في قصائد الأمير خالد الفيصل تسمع صدى حوار أطياف "الحبلة". لغة الطبيعة بجبال عسير السامقة، تحاوره بشموخها منذ جاءها شاباً في مطلع العمر قبل نيف وعشرين عاماً، فتعكسها مفردات قصائده إذ تفيض برقة الطبيعة، وإن احتفلت بصرامة الجبال وجبروتها، واحتفظت بروح الاعتزاز البدوي والتعطش الصحراوي. جميلة هذه المناطق، وباهتمام أميرها بمشاريع التنمية، لا أشك في أنها ستتألق أكثر، فتسخر للسائح داخلياً بعض ما لا توفره رحلات التغرب للبعيد. بين مقر فندقنا في "السودة"، ومنتزه "الحبلة" مسيرة ساعة ونصف ساعة بالسيارة عبر طريق جبلي يتأوّد بين قرى عسير، مؤطراً بمناظر طبيعية رائعة ما زالت تحتفظ ببعض تراثها القديم، من المباني العسيرية المتفردة التصميم والنقوش الملونة الجذابة، ويأتي مسمى "الحبلة" من كونها، على ارتفاع ثلاثة آلاف متر، تتفرد بموقع شفير منتصب بصرامة منحدراً الى أخدود عميق. ولم يكن باستطاعة سكان السفح ان يصلوا الى منازلهم إلا عبر سلالم حبال ممتدة حتى عمق الوادي البعيد. ومع هذا خلّد الزوار السابقون أسماءهم مصفوفة بالحجارة البيضاء، ومقروءة من عربات التلفريك الذي افتتح في المنتزه قبل حوالى العامين، بعد خط السودة. غمرتنا أجواء جبال الألب حتى افتقدت الثلج فوق الأحراش الكثيفة. وإذ بلغنا منتصف الشفير، فاجأنا مسرح خارجي ناتئ مطل على روعة المنظر الممتد - فهمت أنه اكتظ البارحة بأمسية شعرية - ومقهى أنيق أكمل ذاكرة سويسرا بتقديم الكابوتشينو. ثم تلمّسنا طريقنا عبر سلالم حجرية بدائية الى جوانب الوادي لنزور المساكن المحلية الأثرية، حيث دجّنت صخور الجبل قديماً، لبناء منازل فطرية مكتملة بكل احتياجات العائلة، من المجلس التقليدي ببسطه ومسانده، الى المطبخ حيث التنّور البدائي في حفرة أرضية مستديرة تتسع للقدور التي يعد فيها "الحنيذ" - وهو المعادل العسيري ل "الغوزي"، أو "المندي" أو بالعربي البسيط الخروف المشوي في التنور - والرز المصاحب له. وعلى جنب تستند دوائر الرحى الحجرية العتيقة مترقبة، وكأنها تنتظر ربة المنزل لتطحن فيها القمح كي تعد الخبز. وبعد جرعة ماء باردة من الزير المليء بمياه نبع جبلي قريب، تذكرنا الغداء ينتظرنا في المطعم. أما ذروة المتعة فكانت جلسة شاعرية في شرفة ناتئة سخرت شفير الجبل، ليكون مجلساً تلامس فيه ندف الغيم. هنا جلسنا نرتشف الشاي والقهوة العربية بالهيل والقرنفل. ونتخيل الوجوه السمراء الوسيمة، والأجساد الجبلية المرنة لنساء ورجال "الحبلة"، تتسلق جوانب الجبل بخفة متوارثة، لتتفقد مزارع البن والموز والفاكهة على المدرجات. ظلت المزارع... وغادر السكان. فقد تم إقناع أهلها بالانتقال الى مواقع أكثر تواصلاً مع خدمات المدنية من مستشفيات ومدارس، لا تطالبهم بمهارة الحبال. اليوم لم يعد يحاور الجبل إلا تلك البيوت الحجرية ملتصقة بشفيره، معلقة بين السماء والأرض، ومن بينها قلة احتفظوا بها مكتملة بتفاصيلها المعيشية، لتحاور السائح الزائر، ببلاغة كل الأزمنة.