لم تقلب عملية "عناقيد الغضب" الاسرائيلية الاولويات السياسية عند السلطة اللبنانية، ذلك انها على وحشيتها وعلى الخسائر الضخمة التي ألحقتها بالمواطنين وبالاقتصاد اللبناني لم تسفر عن تطور من شأنه قلب المعادلات وتغيير الأولويات سواء عند الدولة اللبنانية او عند الدولة السورية. انتهت العملية الى تفاهم مكتوب، وان غير موقع، مضمون من دول خمس هي لبنان وسورية واسرائيل وفرنساوالولاياتالمتحدة، وادت الى وقف اطلاق قذائف الكاتيوشا على شمال اسرائيل وحيّدت السكان المدنيين من الجانبين وجعلت تحرك المقاومة، التي نالت اعترافاً غير مباشر بوجودها، اكثر صعوبة من السابق. ولم تتطور العملية، كما كان يخشى كثيرون، الى توسيع للحزام الامني وتالياً الى منع المهجرين والنازحين من العودة الى قراهم ومنازلهم او الى احتلال كل لبنان او الى الاصطدام بالجيش السوري الموجود في لبنان او حتى الى مواجهة عسكرية شاملة بين اسرائيل وسورية على كل الجبهات. طبعاً اربكت العملية المذكورة السلطة اللبنانية بسبب انعكاساتها السلبية المحتملة على عملية اعادة البناء والاعمار المستمرة منذ سنوات وتحديداً على تمويلها الخارجي الذي قد يشهد تريثاً او جموداً الآن وفي المستقبل المنظور ريثما يظهر الخيط الابيض من الخيط الاسود على الصعيد الاقليمي. وأربكتها ايضاً لانها جعلتها تنشغل بترتيب العودة للنازحين والمهجرين. لكنها على رغم ذلك كله لم تحدث تغييراً يفرض على السلطة وعلى رعاتها السوريين ان يعيدوا النظر في الاولويات. ومن هذا المنطلق يمكن القول ان الانتخابات النيابية، التي خشي اللبنانيون ان تلغيها العملية وذيولها في حال تطورها وان تفسح في المجال امام التمديد لمجلس النواب الحالي، ستجرى في موعدها أي أواخر الصيف المقبل. وقد أكد ذلك رئيس الجمهورية الياس الهراوي بعد عودته اخيراً من الولاياتالمتحدة. كما أكده نائب رئيس الحكومة وزير الداخلية ميشال المر. وقد انطلق هؤلاء وغيرهم في تأكيدهم من العوامل المذكورة اعلاه وكذلك من اقتناع بأن سورية صاحبة الدور الاول في لبنان منذ سنوات لها مصلحة اساسية في انتخاب مجلس نيابي جديدة يواكب تطور العملية السلمية سواء نحو التسوية الشاملة والعادلة مع اسرائيل او نحو الفشل. ذلك ان مجلساً ممدداً له في ظروف شعبية معارضة لها من شأنه طرح نفوذها ودورها ووجودها العسكري في لبنان على طاولة البحث عندما يحين الاوان. عقدة "القانون" على أساس أي قانون انتخاب ستجري الانتخابات؟ وهل تتكرر المقاطعة لها ولا سيما من جانب اغلبية المسيحيين؟ الوزير ميشال المر قال اكثر من مرة ان بنود مشروع قانون الانتخاب قد وضع معظمها وانها تحظى بموافقة كل الاطراف. وهذا يعني ان القانون يشبه القوانين السابقة من جوانب عدة مثل سن الاقتراع وارجاء تطبيق البطاقة الانتخابية وسن الترشيح وما الى ذلك. والموضوع الوحيد الذي لم يبت به بعد بسبب عدم حصول اتفاق نهائي عليه بين الفاعليات اللبنانية وتحديداً لعدم وصول كلمة سر سورية نهائية بشأنه هو الدائرة الانتخابية وحجمها. وفي هذا المجال تشير معلومات المصادر المذكورة الى أن هذا الحجم سيكون المحافظة من ناحية المبدأ مع استثناءات قد تطرأ عليه لاسباب بعضها سياسي وبعضها الآخر يتعلق بالاحتلال الاسرائيلي لاجزاء من لبنان وتالياً لعدم قدرة الناخبين فيها على ممارسة واجبهم وحقهم الانتخابيين المنصوص عليهما في الدستور. وهذا يعني ان كلا من محافظات الشمال وبيروت والبقاع ستكون دائرة انتخابية واحدة. وان محافظتي الجنوب والنبطية ستكونان دائرة واحدة. اما محافظة جبل لبنان فإن موضوعها لم يبت مع ترجيح تقسيمها الى دائرتين انتخابيتين وربما الى ثلاث دوائر. وفي اي حال لا تتوقع المصادر السياسية نفسها ان تحسم الحكومة موضوع قانون الانتخاب قبل شهر حزيران يونيو المقبل. ذلك انها قد تنتظر انتهاء الانتخابات الاسرائيلية