لو سئلت قبل وصول الجبهة الاسلامية القومية الى حكم السودان في نهاية الثمانينات: هل سيسهم وصول التيار الاسلامي الى السلطة بأي قدر في انضاج الحركة السياسية السودانية، أو سيسهم ايجاباً في إحداث تقارب في المفاهيم وسط القوى السياسية من شأنه ان يساعد على بلورة ممارسة ديموقراطية فاعلة؟ لأجبت "لا" من دون تردد. أما الآن وقد مضى عشر سنوات على وصول الانقاذ للحكم، وحدث خلال هذه السنوات الكثير من التحولات في المشهد السياسي السوداني، وفي المشهد السياسي الدولي، فإن إجابتي عن ذلك السؤال ربما اختلفت كثيراً. وبدلاً من اطلاق قولة "لا" بلا تحفظ، لربما اتجهت الإجابة الى شيء من التحليل، وشيء من محاولة رؤية الصورة الكلية، وقراءة المشهد في تجلياته المختلفة، بأناة وموضوعية. بدأنا تجارب التثوير، بالمعنى المذهبي للكلمة، في بدايات حكم جعفر نميري، فاندفعنا يساراً قسراً في تجربة الارتماء في أحضان المعسكر الشرقي، ومن ثم تجربة التأميم والتثوير العشوائيين. ولما لم يجد ذلك نفعاً، عاد نميري ليندفع يميناً بكل قوة، وليقدم اسوأ صورة للتطبيق الأخرق للقوانين الاسلامية. مشى نميري جزءاً من ذلك المضمار وسقط نظام حكمه نتيجة لانتفاضة نيسان ابريل 1985. ثم واصلنا بعد أربع سنوات من الممارسة الديموقراطية الركيكة في الاندفاع يميناً مرة أخرى قسراً مع الانقاذ، في مسار مشابه للذي سلكه نميري، حتى قاربنا نهاية الشوط الآخر. وها نحن الآن بدأنا نعرف، على الأقل، شيئاً عن معنى الاعتدال، ومعنى استحالة محو الآخر من معادلة التغيير. الاحتشاد والتوتر اللذان أوصلا القوميين العرب والشيوعيين وسائر قبائل اليسار الى الانقلاب وتسلم السلطة، كان عمرهما نحواً من ثلاثين عاماً. والتوتر والاحتشاد اللذان أوصلا الجبهة الى الانقلاب، ومن ثم الى التربع على سدة الحكم عمرهما نحواً من أربعين عاماً. قوَّض نميري الحقبة الديموقراطية الفاشلة في 1969 باسم اليسار والقومية العربية، وقوَّض عمر البشير بعد عشرين عاماً الحقبة الديموقراطية الفاشلة الثالثة عام 1989 باسم ما سمي بالتوجه الحضاري الاسلامي الانقاذي. كان من المهم جداً ان تبلغ الجهتان غايتهما، وتصلا الى الإمساك بدفة الحكم. وأقل ما يمكن ان يقال عن مغزى التجربتين، هو اننا لم نعد منذ اليوم مهددين بشعارات أي منهما. كما ان كلاهما سبر يقيناً متاهات الاتجار بالشعار، وذاق الثمار المرة للمغامرة العسكرية. لكن هل يعني ذلك ان شعاراتهما ذهبت هباء؟ كلا بالطبع. القوى التقليدية المتمثلة في طائفتي الأنصار والختمية وواجهتاهما في حزبي الأمة والاتحادي، ليست حملانا وديعة جار عليهما الزمان وظلمتها الانقلابات الغاشمة. لم يكن للتيار الاسلامي شغل منذ نشأته غير تأجيج نار الفتنة ضد قوى اليسار المتمثلة في الشيوعيين والبعثيين والقوميين العرب، وضد الحركات الاسلامية التي تنحو نحواً ديموقراطياً اشتراكياً كحركة الجمهوريين. استغل الاسلاميون - باعترافهم - حادثة طالب معهد المعلمين العالي الذي اتهم بالإساءة للجناب النبوي الكريم في محاضرة عامة، في منتصف الستينات. اثر ذلك، جرى تعديل الدستور وطرد نواب الحزب الشيوعي السوداني المنتخبين من الشعب، ممثلاً في دوائر الخريجين. وللأسف الشديد، امتطى الزعيمان التقليديان، الأزهري والصادق المهدي تلك الموجة المكارثية السودانية العارمة. واستجابا، شأنهما شأن العامة، لحملة تأجيج العاطفة الدينية التي أشعلها التيار الاسلامي. وفعلاً تم تعديل الدستور، أو قل تقويضه، وطرد نواب الحزب الشيوعي من البرلمان. ولم يمض عامان حتى أقيمت محكمة حكمت بردة زعيم الحزب الجمهوري محمود محمد طه عن الاسلام. الشاهد هو ان التيار الاسلامي نجح في حمل القوى التقليدية على الركوب في مركبه، والتنكر لمبادئ الديموقراطية، بعد حملة مكيافيلية غوغائية مكثفة. لذلك، فإن ما حاق بالقوى التقليدية التي تدعي انها السادن والحارس للديموقراطية في السودان، نتيجة للانقلابات العسكرية المتكررة، لم يكن في الحقيقة، الا جزاء