رواية ربيع جابر "البيت الأخير" تركيب. إنّها مونتاج من سيرة مارون بغدادي، السينمائي اللبناني الراحل، مع شخصيات لم توجد الاّ في روايات، تتحرّك في اطار لعبة متوازية. بغدادي وك.، وقبالتهما اسكندر وأنسي وربما يوسف، شخصيات ثلاثية يوسف حبشي الأشقر "لا تنبت جذور في السماء" و"الظل والصدى". ثمة مربع يحيل "البيت الأخير" إلى لعبة هندسية: ك. ومارون بغدادي ضلعا الواقع مبدئياً، يكتملان مع ضلعي الرواية اسكندر وأنسي. وهكذا يتكون مربع الرواية، أو تتكون الرواية كمربع. هذه فرضية الرواية، والأرجح أن ك. في "البيت الأخير" كان يفضل لو أنه عاش في ثلاثية الأشقر، وهو قد يقابل أو يتقاطع مع أكثر من شخصية فيها. لكن النصّ يفترض على لسان ك. أن روايات الأشقر هي المقلب الآخر من حكاي بغدادي. وهذه الفرضيّة تكاد تكون من مسلمات رواية جابر، من دون أن تتجاوز التصريح المتكرّر. الواضح أن الرواية تنسج في الجانب الاول، جانب الصلة بين مارون بغدادي وك. أما ما ينعقد مع الجانب الآخر المطوي في روايات الأشقر، فيبقى افتراضاً. وهذا بطبيعة الحال لا يقلل البتة من رواية جابر، بل يدل على أنها بشكل عام تتجاوز فرضيتها، أو تترسخ خارجها وداخلها في آن: داخلها لان ك. يبقى على الأكثر شخصية روائية. اسمه اشارة كافكاوية، وكذلك خلوّه من أي تعلق وأي غرض وتدخل. فذلك المولود في كفرنبرخ والذي شارك في الحرب اللبنانية وأصيب فيها، يصرّ على الاستمرار كقارىء روايات فقط. لا يعمل، ولا يكتب، ولا يحب. لا يحتاج ربيع جابر إلى تبرير تحوّل ك.، فلهذا الأخير، بدوره، فرضيته. إنه هكذا في الاصل، ومشاركته في الحرب، كشربه "المتّه" وصداقته لمارون بغدادي، أمور تحصل من لقائه العرضي بالحياة. فالحياة تقلد الروايات كما يقول ك.، وللمذكور عندئذ أن يكون شخصيّة من شخصيّات يوسف حبشي الأشقر، فيقلّد اسكندر مثلاً. ل ك. فرضيته كما قلنا. إنه سليل تلك الحكمة التي ترى الحياة أقل "حقيقية" من الكتب. مارون بغدادي حقيقي وسيرته معروفة، وهناك أجزاء منها في الرواية. لكن ذلك لا يعني كثيراً، فحياته موثقة هنا كما روايات الأشقر، كما هو تاريخ ريمسكي عن لبنان. بل أن بغدادي لا يوجد إلاّ في صلته ب ك. من خلال تلك الأسابيع التي قضاها يقرأ مذكرات "رواية" ك. المختفي. فهو الآخر قارىء ثان للروايات فيما يقترب ك. المختفي من أن يغدو مؤلفاً لها. رواية ربيع جابر تصر على لعبة رياضية من علم الرياضيات. ثمة فرضية وبرهان. لكن المهم في الرواية ليس في اللعبة نفسها، أي في ذلك الجدل المتين من الوقائع والأفكار الذي يكتمل في حياكة خطية وشبكية تتسع وتحفر في آن معاً. فليس المنطق سبب تماسك الرواية، بل ان عمودها الصلب هو الذي جعلها بهذا الاحكام. إننا بلا شك أمام مقدرة فعلية وعمل متين، وليس لمن يملكهما أن يبدأ من فرضيات قديمة جديدة. فالرواية أقوى كلما نسيتها.