جمعت الخرطوم الاسبوع الماضي ما يصعب على غيرها جمعه، فاستضافت قوميين واسلاميين، وشيعة، رجالاً في الحكم وآخرين في المعارضة، جنرلات سابقين ورئيس استخبارات وشخصيات "علنية" واخرى "سرية"… ومع هؤلاء جميعاً عدد ضخم من الصحافيين العالميين ليشهدوا تتويج زعامة الدكتور حسن الترابي للحركة الاسلامية الحديثة. وانتهى المؤتمر الشعبي العربي والاسلامي الذي اعلن انه يجتمع في دورته الثانية "لمناقشة قضايا الامة" وعلى رأسها افغانستان والصومال والبوسنة وفلسطين ومشاريع النهضة الاسلامية وواقع المسلمين في ظل النظام الدولي الجديد وغير ذلك من القضايا. وكان تظاهرة دعم للسودان الذي انصرف التلفزيون الرسمي فيه ساعات طويلة لبث لقطات تجمع مشاركين جاؤوا من 60 دولة، وبينهم الترابي، وحوله حشد من المواطنين في اهازيج حماسية. كأنما ارادت القيادة السودانية ان تؤكد لشعبها ان البلاد ليست معزولة، وان تلفت العالم، خصوصاً الولاياتالمتحدة التي نالها الكثير في خطابات المؤتمر، الى ان السودان ليس وحده. واستطاع السودان ان يوظف المؤتمر خير توظيف بالتظاهرات الشعبية التي عقدت في الساحة الخضراء، وهي ساحة جديدة انشأتها ولاية العاصمة لتكون حديقة شعبية يجتمع فيها الشعب وقت المناسبات السياسية. ما يذكر بالدول الايديولوجية التي غالباً ما تستعين بمثل هذه الساحات. وبدا تأثير الترابي واضحاً في توصيات المؤتمر التي اعتدلت عندما تحدثت عن "اتفاق غزة - اريحا اولاً" اذ دعت الى "رفض الاتفاق" وليس الى ادانته او اسقاطه. ورضي ممثلو "حماس" بذلك على رغم انهم من انصار اسقاط الاتفاق… "فنحن لا نتوقف عند الكلمات والاهم هو المضمون والسياسة التي ستعقب التوصيات" كما قال عضو اللجنة السياسية للحركة السيد خالد مشعل. لكن ممثلي "الجهاد الاسلامي" و"الجبهة الديموقراطية" و"حزب الله" احتجوا بشدة على التوصيات، حتى ان احدهم أغضب الترابي عندما استطرد في القاء خطبة حماسية دان فيها الاتفاق، في اللحظات الاخيرة للمؤتمر، وبعد جلسة ختامية استغرقت اكثر من 3 ساعات. السودان يراعي فرنسا وغلّب السودان مصالحه عندما "تهرب" من مطالبة البوسنيين بتضمين البيان الختامي دعوة المسلمين الى مقاطعة السلع البريطانية والفرنسية لمدة اسبوع احتجاجاً على موقف الدولتين في قضية بلادهم. ذلك ان باريس بعثت باشارات الى الخرطوم عن رغبتها في تحسين العلاقات الثنائية، علماً ان السودان يحتاج الى "منفذ اوروبي" يواجه به الحصار الغربي المضروب عليه… وهكذا وضعت لجنة الصياغة الولاياتالمتحدة محل فرنسا. الا ان البوسنويين احتجوا معلقين آمالاً على واشنطن لدعم قضيتهم، فوعد الترابي في مؤتمره الصحافي اضافة فرنسا الى بريطانيا واميركا في صيغة البيان النهائية. لكن البيان صدر خالياً من الاشارة الى فرنسا. ولم يعرف كيف حدث ذلك. اما الحكومة السودانية فأبقت نفسها بعيدة اذ اعلن الرئيس عمر البشير من قاعة مجاورة للمؤتمر ان قرارات المؤتمر "غير ملزمة للحكومة"، وان العلاقة بالمؤتمر هي "علاقة دولة بمنظمة شعبية". افكار الترابي واشار عدد من القيادات الاسلامية الى ان الجانب الاهم في التوصيات هو الجانب الفكري وليس السياسي، ذلك ان المؤتمرين لا يملكون في بلدانهم صلاحية تنفيذ القرارات السياسية. لكن القيادات الاسلامية تستطيع ان تؤثر في انصارها اذا تبنت فعلاً آراء الترابي التي وردت في التوصيات واهمها "الحرص على سيادة حقوق الانسان والشورى والانسجام داخل كل دولة"، و"مواصلة الحوار بين التيار العربي والاسلامي وسائر القوى العربية والاسلامية"، و"الحرص على اقرار حقوق المرأة كما