تختلف الحقبات في كلا البلدين، باختلاف الأسماء التي تولت قيادة العملية السياسية، وبحسب نظرية المسؤولين لما يجب أن تكون عليه العلاقات الخارجية، ودائماً بالاتصال الوثيق مع المصالح الوطنية الداخلية لكل طرف من طرفي العلاقة. مسألة مركز القرار، واسم صانعه، تختلف في السعودية عنها في فرنسا، بسبب طبيعة النظام السياسي، لكن ذلك لا ينفي أهمية اللمسة الشخصية لكل رئيس فرنسي، مثلما يؤكد الدور الحاسم للملوك السعوديين الذين تعاقبوا على إدارة المملكة. ويدنو المؤلف من إعطاء كل حقبة اسم مليكها، ثم يعمد إلى الإضاءة على المفاصل الأساسية من مجموع سياساته، ومن المهم من أهدافه. كل ذلك بالارتباط المباشر مع السياسة الفرنسية، التي تشكل الطرف الآخر من العلاقة، تلك السياسة التي تطوّرت من حالة الركود، بعيد الاعتراف الفرنسي باستقلال السعودية، إلى حالة صياغة المصالح صياغة براغماتية، أخذت في الاعتبار حاجات كل بلد من كل سياسة، وراعت اعتباراته الدافعة نحو تطوير صيغة العلاقة، مثلما راعت العوامل المانعة، وفقاً للتطورات الداخلية، وللمتغيرات الدولية والإقليمية. يلحظ الكاتب بانتباه أن مسيرة العلاقات الفرنسية - السعودية، قد قادتها قاطرة الأزمات السياسية، التي كان بعضها داخلياً، وجلّها خارجياً. هذا فرض مداً وجزراً على مستويات التعاون، بخاصة في جانبه السياسي، على رغم ان الجوانب الاقتصادية قد عرفت تطوراً في ميزان مدفوعاتها. والأزمات كانت عنواناً للطموحات، مثلما كانت مرادفاً للأدوار، التي رآها المسؤول السعودي جديرة بمملكته، أو التي اعتبرها الفرنسي حيوية لتفعيل دوره. يبدو العام 1967 مفصلياً، بحسب مادة الكتاب، ففيه وقعت بالعرب هزيمة عسكرية في حربهم ضد إسرائيل، وفي هذه الفترة كان في المملكة العربية السعودية الملك فيصل، وفي فرنسا الرئيس شارل ديغول، والإثنان جمعت بينهما الطموحات الداخلية، وأقامت رباطاً بين السياسات التي اعتمداها على الصعيد الخارجي. يشير فيصل المجفل إلى الملك فيصل بصفته عراب الدولة في شكلها الحالي، مثلما يشير إلى تنويع أدواته السياسية، وإدخالها كمتغيرات في رؤيته، من أجل الوصول إلى أهدافه العامة. لقد وضع الملك فيصل نصب عينيه جعل المملكة دولة محورية، ورسم شخصية مستقلة لبلاده، في سبيل ذلك اعتمد الملك الإسلام كمتغير إيديولوجي، والنفط كعامل اقتصادي، والمنظمات الإسلامية والانتماءات الخليجية والإسلامية والعربية، كعناصر قوة فاعلة. ساعدت تطورات ما بعد حرب 1967 الملك فيصل في مسعاه، وساعده وجود شارل ديغول في فرنسا الذي كان يسعى بدوره إلى تعزيز المكانة الفرنسية على صعيد دولي، وإلى قيام قوة عالمية ثالثة، عمادها أوروبا وفرنسا في موقع الصدارة منها. على رؤية كل من المسؤولين لأهمية دور بلاده، وفي السعي إلى تحقيق مقومات هذا الدور، قامت السياسات التي قربت بين باريس والرياض. ففرنسا تقدمت خطى على صعيد ملفات المنطقة وقضاياها، بخاصة في الملف الفلسطيني وفي وقف تصدير السلاح إلى إسرائيل، وفي دعم قرارات مجلس الأمن بخصوص نتائج حرب حزيران. ضمن ذلك، كان بناء القدرات التي تسعى السعودية لامتلاكها حاضراً، مثلما كانت حاضرة النافذة الباريسية للطموح السعودي، الذي كان غير محبذ لدى الجانب الأميركي، ومع هذين الأمرين، كان الاقتصاد الفرنسي ينتظر عقوداً، وصفقات، خصوصاً في مجال السلاح وفي ميدان النفط الذي بات سلاحاً استعمل بفعالية عندما اندلعت الحرب العربية - الإسرائيلية عام 1973. هذه الوقفة المطولة أمام حقبة الملك فيصل وشارل ديغول، اقتضتها الصفة التأسيسية للعلاقات، حسبما أشار المؤلف. ومع الملك خالد، والرئيس