لا تزال الحركات الاسلامية - متطرفة ومعتدلة - تقاتل وحدها النظام الدولي الجديد الذي بسط جناحيه على العالم اثر انهيار الشيوعية وانتهاء الحرب الباردة. وتبحث هذه الحركات، على بعد الشقة بين طروحاتها ومواقفها، سبل القبول والتعايش، كل حسب تفسيره لمعنى "الجهاد". وهي تواجه في المقابل برفض مطلق، عنيف في الغالب، من الآخرين داخل المنطقة الاسلامية وخارجها. وبدا، في أعقاب التطورات المتلاحقة الأخيرة منذ وقوع افغانستان في براثن العنف الدموي بين المجاهدين، واتجاه النزاع البوسني صوب حل، ان فترة التقاط النفس التي انتهزتها الحركات الاسلامية - أو ربما ارغمت على انتهازها - كشفت ثلاثة وجوه رئيسية لحركات "الاسلام السياسي" لم يعترض مثقفو بعض تلك الحركات ومنظريها على تسميتها "أمميات اسلامية". يسعى كل منها بطريقته الى فرض أسس "نظام عالمي اسلامي جديد" اثر انهيار الخلافة العثمانية وعقود الهيمنة الاستعمارية و"الاستعمار الجديد" الذي تحولت إليه الحركات الوطنية بعد الاستقلال. ترسم "الوسط" في هذا التحقيق ملامح كل من الامميات الاسلامية الثلاث. قصة الخلاف بين التنظيم الدولي ل "الاخوان المسلمين" و"اخوان السودان" بعد تولي الدكتور حسن عبد الله الترابي قيادتهم العام 1964، هي قصة الانشقاق الاول والأهم والاخطر في تاريخ التنظيم الدولي. وهي في الوقت نفسه قصة بداية تشكيل الأممية الحركية الثانية التي يمثلها الآن "المؤتمر الشعبي العربي والاسلامي" بزعامة الترابي. ولم تخف طهران رفضها إياه وعدم تأييدها قيامه ومقرراته. وإذا كانت أممية "الاخوان" هي اممية التنظيم الدولي لكل فروع "الاخوان" في العالم، فإن "المؤتمر الشعبي العربي الاسلامي" يمثل أممية الحركات الاسلامية بمفهومها الواسع والشامل. وهو ما يختلف عن الطرح الايراني لفكرة "الحكومة العالمية للاسلام" والدعم والتواصل اللوجيستي لحركات التطرف. لماذا اختلف "اخوان" الخرطوم مع التنظيم الدولي؟ وكيف تطور الخلاف؟ ولماذا "المؤتمر الشعبي العربي الاسلامي"؟ وما هو دوره في تشكيل تنظيم اممي في مقابل تنظيم "الاخوان"؟ ثلاث دورات للمؤتمر على رغم أن الخلاف بين "اخوان" السودان والتنظيم الدولي ل "الاخوان" يعود الى الستينات، إلا أن تأسيس "اخوان" السودان الشكل الجديد والمنافس للأممية الاسلامية الحركية حسب وجهة نظرهم، لم يبدأ رسميا إلا عام 1991، وهو موعد انعقاد الدورة الأولى "المؤتمر الشعبي العربي الاسلامي"، اثر أزمة الخليج ووسط زخمها السياسي والشعبي. الدورة الثانية للمؤتمر عقدت العام 1993. وشهدت - على خلاف الدورة الاولى - بعض الخلافات العلنية، كان أهمها محاولة بعض الحركات الاسلامية تغيير اسم "المؤتمر الشعبي العربي الاسلامي" الى "المؤتمر الشعبي الاسلامي". الأمر الذي أيدته ايران خارج المؤتمر، بعدما انتقدت ما سمته "عرقية المؤتمر"، وظهور "نزعات قومية" فيه. إشارة الى وجود كلمة "العربي" في اسم المؤتمر الذي وصفته أيضا بأنه "مشروع للخطابة لا أكثر ولا اقل". وهي تطرح في مواجهته، بنص