ستمر فترة قصيرة قبل ان تسفر التفاعلات العميقة الحالية في صفوف النخب السياسية والثقافية المصرية غير الرسمية، عن تغير كبير في شأن العلاقات مع اسرائيل، وهي تفاعلات تشي باعادة بناء تصورات في المواقف وتنبىء بفرز جديد. وبعيدا عن صيغة "السلام البارد" للعلاقات الرسمية المصرية - الاسرائيلية، التي تراوحت منذ معاهدة 1979 بين تصعيد درجة الحرارة بقدر متحكم فيه من جهة، وبين الهبوط بها الى درجة التجمد احيانا اخرى، ظلت العلاقات السياسية والثقافية غير الرسمية محكومة بحركة دائرية لاتجاهين رئيسيين منذ الثمانينات: اتجاه محدود قال ب "التطبيع" كحافز لاستكمال التسوية السياسية للصراع العربي - الاسرائيلي. واتجاه اخر غالب قال ب "المقاطعة" ومقاومة التطبيع. وكان هذا الاخير يضم رأيين احدهما امتداد لرفض عملية التسوية ذاتها لاسباب عقائدية قومية او دينية. ويرى ضرورة تصفية اسرائيل. ويرى ثانيهما في "المقاطعة" سلاح ضغط على اسرائىل للتخلي عن اطماعها في تسوية تحقق لها الهيمنة. وكل من الرأيين كان راهن على "المقاطعة" كمظلة وقت لاعادة بناء موقف استراتيجي قومي يحقق المصالح العربية، كل على طريقته ايضاً. والحاصل ان حركة التطبيع غير الرسمي، لم تكن منقطعة الصلة بتأثيرات حالة الصعود والهبوط في العلاقات الرسمية بين البلدين، وهو الامر الذي اصاب حركة التطبيع بخلل خلقي كبير استثمره بشدة اتجاه المقاطعة في انتقاداته للتطبيع ودمغه بصفات "الذيلية" و"الاستسلامية". لكن الحاصل في الوقت نفسه ان هامش حركة اتجاه المقاطعة كان يتسع ويضيق في توازٍ مع صعود العلاقات الرسمية وهبوطها. من جهة، واحداث المقاومة في الاراضي العربية المحتلة من جهة اخرى. وكان اتجاه المقاطعة ومقاومة التطبيع انطلق بزخم ملحوظ في اعقاب توقيع المعاهدة المصرية الاسرائيلية 1979 وهيمن على نشاط معظم احزاب المعارضة والنقابات المهنية والعمالية وفي تظاهرات ومؤتمرات وندوات الاحتجاج السياسية خلال الثمانينات في اشكال جبهوية وتنظيمية مختلفة اختفى بعضها مثل "الائتلاف الوطني المصري" واستمر بعضها الاخر مثل "لجنة الدفاع عن الثقافة الوطنية". وهو بلغ ذروته في العمليات العسكرية التي شنها تنظيم "ثورة مصر" في منتصف الثمانينات لاغتيال بعض الديبلوماسيين الاسرائيليين في القاهرة. اما خارج دائرة النخبة السياسية والثقافية غير الرسمية فان غالبية الرأي العام غير المسيس مالت الى اتجاه المقاطعة والتعاطف مع تحركاته الاحتجاجية خصوصاً كلما انفجرت احداث تصادمية عربية اسرائيلية، لا سيما في الاراضي الفلسطينية المحتلة او في جنوبلبنان، من دون ان تنخرط في صفوفه الحركية النشطة. وبعد توقيع الاتفاق الفلسطيني - الاسرائيلي والاتفاق الاردني - الاسرائيلي، لوحظ تعديل في موقف احزاب المعارضة من المعاهدة المصرية - الاسرائيلية حيث انتقل من الرفض الكامل والمطالبة بالغائها، الى قبول التعامل بدرجات متباينة مع نتائجها كأمر واقع والتحفظ عن بعض بنودها. ففي الاجابة على سؤال وجهته "الوسط" الى قيادات المعارضة خلال المعركة الانتخابية لمجلس الشعب الحالي في نهاية عام 1995 وكان نصه "اذا فزتم بتشكيل الحكومة هل ستعتبرون المعاهدة المصرية - الاسرائيلية واقعا تتعاملون معه ام تتجهون الى الغائها؟" قال فؤاد سراج الدين رئيس حزب "الوفد" ما نصه "لا، لن نفكر اطلاقا في الغائها لانها حققت لمصر فوائد كثيرة، وان كانت في الوقت نفسه رتبت بعض الحقوق على حساب سيناء لكنها في مجموعها في مصلحة مصر". وقال خالد محيي الدين رئيس حزب التجمع: "المعاهدة منصوص فيها على ضوابط الالغاء ونحن نفضل ان نطالب بالغاء تلك النصوص التي تمس السيادة المصرية في المعاهدة وهي: 1 - حق مصر في السيادة العسكرية على سيناء. 