اذا كانت قيمة الاضرار التي لحقت بمحطتي كهرباء الجمهور وبصاليم من جراء القصف الاسرائيلي، قدرها وزير الموارد المائية والكهربائية ايلي حبيقة بحوالى 60 مليون دولار، فان هذه الخسائر هي جزء ضئيل من الخسائر الفادحة التي لحقت بالاقتصاد اللبناني نتيجة الاعتداء الاسرائيلي الأخير وغاراته المتكررة، سواء كان ذلك من الاضرار المباشرة وغير المباشرة، والتي تقدر بمئات ملايين الدولارات. وتقوم حالياً لجنة مشتركة من وزارة المال ومجلس الانماء والأعمار باتصالات مع المؤسسات والادارات العامة لاحصاء هذه الاضرار ووضع تقرير مفصل بها. اضافة الى الاضرار التي اصابت البنية التحتية من محطتي تمويل الكهرباء، وبعض المنشآت العامة من طرقات وجسور ومبان، هناك خسائر كبيرة لحقت الاقتصاد الوطني نتيجة الشلل الكبير الذي أصاب مختلف القطاعات، ويمكن تقدير هذه الخسائر من خلال عملية حسابية للناتج الوطني البالغ تسعة مليارات دولار سنوياً، وعلى اساس 300 يوم عمل في السنة، فتكون النتيجة نحو 30 مليون دولار يومياً، او اكثر من مئتي مليون دولار اسبوعياً. ويمكن تحديد أهم الاضرار على الشكل الآتي: - اضرار تجارية ناتجة عن الحظر الذي فرضته اسرائيل على المرافئ اللبنانية وتأخير ادخال البواخر، الأمر الذي أدى الى شل حركة مرفأ بيروت وتقليص عدد البواخر من 12 باخرة الى ثلاث بواخر يومياً. ونتج عن ذلك اضرار لحقت بخزينة الدولة بسبب خفض الواردات والرسوم في المرفأ بنحو مليوني دولار يومياً، فضلاً عن الاساءة الى سمعة المرفأ الخارجية وتحول السفن الى المرافئ المجاورة، مع العلم ان مرفأ بيروت استطاع خلال السنوات الأخيرة استعادة نشاطه السابق ليكون بين المرافئ المتنافسة في منطقة البحر المتوسط. - اضرار ناتجة عن توقف الانتاج في عدد كبير من المصانع والمؤسسات الانتاجية من زراعة ومصارف وبناء وسياحة وغيرها. - اضرار ناتجة عن توقف العمل في تنفيذ الاعمار، خصوصاً ما يعود منها الى البنية التحتية، ومن هذه المشاريع مشروع المدينة الرياضية الذي توقف العمل فيه بقرار من الشركة البريطانية الملتزمة حتى اشعار آخر. - اضرار ناتجة عن شل الحركة في مطار بيروت الدولي، والخسائر التي اصابت شركة طيران الشرق الأوسط من جراء الغاء الحجوزات الأمر الذي من شأنه ان يؤثر على حركة السياحة في لبنان. وتشاء الصدف ان يعلن وزير السياحة اللبناني نقولا فتوش في اليوم ذاته الذي حصل فيه الاعتداء الاسرائيلي، ان دخل لبنان من السياحة بلغ 700 مليون دولار عام 1995، وان الموسم سيكون موسماً سياحياً عربياً في عام 1996. وهكذا لم يعد مستغرباً على الاطلاق التوقيت الذي تعتمده اسرائيل لضرب بعض المناطق والمرافق والذي يصادف غالباً في بداية الموسم السياحي وبداية تحريك العجلة التي تؤكد صدقية لبنان الذي استطاع تحقيق قدر مهم من الاستقرار الأمني والسياسي، وهو ما يسعى الى تحصيله من سمعة خارجية. لقد قسمت كل الدراسات الاقتصادية والمالية