الدستور الايراني المادة 5 "الحكومة العالمية للاسلام". ونتوقف عند الدورة الثالثة للمؤتمر التي عقدت في الخرطوم خلال الفترة بين 30 آذار مارس واول نيسان ابريل 1995، وحضرها اكثر من 300 مندوب من 80 بلدا عربيا واسلاميا وغربيا. وحضرتها وفود من "الاخوان المسلمين": مصطفى مشهور المرشد الحالي للجماعة في مصر، والجماعة الاسلامية باكستان والجبهة الاسلامية للانقاذ الجزائر وحركة النهضة تونس وحزب العمل مصر وممثل للمرشد الروحي للثورة الاسلامية في ايران ايران خفضت تمثيلها في هذه الدورة. وتمثلت الحركات السياسية الفلسطينية، بما في ذلك حركتا "حماس" و"الجهاد" مثلها المرحوم فتحي الشقاقي، ووفد يمني كبير، ووفود افغانية تمثل جميع الفرقاء، ووفد اردني كبير، ووفود من اميركا وكوريا والشيشان والبوسنة وتركيا التي كلفت رئيسة وزرائها آنذاك تانسو تشيللر مستشارها الشخصي تمثيلها في تلك الاجتماعات. وبعيداً عن الخلافات التي نشبت فيه، قرر المؤتمر انشاء فروع له في كل البلدان، معتبرا الوفود الحاضرة وفودا دائمة العضوية. الامر الذي طرح الكثير من التساؤلات. فهو، من ناحية، يثير التساؤل عن امكان ان يكون "الاخوان المسلمون" جزءا من المؤتمر، وهم اصحاب تنظيم عالمي. وهو يثير، ثانياً، تساؤلات من طبيعة المؤتمر الذي حضرته وفود متنافرة التوجه، شملت فرقاء الساحة الفلسطينية الجبهتان الشعبية والديموقراطية و"حماس" و"الجهاد" و"فتح"، وكل فرقاء الساحة الافغانية جماعة حكمتيار وجماعة الرئيس برهان الدين رباني، وحركات عروبية واخرى اسلامية. حركات متطرفة تنادي بالعنف، واخرى تخالفها. والسؤال الأهم: هل ينجح الترابي في بناء أممية حركية اسلامية عروبية على غرار النهج نفسه الذي اتخذه واتبعه في نشاطه الحركي داخل السودان، بعد خلافه مع "الاخوان" وتبنيه وجهات نظر تقوم على بناء أوسع الجبهات، والانتقال منها لبناء النظام الاسلامي، اذ اسس "جبهة الميثاق الاسلامي" واتبعها بانشاء "الجبهة القومية الاسلامية" التي وصل من خلالها إلى الحكم عبر انقلاب الفريق عمر البشير العام 1989، خصوصاً انه لا يزال يلقى معارضة من قِبَل فصائل مهمة في الحركة الاسلامية في السودان؟ الترابي: لا للبيعة مرت قصة الخلاف بين قيادة "الاخوان" وحركة "الاخوان" في السودان، ثم تشكيل "المؤتمر الشعبي العربي الاسلامي" كتنظيم اممي في مقابل تنظيم "الاخوان" بمراحل عدة وفصول في قصة طويلة ابعادها فكرية وتنظيمية، شرحها الترابي في كتاباته: في المرحلة الاولى، ابان الخمسينات، كانت العلاقات الحركية الاسلامية اولى صور البُعد المكاني الذي تجاوز المحلية الى العالمية، من حيث النظر والعمل. فقد عوّلت الحركة الاسلامية السودانية، لانبعاثها الاول، على ورود تيار اسلامي عالمي قَدِمَ عليها من مصر باسم "الاخوان المسلمين". وكان النتاج الحركي في تلك الفترة ظهور جماعة الداعية السوداني الشيخ علي طالب الله التي نشأت منتسبة الى حركة "الاخوان" في مصر، باعتبارها فرعاً لها في السودان. واتخذت تلك الجماعة الادبيات