بيّنها الاسلام وتمكينها من اداء رسالتها في الحياة في كل اوجهها" واخيراً "اعمار الحوار والتوحيد بين مذاهب المسلمين تأكيداً لوحدة المسلمين"… علماً ان اياً من هذه الافكار كفيل بأن يفجر خلافاً بين شتى التيارات الاسلامية. وكان الترابي تطرق الى هذه الافكار في كلمته الافتتاحية فدعا الى تحرير المرأة وعدم التمذهب، وحرية الاديان وسماحتها، والاجتهاد. وانتقد الحركة الاسلامية مركزاً على ما وصفه "مرحلتها الاولى"، عندما "جمدت تلك الدعوة في مقتضى المرحلة الاولى فلم ترفع الا شعارات مبدئية ومعان عامة لا تفصلها ولا تنزلها على الواقع في مناهج ومشروعات، واضطرت احياناً الى الحدة في التعبير والاحكام … فبدت كأنها تنطع وتطرف وتكفير". وتحدث ايضاً عن اختلال المعادلة بين "صفوية بعض الحركات الاسلامية وانفتاحها على الشعب" و"بين حريتها وسلطة النظم القائمة"… وليست هذه الافكار جديدة، لكن الترابي وجدها فرصة لترويجها، ووصفه ليث شبيلات العضو السابق في البرلمان الاردني بأنه مجدد اسلامي، ملاحظاً "ان اهم افكار الترابي هي دعوته الحركات الاسلامية الى ان تكون حركة جماهيرية شعبية". ولا ينفي الدكتور اسحق الفرحان رئيس جبهة العمل الاسلامي في الاردن - وهو متحمس آخر للترابي - وقاضي حسين احمد امير "الجماعة الاسلامية" في باكستان - وهو اقل حماسة - انهما تأثرا بأفكار الترابي، لكن احمد يقول: "ان مشروع الجبهة الاسلامية الباكستانية يجمع مختلف التيارات المؤمنة بالشرع الاسلامي، لكننا لم نحل الجماعة الاسلامية فهي لا تزال موجودة وتعمل بنشاط"، اما الترابي فابتعد تماماً عن "الاخوان المسلمين" منذ منتصف الستينات واعتمد اسلوب العمل الشعبي، ولا يزال "الاخوان" موجودين في السودان حزباً منفصلاً عن تياره. بين الترابي و"الاخوان" ويقول قيادي اسلامي طلب عدم ذكر اسمه: "خلف المجاملات وكلمات المناصرة والتأييد هناك صراع هادئ بين الترابي والاخوان المسلمين على قيادة العمل الاسلامي العالمي". ويبدو ان القيادات التقليدية في "الاخوان" بات يقلقها امتداد نفوذ الترابي فتنظيم الاخوان "الصفوي" اخذ ينحسر امام العمل الجبهوي والشعبي في اليمن والاردنوالجزائر والكويت وبالطبع السودان. كما ان الشيخ راشد الغنوشي ليس بعيداً عن فكر الترابي. وكانت باكستان آخر من نقل فكرة الجبهة الاسلامية اليها. ويمكن ان تضاف الى القائمة ماليزيا التي يشارك اسلاميوها "المنفتحون" في الحكم وفي مواقع قيادية، بينما لا يزال حزبها الاسلامي محافظاً على ثوبه القديم. وينفي الشيخ مصطفى مشهور نائب مرشد "الاخوان" في مصر التي لا تزال تحافظ على الخط التقليدي، وجود اي تنافس او خلاف بين "الاخوان" والترابي، يقول: "لا يوجد خلاف جوهري، فهو يريد الانطلاق مع جماهير الشعب من دون الاهتمام بتأصيل الافراد وتربيتهم تربية عميقة مما ستكون له انعكاسات عندما يصلون الى الحكم اذ ستكثر حينئذ الاخطاء". ويضيف مشهور الذي شارك في المؤتمر وترأس احد جلساته: "ليس المهم هو الوصول الى الحكم او من يصل الى الحكم، ما يهمنا هو ان يحكم بالاسلام وان تكون الدولة قوية فمشروعنا كبير يشمل بناء الدولة الاسلامية الواحدة وهذا لا يتم الا بوجود وحدات قوية متماسكة في الحكم". وعن بروز الترابي كقيادي اسلامي يقول: "انه متحرك ونشيط ومؤمن بفكرته ومخلص لها، كما ان ظروف السودان ساعدته اذ لا يواجه قيوداً تحد من حركته. في اي حال لا تنافس على الزعامة، واذا وجد فهو من اجل خدمة الاسلام. ومن يستطيع ان يوحد المسلمين او اكبر عدد منهم خلفه فليفعل ما دام انه ملتزم الكتاب والسنة". حفلة غنائية