والمصرفية، وحتى الاجتماعية، سنوات الحرب اللبنانية الى مرحلتين: الاولى، بين عامي 1975 - 1982، وكانت مرحلة مقبولة اقتصادياً واجتماعياً، على رغم الخراب والدمار والخسائر التي نتجت عن العمليات العسكرية. وقد صمد خلالها الاقتصاد اللبناني. الثانية، بين عامي 1982 و1990، وشهدت الاجتياح الاسرائيلي لحوالي نصف الأراضي اللبنانية، ونتائج افرازاته في مختلف المناطق، وأهمها قطع التواصل بين اللبنانيين وتجزئتهم، وانعكاس ذلك على اوضاعهم المعيشية ومسيرة حياتهم الاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن تدمير معظم المرتكزات الأساسية للاقتصاد اللبناني حتى اصبح الأمن الاقتصادي والاجتماعي مهدداً بكارثة خطيرة. ويبدو ان ذلك كان هدفاً رئيسياً من أهداف العدو الاسرائيلي. وهكذا استمرت الاعتداءات الاسرائيلية المتكررة والتي اصبحت يومية تقريباً بأهدافها الواسعة والمتنوعة، خصوصاً من حيث اغراضها الاجتماعية والاقتصادية. ويأتي الاعتداء الاسرائيلي الأخير في اطار السعي لتحقيق تلك الاهداف. ويبدو ان له بعدين اساسيين: اولهما سياسي ويلخصه المحللون السياسيون بأنه محاولة اسرائيلية تكتيكية لافراغ قضية الصراع بين لبنان واسرائيل من محتواها، خصوصاً في ظل الاهتمام الاميركي لدفع مفاوضات السلام الى الامام، وذلك بهدف تحويل هذه القضية الى مشكلات أمنية عدة، ويأتي في هذا السياق الاعلان الاسرائيلي "ان الهدف من عمليته العسكرية هو الضغط على لبنان لمنع عمليات المقاومة". اما البعد الثاني فهو اقتصادي ومعيشي لجهة الضغط على اللبنانيين في مختلف المناطق، والحاق الاضرار الفادحة بأرواحهم وممتلكاتهم ومصالحهم، خصوصاً ان الاعتداءات شملت للمرة الأولى الضاحية الجنوبية في بيروت، مع العلم ان لهذه الاعتداءات انعكاسات سلبية على الاقتصاد اللبناني تجاوزت القيمة المباشرة للاضرار، الى زعزعة الثقة الدولية والعربية بالوضع اللبناني وما يستتبع ذلك من تأثير على تدفق الرساميل الخارجية للاستثمار والتي لا تقل عن 300 مليون دولار شهرياً. ومن الطبيعي ان تؤدي الاعتداءات الاسرائيلية الى تأخير عملية محاولات الاستثمار الداخلية قبل الخارجية، وهذا أمر طبيعي، لان صاحب المؤسسة المقيم يتردد تلقائياً في تفعيل مؤسسته وتطويرها بينما يفضل المستثمر الجديد التريث. تطور النشاط الاقتصادي لقد حقق لبنان تقدماً في ادائه الاقتصادي العام خلال سنة 1995 تجلى في عدد من الانجازات الايجابية في مؤشراته الماكرو اقتصادية يتقدمها ارتقاء معدل النمو، وثبات حالة الاستقرار النقدي، وتوسع حجم السوق المالية، وتواصل تدفق رؤوس الأموال، والسيطرة على تنامي عجز الموازنة العامة، وتسجيل فائض في ميزان المدفوعات. لكن هذا النمو الاقتصادي صاحبه، مؤشرات سلبية، وتحديداً تصاعد مستوى ومعدل نمو المديونية الحكومية، وارتفاع وتيرة التضخم، وتزايد ارقام العجز التجاري. وتمكن الاقتصاد اللبناني من احراز قفزة مهمة في