2 - احلال قوات امم متحدة محل الوجود الاميركي في سيناء. 3 - الغاء الشروط المقيدة لحرية مصر في التعامل مع اسرائيل مثل حق وقف التمثيل الديبلوماسي". وقال ضياء الدين داود رئيس الحزب الناصري ما نصه. "سوف نلغي المعاهدة بالطبع بعد حساب ردود الفعل الدولية والامنية". وقال ابراهيم شكري رئيس حزب العمل: "سندخل فورا في مفاوضات لتحسين اوضاع المعاهدة وغير معقول ان تستمر سيناء مقسمة الى مناطق تتغير فيها اوضاع السيادة بتغير مناطقها هذا الامر يعيبنا بشدة وكيف يمكن ان نطمئن على استثماراتنا فيها ووجودنا فيها وليست لنا سيادة كاملة عليها". وقال مأمون الهضيبي نائب المرشد العام لجماعة الاخوان المسلمين: "يجب الا يتصور احد ان التيار الاسلامي سيلغي المعاهدة . هذا امر غير وارد فالمعاهدات الدولية تلزم الدول الموقعة عليها ايا كانت الحكومة الموجودة في الحكم، وحتى اذا كنا نرفض المعاهدة المسألة ليست فوضى لكن لا يوجد شيء لا يمكن تطويره او تعديله هناك وسائل سياسية عدة يمكن التعامل بها مع اسرائىل". تجاوز القرارات النقابية ومع ان هذا التعديل الملحوظ لم يؤثر على التزام المقاطعة التي اصطفت حوله احزاب وقوى المعارضة لاسباب متباينة وبدرجات مختلفة، الا ان حدوث تطورات لاحقة ادى الى تآكل ملموس في عملية المقاطعة تجلى في زيارات فردية قام بها الى اسرائيل رجال اعمال ومهنيون ومثقفون، خارقين بذلك قرارات نقابية ومؤسسية بالمقاطعة وفي النزوح التلقائي لعشرين الفاً من العمالة المصرية للبحث عن عمل في اسرائيل مثلما ادت هذه التطورات الى تسريع عملية اعادة بناء تصورات في صفوف بعض النخب المصرية غير الرسمية مما اسفر عن ظهور اتجاه ثالث في مسألة العلاقة مع اسرائىل. فبعد قيام السلطة الوطنية الفلسطينية ومؤسساتها على الارض اختلف المؤيدون والمعارضون لاتفاقات اوسلو في جبهة المقاطعة حول ان يشمل موقف المقاطعة مناطق السلطة الوطنية. ففي حين رأى المؤيدون ضرورة تجسيد التضامن والدعم للشعب الفلسطيني وسلطته الوطنية على الارض في غزة والضفة وزيارة "بيت الشرق" في القدس انتقد المعارضون ذلك واعتبروه "تطبيعا" باعتبار ضرورة الحصول على تأشيرة دخول من السفارة الاسرائىلية، الامر الذي لقي اكثر من عتاب فلسطيني قارن فيه بين احجام القوى السياسية غير الرسمية المصرية وبين اقدام قوى سياسية غير عربية على تجسيد التضامن والدعم خصوصاً اثناء تطورات فلسطينية تصادمية مع السياسة الاسرائيلية. وظهرت انتقادات داخل صفوف المقاطعين تقول ان المقاطعة ليست كلها ايجابية وان تطبيقها بجمود يثير الالتباس حول بعض مضمونها حين يعني ان "السلام" مجرد تكتيك. وبعد اغتيال رئيس الوزراء الاسرائيلي اسحق رابين على يد متطرف يهودي من جهة وانفجار عملية القدس على يد متطرفين اسلاميين ضد مدنيين اسرائيليين من جهة ثانية، ثم فوز بنيامين نتانياهو برئاسة الحكومة التي شكلها اليمين المتطرف بسياساته المتعنتة من جهة ثالثة، اختلف تقدير الموقف داخل جبهة المقاطعة. فقد ذهب بعضها الى القول بان هذه التطورات تكشف عن ان استمرار تبني خط المقاطعة الشامل، بات يتجاهل حقائق جديدة تتطلب تصورات مغايرة للتعامل معها. وأول هذه الحقائق الانقسام الواضح في المجتمع الاسرائيلي ذاته بين قوى ترغب في استكمال عملية التسوية وقوى اخرى تناهضها وتقف خارج اطار النظام الدولي اي مؤتمر مدريد، وثاني هذه الحقائق حرص قوى التطرف الديني على الجانبين، على تضخيم اسباب عدم استكمال عملية التسوية، لجهة تفجير الموقف كله حيث لا ينتصر معه الا قوى التطرف وحدها، وفي رأي هذا البعض ان هذه التطورات جميعا كشفت ان الصراع الذي كان يحكمه في الماضي تناقض عمودي اسرائىل ككل والعرب ككل تحول الى تناقض