المقررة في التاسع والعشرين من شهر أيار مايو الجاري اذ ان نتائجها قد تؤثر في شكل او في آخر على الموضوع الانتخابي برمته. فأما ترجئه الى أجل غير مسمى واما تكرس حصوله في موعده واما تجعل السلطة ومن ورائها سورية اكثر تشدداً في اجراء الانتخابات سواء في موضوع الدوائر او في موضوع التحالفات او في غيرها كما انها قد تنتظر الترجمة العملية لپ"تفاهم نيسان" الذي انهى عملية "عناقيد الغضب" الاسرائيلية وتحديداً الانتهاء من تأليف لجنة المراقبة ومن وضع آليتها ومباشرتها مهماتها. ذلك ان غياب الترجمة المذكورة قد تكون له آثار سلبية على الوضع عموماً وعلى الوضع الجنوبي خصوصاً ولا سيما اذا رافقتها نتائج انتخابية في اسرائيل لا تصب في مصلحة عملية السلام. المقاطعة مرجحة اما في موضوع موقف اغلبية المسيحيين اللبنانيين من الانتخابات فإن المصادر السياسية المطلعة ترجح استناداً الى معلوماتها ان تقاطع الاغلبية المذكورة انتخابات العام الجاري مثلما قاطعت انتخابات 1992 مع احتمال بسيط بأن يزداد عدد المرشحين المسيحيين عن السابق وكذلك عدد المنتخبين المسيحيين. و"الكتلة الوطنية" التي يتزعمها العميد ريمون اده لن تشارك في الانتخابات وهي ضد اجرائها ومع التمديد للمجلس النيابي سنة واحدة يمكن خلالها ان ينتهي الاحتلال الاسرائيلي لاجزاء من لبنان وان ينسحب الجيش السوري من البلد وفيها يمكن "اجراء انتخابات حرة ونزيهة". و"التيار الوطني" الذي يتزعمه العماد ميشال عون سيقرر في النهاية مقاطعة الانتخابات ولكن بعدما يتأكد من ان السلطة وسورية من ورائها لن تتجاوب مع الشروط التي وضعها وغيره من المعارضين المسيحيين والتي تؤمن حداً ادنى من حرية الانتخابات ونزاهتها وسلامتها. وفي هذه الحال سيحمل الاثنين مسؤولية المقاطعة. والشخصيات السياسية التي تدور في فلك هذا التيار او التي يعتبرها الناس قريبة منه مثل النائبين السابقين الدكتورين البير مخيبر وبيار دكاش تميل الى المقاطعة بدورها. وحزب "الوطنيين الاحرار" قد يقرر في آخر لحظة عدم الاشتراك في الانتخابات اذا لم ينفذ الحد الادنى من شروط المعارضة. هذا مع العلم ان حزب الاحرار وعلى رغم تنسيقه مع التيار العوني، فإنه مستاء هذه الأيام لأن زعيم هذا التيار العماد عون انتقد تحرك المعارضة وتحديداً، توجهها نحو السلطة، وقد يكون ذلك تسبب بقطيعة، بين عون ورئيس الاحرار دوري شمعون، يؤكد العارفون انها لن تستمر. وفي هذا الجو تستبعد المصادر نفسها ان يشارك الرئيس السابق امين الجميل في الانتخابات. علماً أنه قد يكون راغباً في ذلك، لكن احداً في السلطة او في سورية لن يساهم في تكوين ظروف مؤاتية تجعله يتخذ قرار الترشيح لاسباب عدة معروفة. وحزب الكتائب اللبنانية الذي قاطع انتخابات عام 1992 يرجح ان يشترك في الانتخابات المقبلة. لكنه قد لا يحقق النتائج التي يطمح الى تحقيقها لسببين مهمين: الاول تقلص قاعدته الشعبية المسيحية على نحو كبير بسبب السياسة التي انتهجتها قيادته منذ سنوات سواء على الصعيد الداخلي او على الصعيد الاقليمي. ولم تقلص مقاطعته الانتخابات الماضية التقليص المذكور. والثاني موقف غير معلن وقد لا يكون نهائياً، على الاقل حتى الآن، عند سورية وعند فاعليات اسلامية بعدم تمكين حزب الكتائب من تعويم نفسه سياسياً وشعبياً. ذلك ان قاعدته او القاعدة التي يسعى الى استعادتها ستبقى متعلقة بالسياسة السابقة للحزب وبرموزه السابقة ومن شأن ذلك جعل الحزب يغير سياسته الحالية عندما تتغير ظروف ومعطيات خارجية. وذلك ليس في مصلحة المسلمين وسورية خصوصاً بعدما كان هذا الحزب في رأي الفريقين مؤذياً. وفي هذا المجال لا بد من الاشارة الى أن داخل القيادة الكتائبية اصواتاً وان خافتة تدعو الى التصرف في هذا الموضوع وفي مواضيع عدة بكرامة من دون ان يعني ذلك العودة الى سياسة العداء حيال المسلمين وحيال سورية. موقف صفير أين بكركي في هذه "المعمعة" الانتخابية؟ المصادر النيابية المطلعة تؤكد ان البطريرك الماروني نصرالله بطرس صفير لن يتخذ موقفاً رسمياً وعلنياً من الانتخابات المرتقبة اواخر الصيف المقبل. لكنها تؤكد تعاطفه مع موقف المعارضة المسيحية على تنوع اطرافها وتأييده الشروط التي وضعت للمشاركة فيها. وهي تشير الى أن عدم الاستجابة لهذه الشروط أو عدم التجاوب معها او مع البعض الاساسي منها سيجعل موقفه مؤيداً ضمناً للمقاطعة. ما هي مواقف اصدقاء لبنان ولا سيما اصدقاء المسيحيين فيه من موقف هؤلاء من الانتخابات النيابية المرتقبة؟ الولاياتالمتحدة الاميركية، علماً ان اكثرية مسيحية لم تعد تعتبرها صديقة، نصحت المسيحيين ولا تزال تنصحهم بالمشاركة في الانتخابات كما نصحت ولا تزال تنصح السلطة اللبنانية ومعها سورية بتوفير الحد الادنى من الحرية والنزاهة وهي ستستمر في تقديم النصيحتين لاقتناعها بأن المقاطعة تؤذي لبنان، عموماً والمسيحيين خصوصاً. وفرنسا التي كانت اماً حنوناً للمسيحيين والتي تحولت "أماً حنوناً" لكل اللبنانيين نصحت المسيحيين ولا تزال تنصحهم بعدم مقاطعة الانتخابات وبخوضها وان كانت شروطها قاسية او مجحفة. علماً انها تسعى بدورها لتحسين هذه الشروط. والفاتيكان المرجع الديني الاول لموارنة لبنان والكاثوليك نصح المسيحيين ولا يزال ينصحهم بالانخراط في الدولة وفي المؤسسات وبجعل الپ50 في المئة التي هي حصتهم في الدولة بموجب اتفاق الطائف فاعلة واساسية. وذلك يعني عدم ارتكاب خطأ مماثل للذي ارتكبوا بقيادة بكركي عام 1992 عندما قاطعوا الانتخابات. وتكرار الخطأ بحجة عدم الاستجابة لشروط محقة نظرياً وتعجيزية عملياً لأن أحداً لن يتجاوب معها سينعكس سلباً على مسيحيي لبنان اذ ان الفراغ الذي سينتج سيملأه الآخرون ولن يستطيع أحد مستقبلاً مطالبتهم بالتخلي عن حصة لم تكن لهم. فضلاً من ان هذا الوضع سيعزز الهجرة المسيحية. وهو سينعكس سلباً على لبنان العيش المشترك الاسلامي - المسيحي وقد يقضي على مستقبله وطناً مستقلاً. وبريطانيا تشارك ايضاً فرنساوالفاتيكان والاميركيين هذه النظرة الواقعية. طبعاً يشعر كل هؤلاء بالاسى والاسف ليس فقط لان الفاعليات المسيحية لم تتجاوب معهم على الاقل لغاية الآن، وانما ايضاً لانها لم تتلخص بعد من رواسب الماضي واوهامه. ذلك ان معظمها لا يزال يعتقد ان استمرار الوضع الحالي افضل لأنه "سينهار" يوماً وعندما يحصل ذلك يسارع المسيحيون الى "قطفه" وهذا أمر صعب جداً او يكاد ان يقارب المستحيل. وفي مقدم الشاعرين بالاسف الفاتيكان الذي لا يريد ان يحل بمسيحيي لبنان ما حل بمسيحيي العراق وتركيا في الماضي والذي يريد ان يبقى المسيحي في لبنان متمتعاً بالوضعين السياسي والمعيشي وليس المعيشي فقط، كما هو حاصل حالياً في عدد من الدول الاسلامية والعربية. اذ انه يعتقد بأن استمرار المسيحيين في عدم التعقل سيوصلهم الى حال من الاثنتين المذكورتين وهو لا يستطيع عملياً فرض التجاوب مع نصائحه عليهم لان غلاتهم الاكليريكيين هددوا اكثر من مرة بالانشقاق عن الفاتيكان بحجة ان الكنيسة المارونية مشرقية. وهذه الحجة هي من نوع الحق الذي يراد به باطل. ذلك ان هؤلاء تمسكوا في الماضي بالعلاقة مع الفاتيكان واعتبروا انفسهم جزءاً منه عندما كانت سياسته متوافقة مع سياستهم. وعندما اختلفت السياستان تذكروا مشرقية كنيستهم. ولو فعلوا ذلك من زمان لربما تجنبوا أو جنبوا المسيحيين مشاكل كثيرة. مع الاشارة هنا الى أنه من غير العدل تحميل المسيحيين وحدهم قيادات دينية وسياسية مسؤولية وضعهم المتردي الحالي. ذلك ان لهم شركاء أساسيين فيها مباشرة ومداورة منهم مسلمو لبنان ومنهم سورية والسلطة اللبنانية واسرائيل وفرنسا في مرحلة من المراحل ومنهم الولاياتالمتحدة الاميركية ومنهم الفلسطينيون ومنهم الايرانيون وكثر آخرون غير هؤلاء.