معدل نموه الذي بلغ نحو 8 في المئة في العام 1994، ما يعكس زخماً اكبر في الدورة الاقتصادية العامة، وتعتبر معدلات النمو أرفع مستوى من المعدلات التي تحققها دول متقدمة ونامية على حد سواء، وحتى بالمقارنة مع معدلات نمو "النمور الآسيوية" 6 في المئة في المتوسط. لكن معدل النمو الاقتصادي المحقق في لبنان خلال عام 1995 يبقى دون المعدل المنشود في خطة اعادة الاعمار الرسمية 10 في المئة ما يشير الى عدم اكتمال عملية الاستخدام الامثل لموارد الدولة المالية والبشرية. وتشير توقعات مصرفية الى ان مسيرة اعادة الاعمار والانماء في لبنان سيرافقها نمو أرفع مستوى في الناتج المحلي الاجمالي يقدر في حدود 9 في المئة ليصل مستوى الناتج المذكور الى حوالى 9.5 مليار دولار في نهاية عام 1996. وتبعاً لذلك فانه من المرتقب تحسن حصة الفرد من هذا الناتج والتوسع في وتيرة التضخم ليتراوح معدله في حدود 17 في المئة عام 1996، ويعود ذلك بشكل اساسي الى تواصل العجز في الموازنة العامة والضخ النقدي. وبالامكان تطويق هذا التضخم اذا نجحت الحكومة في زيادة تحصيل الايرادات العامة ورفع مستوى هذه الايرادات بشكل عام. اضافة الى توسع الحكومة في اعمال تخصيص القطاع العام من خلال عقود "B.O.T" وعقود التأجير الطويل الأجل. ولكن من المرجح ان يبقى العجز المالي للقطاع العام كنسبة من الناتج المحلي الاجمالي عند معدل مرتفع في حدود 20 في المئة عام 1996. المنافسة الاسرائيلية كل تلك المؤشرات الايجابية يبدو انها لم ترض اسرائيل. خصوصاً ان لبنان يعتبر ان نضوج عملية السلام بشكل نهائي وشامل في المنطقة قد يسمح له بالاستفادة من الفرص والظروف الاقتصادية والمالية المستجدة على الصعيدين الاقليمي والمحلي وحتى على الصعيد العالمي، ما سيسمح بزيادة الدفق المالي الخارجي الى اقتصاد يتم اعادة اعماره وانمائه مع توافر فرص استثمارية واعدة، الأمر الذي يعزز من مقدرة لبنان على تطوير مركزه المالي في المنطقة والنمو بشكل مستديم. لذلك تعمل اسرائيل جاهدة ومنذ اكثر من 20 سنة على ضرب الاقتصاد اللبناني بتجربته الرائدة في المنطقة. ولكن هل تستطيع اسرائيل منافسة لبنان؟ كانت المصارف وما زالت واجهت قطاع الخدمات الذي سيطر على ثلثي النشاط الاقتصادي في لبنان قبل الاحداث، كما شكلت الشريحة الأكثر ديناميكية ضمن القطاع الخاص، حيث لعبت دوراً فاعلاً في تحريك عجلة الاقتصاد وتوفير التمويل لجميع القطاعات الاقتصادية. وتواجه المصارف اللبنانية اليوم تحديات كثيرة ومتنوعة، ولكن اهمها تحديات السلم الآتي، وفي هذا المجال يرى الدكتور هشام البساط نائب رئيس جمعية مصارف لبنان ان السلم مع اسرائيل يثير تحديات خطيرة بالنسبة الى لبنان في عدد من المجالات الاقتصادية والمالية، اذ تشكل اسرائيل منافساً قوياً للبنان، خصوصاً في مجال الخدمات المالية والسياحية. اما بالنسبة الى القطاع المصرفي، فيجب عدم المبالغة في تقدير قوته وفعاليته. كما