الاخوانية المصرية مرجعاً، والتجربة المصرية نموذجا. وسُمي رأس الحركة "مراقبا"، كما هي الحال حتى الآن في الاردن وغيرها مثلاً، وذلك على النهج نفسه الذي اعتمده "الاخوان" في الفروع العالمية للتنظيم المركزي في مصر، الذي ينفرد وحده بوجود "المرشد العام للاخوان المسلمين". وعُين الشيخ طالب الله مراقبا ل "أخوان" السودان، وعضوا في الهيئة التأسيسية ل "الاخوان" في مصر العام 1948. وخلال المرحلة الثانية، ابان الستينات، التي شهدت ظهور تجمعات اسلامية اخرى في السودان وغيره، طرحت قضية تحديد شكل تنظيمي محدد للعلاقة بين جماعات "الاخوان" في كل الدول العربية ومصر. وقام "مكتب تنفيذي للاخوان"، شارك فيه سودانيون وآخرون من الدول العربية. فتميزوا هم و"اخوان" العراق، بالاعلان انهم لا يلتزمون ولا يُلزمون إلا تنسيقا، وتعاونا طوعاً. وكان الدكتور الترابي هو ممثل "الاخوان" السودانيين في الهيئة التأسيسية في مصر خلال هذه الفترة، بالتحديد بدءاً من عام 1964. وفي المرحلة الثالثة، إبان السبعينات، سَفُر الخلاف، إذ عرض "الاخوان" في مصر المركز العام في القاهرة بل فرضوا على "الاخوان" في كل الاقطار، علاقة توحيدية تضع التنظيمات الإخوانية في كل الاقطار، باعتبارها "شُعباً" تابعة للقيادة في مصر. وذلك في اطار تنظيمي محدد، والتزام محدد يقوم على إعلان البيعة لهذه القيادة. وكانت وجهة نظر "الاخوان السودانيين" أنه يجب الاقتداء بتطور الرسالة المحمدية. "فالنبي الكريم، بُعث للناس كافة، ولكنه لم يُأْمَر بالسياحة في البسيطة، وإنما أوصي ببسط الدعوة بخطاب المحل الأقرب فالاقرب، دون تحيز عشيرته - فأهل مكة - فالعرب - فمن حولهم". ورأى "إخوان" السودان ان الدولة الاسلامية عبر تشكلها الاول، لم تؤسس على علاقة مركزية مطلقة، وإنما روعي فيها تباعد الاقاليم وتباينها. "كما تركت الامصار تستقل بمذاهبها الفقهية دون نمطية رسمية قاهرة. بل دعت ضرورات الواقع الاقليمي والسياسي احيانا الى الاعتراف بمشروعية تعدد الأممية" حسبما ذكر الترابي في احد مؤلفاته عن تاريخ الحركة الاسلامية في بلاده. واعلنت الحركة الاسلامية السودانية بقيادة الترابي، انها لن تقبل نظام التبعية والبيعة المركزية منهجا في العلاقات مع المركز العام. غير ان تتابع الظروف وتطورها، جعل من الحركة الاسلامية السودانية التي دافعت عن "المحلية" في مواجهة "المركزية"، تسعى بنفسها الى تكوين أممية أخرى. أممية المؤتمر العام اختلف "الاخوان السودانيون" من نظرة محلية، وبُعد عالمي فقهي في تدبر العلاقات، لكن ظروف المحنة التي مرت بها حركتهم في ظل الحكومات العسكرية، خصوصاً في الايام الاخيرة من حكم الرئيس السابق جعفر نميري، دفعت الكثير من قياداتهم إلى الهجرة. وجرى احتكاك عالمي واسع بين قياداتهم والقيادات الحركية الاسلامية الاخرى في الخارج. وحينما عادت الحركة بقوة إلى الساحة السودانية بعد انقلاب الفريق البشير، كانت مزودة زاداً كبيراً في الاتصالات والعلاقات العربية والعالمية، جعلها مهيأة لاعلان "أممية مستقلة" تمثل هي مركزها. وهنا لاحت الفرصة لانشاء "المؤتمر" الذي تلتقي فيه كل الحركات الاسلامية، للتشاور والتنسيق وفقا لما اعلنته الحركة السودانية في السبعينات. خلافات مع الترابي يتعرض "المؤتمر الشعبي العربي الاسلامي" للهجوم من قبل جهات عدة، فايران تراه محتوياً على تعصب عرقي وقومي. ورأى فيه ممثلون لحركات اسلامية اخرى انه وقيادته ممثلة في الترابي، يميلان الى المهادنة، حسب وجهة نظر بعض الفرق الاسلامية في الجزائر، ومنها قادة جبهة الانقاذ الذين يخشون ان تكون الخرطوم لعبة للاصوليين حسب وصف صحيفة "لو فيغارو" الفرنسية. غير ان الترابي لا يواجه معارضة من الخارج فحسب، بل يواجه معارضة من الفرق الاسلامية داخل السودان نفسه. تنظيم "الاخوان المسلمين" في السودان - المرتبط بالتنظيم العالمي للاخوان - لا يتورع فريق منه، في معظم المناسبات، عن إعلان عدم تبنيه طروحات الترابي، خصوصاً اثر اعلان القطيعة بين "الجبهة القومية الاسلامية" وتنظيم "الاخوان المسلمين" في السودان. ووصف الشيخ سليمان ابو نارو قائد "الاخوان"، المنافس للقائد المعتمد من قبل قيادة "الاخوان" في القاهرة الصادق عبدالله عبدالماجد، وصف النظام السوداني الحالي بأنه "نظام غير اسلامي، وان اسلامه مجرد شعارات، وان الترابي وجماعته "يأتون اعمالا كفرانية"، اعتبر انها تمثل "خروجا عن الكتاب والسنة". الامر الذي دفع الشيخ عبدالماجد الى اصدار بيان ينفي آراء الشيخ ابو نارو، ويؤكد مبايعة "الاخوان" النظام السوداني. وجاء صدور هذا البيان مواكبا لزيارة مصطفى مشهور للسودان في مناسبة انعقاد الدورة الثالثة ل "المؤتمر الشعبي العربي والاسلامي" العام 1995. وأكد مشهور في الخرطوم ان عبدالماجد هو ممثل "الاخوان" في السودان. والى جانب جناح ابو نارو في "الاخوان"، هناك "انصار السنة المحمدية" الذين يعارضون الترابي وجماعته بعدما ايدوا "ثورة الانقاذ الوطني" في البداية. غير انهم غيروا رأيهم في الترابي والنظام، حتى ان الحكم السوداني اضطر إلى ملاحقة اعضاء منهم واعتقالهم. كما نسبت اليهم اجهزة الامن القيام بعمليات ارهابية داخل السودان حاليا، كان اخطرها ما حدث في مسجد "انصار السنة المحمدية" في ام درمان في شباط فبراير 1995 عندما قتل 16 مصلياً وجرح نحو 20 آخرين، قيل انهم ينتمون الى "جماعة التكفير والهجرة". وعلى رغم هذه الخلافات خارج السودان وداخله مع "المؤتمر الشعبي العربي الاسلامي"، فإن المؤتمر بقيادة الترابي يسير نحو استكمال هياكله على المستوى العالمي في مختلف مجالات النشاط الحركي. وإذا كانت الدورة الثالثة شهدت إعلان الحاضرين فروعا للتنظيم في كل مكان، فإن قيادة المؤتمر ارسلت الى تلك "الفروع" رسالة في 25 ايلول سبتمبر 1995 تبلغهم فيها أن الامانة العامة للمؤتمر، في سبيلها لتنفيذ قرارات الدورة الثالثة، قررت الشروع في اقامة المهرجان العالمي للشباب، والمؤتمر التأسيسي للكيان النسائي الاسلامي العالمي. كما طالبت الفروع بترشيح ممثلين عنها لحضور المهرجان والمؤتمر.