سوء ممارستها السياسية وتنكرها للمبادئ الديموقراطية، اضافة الى العجز الكامن في بنيتها اصلاً، وفي عدم قدرتها على التطور، وفهم المتغيرات. المخاض الطويل والعسير الذي عانته الحركة السياسية السودانية سوف يسفر في القريب العاجل عن ديموقراطية ثابتة وراسخة، إذ أخذت كلتا الايديولوجيتين المتناحرتين في الساحة السودانية فرصتيهما في الانقلابات العسكرية، وفي تجارب التثوير العشوائية. ويبدو ان الوقت أزف للممارسة الديموقراطية المتمدينة الهادئة. فانقلاب الانقاذ الذي بدأ يفكك نفسه طوعاً الآن، يجب ان يكون آخر الانقلابات. ونحن لم نكن لنشارف هذه المرحلة الجديدة، لو لم يصل التيار الاسلامي الى تجربة الحكم، ومن ثم الى مرحلة استنفاد طاقة الشعار الذي جرى استخدامه طويلاً كبديل للطرح الفكري المتعمق، وللرؤية السياسىة الناضجة وللموضوعية. حال ذلك الشعار العاطفي زماناً طويلاً بين الشعب وبين التعليم والوعي الضروريين للممارسة السياسية الديموقراطية الراشدة. تجربة حكم الانقاذ يجب ان تعالج، في اطار النظر للصورة الكلية، ولما يمكن ان تقود اليه من اعادة الايمان بالديموقراطية، وبالتعددية، وبالتنوع. حدث ذلك داخل قوى الانقاذ نفسها التي ربما ظنها البعض غير قابلة للتحولات المفهومية. أهم من ذلك: ستحتل قضية التوزيع العادل للتنمية وللثروة وللفرص أهم مواقع المرحلة المقبلة. وهذا أمر ذهلت عنه تجارب الحكم الوطني المسمى ديموقراطياً وتجارب الحكم العسكري سواء بسواء. الشائع في أمر الممارسة السياسية هو اننا نغلق أذهاننا عادة على تصور نهائي لخصومنا السياسيين. ويتجلى ذلك في دمغنا لهم بصفات أو بخصائص نظنها ثابتة. نفعل ذلك، وكأن اللون السياسي خاصية "جينية" مثل لون البشرة. نحب ان نقيم على القناعة بأن خصومنا لا يتغيرون. ولا نريد لخصومنا ان يتغيروا لأننا نرى في اقترابهم منا تهديداً للمواقع التي نحتلها. وعموماً فإن ظاهرة التحصن داخل قوقعة الحزب، والنظر، من ثم، الى الأمور من خلال المنظار الحزبي المتشكل تاريخياً، وليس من خلال القراءة المستبصرة للواقع الحي، ليست ظاهرة سودانية وحسب، وانما هي ظاهرة انسانية تخف وتزداد حدة، حسب الظرف التاريخي. ومن المفيد جداً، بل من الضروري ان نرى لتجربة الإنقاذ شيئاً من الايجابيات. وبالطبع فإن سلبيات الانقاذ لا مراء فيها وليست بحاجة لتسليط الضوء. فذلك أمر مبذول وتفننت فيه القوى المعارضة. المطلوب الآن هو النظرة الموضوعية لتجربة الانقاذ. أقول ذلك وأنا مدرك تمام الإدراك للثعلبية والمراوغة، التي اتسمت بها الحركة الانقاذية في تخلقاتها ومسمياتها المختلفة، مع ذلك، فإن تنمية القدرة على رؤية الايجابيات وفق منظور أوسع يأخذ قضايا التحولات في بنيتها المعقدة والمركبة في الاعتبار، تسهم من دون شك، في طمأنة الغلواء، وفي برء الصدور من الغل ومن نيران الثارات المتأججة التي طالما ذهبت بالعقول وبنور بصيرتها، وبقدرتها على العفو والغفران والتطلع نحو المستقبل، ومن ثم التوصل لمناخ سلمي ديموقراطي. لا شك ان الانقاذ تبحث عن مخرج. ولا عبرة بمكابرة بعض المكابرين من أهلها، فالمكابرون ظلوا موجودين في كل زمان ومكان. المهم ان تفهم القوى السياسية المعارضة، خصوصاً المتمركزة في الخارج، التي اغلقت عقولها على سيناريو واحد تراه المخرج الوحيد من المأزق السوداني الراهن، ان تحاول ان ترى ان الأمر هذه المرة مختلف جداً. عليها ان تحاول ان ترى الاحتمالات الأخرى، خصوصاً الاحتمالات المتعلقة بسلمية المخرج، التي يبدو انه لا مندوحة عنها البتة هذه المرة. فإن أي بذرة عنف ندخل بها على أوضاعنا الجديدة هي قنبلة موقوتة، يكون بيننا وبين تفجرها سوى عنصر الوقت وحده. ودخول تجربة التوالي وتطويرها من الداخل تمثل في الظرف الراهن أفضل السوانح لدفع الأوضاع خطوة الى الأمام. * كاتب سوداني، أستاذ في جامعة الينوي - الولاياتالمتحدة. محور "صورة السلطة" في السودان يستكمل غداً بمساهمتين من عبدالعزيز حسين الصاوي ومحمد أبو القاسم حاج حمد.