افقي على الجانبين معا بين قوى تعمل على استكمال تسوية سياسية وقوى تعمل على اجهاضها. وهكذا اخذ الاتجاه الثالث يتبلور مع مضي الوقت، حيث ان تصوراته للموقف لم تعد تتطابق مع موقف المقاطعة الشاملة. لكن اللافت ان مساحة التآكل الملموسة في جدول المقاطعة الشاملة التي اكتفت باعادة انتاج تصوراتها السابقة، لم تنتقل الى جدول التطبيع، بل ظلت بعيدة عنه. والحاصل ان هذا الاتجاه الثالث اصبح يطرح نفسه من خلال مقالات في صحف ذات اتجاهات متباينة وفي مداخلات في مؤتمرات وندوات ذات صلة بالموضوع. وابرز هذه المقالات في الاونة الاخيرة، سلسلة منها نشرها المفكر المصري محمد سيد احمد في اكثر من صحيفة ويمكن من خلالها رصد اطار ومعالم هذا الاتجاه الثالث. ان كلا من اتجاه "التطبيع" و"المقاطعة" وصل الى مأزق ولم يعد بامكان الموقف المطلق لكل منهما دفع الوضع المتجمد لعملية التسوية. فاستمرار التطبيع على النمط الذي ساد من قبل يعني ترحيل التناقض الى الجانب العربي. كما ان استمرار نمط المقاطعة كما من قبل يعني استمرار وجود نتانياهو حتى باسماء اخرى في السلطة. - ان اضعف حلقة لدى نتانياهو اي اليمين المتعصب المتطرف هي الان جبهته الداخلية التي باتت تخشى مخاطر التذويب مع احلال السلام وان احد المصادر المؤثرة التي يستمد منها قوته امام جمهوره، هو التركيز على تصوير السلام عند العرب كمجرد تكتيك. ومن الضروري نزع حجة نتانياهو التي تلعب على الخوف من المستقبل. - اهمية عزل القوى الاكثر يمينية داخل اسرائيل وهي القوى التي اصبح واضحا انها ضد السلام وغير قادرة على تبنيه كخيار استراتيجي والتي تعمل بمفهوم ان يكون السلام - على طريقتها - هو ترحيل التناقض وليس الغاؤه. وتحقيق هذا العزل ممكن من خلال نقل المعركة الى داخل المجتمع الاسرائيلي بين اليمين المتعصب فيه من جانب وبقية قوى المجتمع المعادية لهذا اليمين المتجمد من الجانب الاخر، بدلاً من مخطط بيريز الذي لم ينجز السلام وانما نجح في ترحيل اكثر التناقضات حدة الى الصفوف العربية. ضرورة شق طريق للعمل بمفهوم "المقاطعة الانتقائية" الذي يقرر المكافأة والعقاب، وذلك بالتعامل مع القوى السياسية الاسرائيلية التي تلبي حاجة تحقيق تسوية سياسية عادلة وشاملة. وهذه القوى تحديدا هي كتلة "ميريتس" والجناح اليساري في حزب العمل وكتلة "السلام الان" والمجموعات اليسارية التي تبرز في صفوفها شخصيات مثل يوسي اميتاي ويوري افنيري ولطيف دوري وغيرهم، فضلا عن كتلة العرب داخل اسرائيل، وذلك مكافأة لمواقفها ودورها. مثلما يقضي مفهوم "المقاطعة الانتقائية" بمواصلة سلاح المقاطعة كعقاب لمواقف ممثلي اليمين المتعصب. التزام "المقاطة الانتقائية" بان يكون ثمن هذا التعامل العمل معا لانجاز الانسحاب الاسرائيلي الكامل من هضبة الجولان وجنوبلبنان وبقية الاراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 ووقف الاستيطان وقيام الدولة الفلسطينية التي تشمل سيادتها الوطنية مدينة القدس العربية عاصمة لها، في مقابل تحقيق التعايش بين الجانبين العربي الاسرائيلي. ولضمان فرملة اتجاه "الهرولة" في التطبيع وقطع الطريق على التورط في صفقات سياسية وغير سياسية، فان شرط "المقاطعة الانتقائية" هو علانية تعاملاتها وحركتها امام الرأي العام واطلاعه على مبادراتها منذ البداية وما يدور فيها ونتائجها السلبية والايجابية معاً، وصرامة التقيد بعدم التعامل في الكواليس. هكذا يتفاعل جدل التطبيع والمقاطعة في العلاقات المصرية - الاسرائيلية غير الرسمية. والارجح ان صعود الاتجاه الثالث الذي يقول: "المقاطعة الانتقائية"، سيزيد اشتعال الجدل الذي بدأت تجليات الردود الانتقادية عليه تظهر في عقد ندوات وكتابة مقالات مختلفة