ورتب السودانيون للمؤتمرين الاطلاع على تجربتهم، او على افكار الترابي عند تطبيقها، بدءاً من طرحه الخاص بالفن والمرأة، فحضروا حفلة غنائية، استمعوا فيها الى الموسيقى، والى فتيات وفتيان يتغنون بقصائد حماسية عن الجهاد والاستشهاد. وخرج الحضور يتغامزون مازحين عن "الشيوخ والعلماء الذين حضروا حفلة غنائية للمرة الاولى"، فالموسيقى لا تزال من المحرمات لدى معظم العلماء، فضلاً عن مشاركة النساء في حفلات عامة يحضرها رجال. وكان الحضور النسائي ملفتاً، اذ شاركت القيادة النسائية السودانية في حضور مناسبات تكريم الضيوف، وصعدت نسوة الى المنصة للادلاء برأيهن في قضايا عدة. وتحدثت سيدة نيجيرية الى العلماء عن ضرورة تحرير المرأة المسلمة، وطالبتهم باعادة النظر في مواقفهم التقليدية منها. واطلع المؤتمرون ايضاً على تجربة الحكم في السودان ونظام "المؤتمرات الشعبية" التي ستتوج بمجلس وطني منتخب في العامين المقبلين، وذلك في جلسة طويلة مع رئيس المجلس الانتقالي برلمان معين السيد محمد الامين خليفة. واجتمعوا ايضاً بقيادات في العمل التطوعي الذي بات يشكل قطاعاً رئيسياً في الحياة اليومية، فكثير من المشاريع في السودان يتم من خلال مؤسسات اجتماعية تطوعية. واغتنم السودانيون وجود بعض المتخصصين والخبراء من اعضاء المؤتمر كرئيس الاركان السابق في باكستان الجنرال ميرزا اسلم بيغ الذي اجتمع مع كبار الضباط في الجيش. وجامل المؤتمر وامينه العام الترابي العراق الذي حظي بقدر كبير من الاهتمام في التوصيات بما في ذلك الاشادة بقيادته… وهو ما لم يحصل عليه الرئيس السوداني نفسه. كما حصل العراق على معاملة خاصة اذ لم توجه دعوات الى قواه المعارضة. اما الجزائر فمثل جبهتها الاسلامية عضوا الهيئة التنفيذية فيها عبدالله انس وقمرالدين خربان. وعندما اعتلى الاول المنصة قوبل بتصفيق طويل لم يحصل عليه اي متحدث قبله ولا بعده. وفاجأ الحضور بالدعوة الى تشكيل وفد وساطة بين الحركة الاسلامية والحكومة الجزائرية. وهو ما تبناه بالفعل المؤتمر. اما مصر فاكتفي بتمثيل الاخوان لها، علماً ان دعوة وجهت الى الحزب الوطني الحاكم… لكن احداً لم يحضر. كما وجهت دعوة الى الحكومة الجزائرية. واعلن الترابي انه لم يوجه دعوة الى الجهات المتطرفة والمؤمنين بالعنف في مصر… وهي اشارة ايجابية الى القاهرة. القومية والاسلام وركز المؤتمر على العلاقة بين القومية والاسلام، وان لم يكن هناك حوار حقيقي مثلما دعا اليه المؤتمر، اذ بدا القوميون كأنهم ضيوف على الاسلاميين. ولم يخف الترابي طموحاته ان يكون المؤتمر الشعبي بديلاً او موازياً للمنظمات الاقليمية الاخرى، بما في ذلك منظمة المؤتمر الاسلامي والجامعة العربية التي وصفها بپ"العجز". وأقر المؤتمر في توصياته تشكيل مجلس دائم من 50 عضواً، وعقد مؤتمر سنوي، وتوفير مصادر مالية واستثمارات للمؤتمر كي يستطيع القيام بمهمته على نحو مستقل. وبدا الترابي سعيداً في ختام المؤتمر بعدما حصل على الاجماع الذي تمناه من الحضور للاستمرار في قيادة المؤتمر الشعبي. ومثلما ارادت الحكومة السودانية ان تفيد من المؤتمر فعلت المعارضة الشيء نفسه فوصفته من القاهرة بأنه "محور للتآمر باسم الشعوب العربية والاسلامية وهو مواصلة للمخططات التي اقرها المؤتمر الاول عام 1991". كما قال السيد محمد عثمان احمد سكرتير الحزب الاتحادي الديموقراطي الذي اضاف ان "الترابي يريد توحيد العناصر المتطرفة لتنفيذ هذه المخططات التي تهدف الى زعزعة الاستقرار في المنطقة كما ظهرت نتائجها في مصر والجزائر وتونس والولاياتالمتحدة خلال العامين الماضيين.