يلزم في الوقت نفسه عدم الاستخفاف بهذا القطاع المصرفي الأكثر تنوعاً وتفرعاً والأكبر حجماً بالنسبة الى لبنان، حيث يوجد في اسرائيل اليوم 28 مصرفاً تجارياً و16 مصرفاً عقارياً و9 مصارف للانماء و9 مؤسسات مالية مختلفة. ويتركز معظم النشاط المصرفي في ثلاثة مصارف تجارية هي: 1 - بنك هابو عليم بنك العمال تأسس عام 1192، ويبلغ رأسماله 2،2 مليار دولار، ودائعه 35 مليار دولار. 2 - بنك لؤمي / اسرائيل تأسس عام 1902 وكان بنك الوكالة اليهودية، رأسماله 1.9 مليار دولار وموجوداته 34.4 مليار دولار. 3 - بنك الخصم الاسرائيلي الذي ورث البنك العثماني في فلسطين، ورأسماله 1.1 مليار دولار وموجوداته 20 مليار دولار. وتشكل موجودات هذه المصارف الثلاثة حوالى 91 في المئة من مجموع القطاع المصرفي في اسرائيل. كما بلغت عام 1993 نسبة الموجودات المصرفية الى عدد السكان: 17000 دولار في اسرائيل، وهو رقم قريب من مستوى الدول الصناعية، في مقابل 3670 دولاراً في لبنان. اما نسبة التمصرف فهي 5000 شخص للفرع الواحد في اسرائيل، و5110 شخص للفرع الواحد في لبنان. واذا اخذنا بنك هابو عليم المصرف الأول في اسرائيل عام 1994، فان رأسماله يساوي 5،5 اضعاف الأموال الدائمة في مجمل القطاع المصرفي اللبناني، وموجوداته 2.7 مرة من موجودات المصارف في لبنان، وودائعه اكثر من ضعف حجم ودائع القطاع المصرفي في لبنان. وعلى رغم ذلك، لم يكن اداء المصارف الاسرائيلية خالياً من الأزمات. فلقد اضطرت المصارف في اعقاب الانهيار الذي لحق بالبورصة عام 1982 الى شطب الديون التي ترتبت على القطاع الصناعي والزراعي لعدم قدرة هذه القطاعات على تسديد التزاماتها في مقابل شراء الحكومة لمعظم اسهم المصارف الثلاثة الكبرى، مع وعد باعادة بيع هذه الاسهم للقطاع الخاص خلال عامي 1993 و1994، وبالفعل بدأت السلطات الاسرائيلية بيع حصصها الى القطاع الخاص. واذا كان لبنان في الماضي "بوابة" الغرب والمشرق العربي فان اسرائيل تخطط كي تجعل من نفسها مركزاً لعالم عربي ممزق تسوده الانقسامات والنزاعات، لذلك فان المصير العربي المشترك على محك مستقبل موحد، هو السبيل الوحيد لضمان استمرارية العرب كاقطار ومجتمعات، الأمر الذي ينطبق على لبنان الذي لن ينقذه من الانقسام الطائفي والتمزق السياسي معاً غير تدعيم وحدته الوطنية. وعلى رغم كل هذه التطورات، وخلافاً لكل الاهداف الاسرائيلية، فان لبنان يمضي في طريقه ليكون مركزاً مالياً اقليمياً في منطقة الشرق الأوسط، وبيروت مدينة للمؤتمرات الاقليمية والدولية. ومن هنا يأتي انعقاد المؤتمر الثاني حول "اسواق المالية العربية" بين 15 و17 أيار مايو المقبل في بيروت وهو من بين مؤتمرات وندوات مالية ومصرفية عدة ستعقد في منطقة الشرق الأوسط حول مختلف اوجه الاستثمار خلال العام 1996، الأمر الذي يضاعف من الاهتمام العالمي بهذه المنطقة على اساس انها مرشحة لتكون جاذبة للاستثمار في السنوات المقبلة.