ديستان، تقدم التعاون الأمني والاقتصادي، رغم أن عدداً من المشاريع الطموحة لم يرَ النور، لأسباب قيل أنها طموحة وفي غير أوانها، خصوصاً ما تعلق منها بالجانب النووي. لكن الأمن تقدم الواجهة من خلال أحداث، أعطى بعضها دفعاً للعلاقة السعودية - الفرنسية، ووضع بعضها الآخر حدوداً لتقدمها. بعد أن توحدت مصلحة السعودية وأميركا في مواجهة الإرهاب. ومع الملك فهد والرئيس ميتران، كان الظرف السياسي المحيط بالبلدين أصعب وأعقد، ففي هذه الفترة كانت حرب الخليج وحرب تحرير الكويت، ومحاربة الإرهاب الذي عاد ليضرب في الداخل السعودي. لقد تواصلت العلاقات بين فرنسا والسعودية على أسسها السابقة، رغم اختلاف الظروف، أي أن السياسة المتقاربة ظلت أساساً للتبادل الاقتصادي والأمني. وشاركت فرنسا في حرب الخليج، مشاركة غير فاعلة، وبذل الرئيس ميتران جهداً مع صدام حسين لإقناعه بالانسحاب وتجنب الحرب، وانفتحت فرنسا على مجلس التعاون الخليجي الوليد، من ضمن المجموعة الأوروبية المشتركة، وكان لها عقد تسليحي جديد هو عقد المظلّة. إلا أن الدور الأهم لفرنسا، في علاقاتها مع السعودية، سيكون بعد أحداث أيلول (سبتمبر)، 2001، بعد «غزوة» تنظيم القاعدة الديار الأميركية، وبعد الرد الأميركي الصاعق في السياسة وفي الميدان، وبعد وضع حرج فرضه كون غالبية المهاجمين تحمل الجنسية السعودية. جاءت مبادرة اختراق الحرج من جانب الرئيس الفرنسي جاك شيراك، الذي أتى المملكة زائراً، بعد أن سبقه إليها وزير خارجيته هوبير فيدرين: لقد قام شيراك بما يشبه الوساطة بين الأميركي والسعودي، ففتح حواراً حول التعاون ضد الإرهاب، ومساهمة السعودية في هذا الجهد، وكانت خلاصة المسعى سياسة مشتركة تحقق المطالب الأميركية، ولكنها لا تكسر هيبة الدولة السعودية. نجاح المسعى الفرنسي في هذا المجال، كوفئ سعودياً بعقد نفطي بين شركتي توتال وآرامكو، ودائماً بما لا يدفع إلى التأويل أن التبادل جرى على حساب أولوية العلاقة مع الولاياتالمتحدة الأميركية. الإشارة إلى ما بعد أيلول 2001، نابعة من التداعيات الدولية والإقليمية لهذا الحدث، والنجدة الفرنسية ستكون لها توابعها في لبنان، وفي فلسطين، وحيال الملف الإيراني، بعد احتلال العراق، وتقدم إيران لملء الفراغ الذي نشأ بعد تدمير البنية العراقية. وشكّل رئيس الحكومة اللبنانية الراحل رفيق الحريري، نقطة تقاطع فرنسية - سعودية، في السياسة حيال لبنان، غير المهيمن عليه من سورية، ومناوأة النفوذ الإيراني في لبنانوفلسطين وفي الخليج. أحداث عدة، أعادت المملكة إلى حساباتها الداخلية، والنفوذ الإيراني أهمها. هذا شكّل نقطة مشتركة مع فرنسا التي ترفض البرنامج النووي الإيراني، وبسبب حساباتها الإستراتيجية أيضاً، لذلك كانت مبادرتها في تركيز وجود عسكري دائم في أبو ظبي، جزءاً من هذه الحسابات الخاصة، وجزءاً من تلبية التعاون مع الخليج والسعودية في قلبه، أيضاً. لقد بادر الرئيس ساركوزي إلى ذلك، وحاول على خط السياسة، وبمشاركة سعودية، احتواء الرئيس السوري الجديد، بشار الأسد، من خلال جذبه إلى محور مشترك مع السعودية، لكن المسعى أخفق. ملاحظة مهمة لم تغب عن سياق الكتاب، تمثلت في تمسك السعودية الثابت بحليفها الأميركي، واستعمال علاقاتها للضغط عليه، وليس للانفكاك عنه. هذا الأمر ليس غريباً أو مستغرباً، عندما يعاد استعراض تاريخ العلاقة الأميركية - السعودية، وضروراتها ومحظوراتها، وحتى يكون ركوب المحظورات، ضرورة للعودة إلى الضرورات، التي صنعتها بنية السعودية ومصالحها، ومكانتها وإمكاناتها، وموقعها في هذا الموقع الزلزالي من العالم. * كاتب لبناني