منتدى المحتوى المحلي يختتم أعمال اليوم الثاني بتوقيع 19 اتفاقية وإطلاق 5 برامج    اعتماد معاهدة الرياض لقانون التصاميم    «الصحة الفلسطينية» : جميع مستشفيات غزة ستتوقف عن العمل    المملكة توزع 530 قسيمة شرائية في عدة مناطق بجمهورية لبنان    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    انطلاق مهرجان الحنيذ الأول بمحايل عسير الجمعة القادم    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    «الزكاة والضريبة والجمارك» تُحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة كبتاجون في منفذ الحديثة    باص الحرفي يحط في جازان ويشعل ليالي الشتاء    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    المنتخب السعودي من دون لاعبو الهلال في بطولة الكونكاكاف    الذهب يتجه نحو أفضل أسبوع في عام مع تصاعد الصراع الروسي الأوكراني    الكشافة تعقد دراسة لمساعدي مفوضي تنمية المراحل    الملافظ سعد والسعادة كرم    استنهاض العزم والايجابية    المصارعة والسياسة: من الحلبة إلى المنابر    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    فعل لا رد فعل    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    ترمب المنتصر الكبير    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    فرع وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية بحائل يفعّل مبادرة "الموظف الصغير" احتفالاً بيوم الطفل العالمي    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    استضافة 25 معتمراً ماليزياً في المدينة.. وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة    «المسيار» والوجبات السريعة    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رد على انتقادات لقيادة الشيوعي العراقي ومسائل أخرى . فخري كريم : جورج حاوي لا يتذكر
نشر في الحياة يوم 14 - 10 - 1996

أثار الحوار الذي اجرته "الوسط" مع جورج حاوي الأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني، ونشر في اطار سلسلة "يتذكر"، نقاشاً واسعاً في الأوساط المعنية بالمحطات، التي تطرق اليها المتحدث. كان فخري كريم عضو قيادة الحزب الشيوعي العراقي سابقاً ورئيس مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي رئيس تحرير مجلة "النهج" حالياً، شريكاً في بعض هذه المحطات وحاضراً في أخرى، وهنا نص رده على حاوي:
أثار الرفيق جورج حاوي الأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني، في سيرته الحزبية والسياسية التي أدلى بها للاستاذ غسان شربل، طائفة من القضايا التي تستدعي التوقف عندها.
فالسيرة لم تقتصر على الأحداث والوقائع والتقييمات الخاصة بالحزب الشيوعي اللبناني، والأوضاع اللبنانية، بل تعدتهما الى حياة ونشاط أحزاب وبلدان أخرى، ومنها الحزب الشيوعي العراقي، وتقييم مواقفه من تطورات الأوضاع في البلاد، ومن صدام حسين ونظامه.
كما تناول أوضاعاً ومواقف لم يكن الشاهد الوحيد عليها. ومع ان السيرة الذاتية تنبض بحقائق الحياة وهي تتحرك في فترات ومراحل انعطافية، ولصاحب السيرة دور نشيط فيها… فإنها لا تخلو من حالات ضعف الذاكرة. وفيها تجنٍ يستعصي على التفسير، ويعيد الى الذاكرة شريطاً مثقلاً بالمواقف والأحداث المثيرة للأحزان وللأسف.
ومع ان الرفيق حاوي لا يعرف أحداً من قادة الحزب الشيوعي العراقي، سوى الشهداء منهم الذين لم يعاصرهم ليلتقيهم، كما ذكر في سيرته، فإن قادة الحزب بغالبيتهم يعرفون الرفيق جورج حاوي عن قرب، وتابعوا باهتمام أدواره ومواقفه، وعايشوا جانباً منها، ومنهم من تأثر به وتعاطف معه، سواء على صعيد صراعاته داخل حزبه، او تعرضه للأحزاب الأخرى.
وفي هذا السياق لا بد من الاشارة، قبل التعليق على طروحاته، الى ان من بين الأسباب التي دفعته وقادة آخرين من اليسار العربي الى اتخاذ مواقف مغايرة لسياسة الحزب الشيوعي العراقي، انحياز شريحة من قادة الحزب، المتعاطفين مع الرفيق جورج فكرياً الى مواقع التهادن مع صدام ونظامه، والقيام بنشاط لم ينقطع الى ما بعد احتلال الكويت تزكيةً لنهجه المدمر، خصوصاً ابان حرب الخليج الأولى، والبحث عن سبل وقنوات للعودة الى التعاون معه وتحت قيادته. لكن المؤسف، ان الرفيق حاوي، كما يبدو من ملاحظاته، لم يجد في سلوكه السياسي كله ازاء النظام العراقي خلال الفترة التي عالجها في سيرته ما يستحق النقد. بل بدا في تلك الملاحظات كما لو انه يفاخر بها، ويرمي اللوم كله على قيادة الحزب حتى بعد ان ظهر لأقرب المتعاطفين مع هذا النظام انه وحده يتحمل مسؤولية الكارثة التي حاقت بالبلاد، والى جانبه طبعاً اولئك الذين لم يكتفوا بعدم ابداء النصح له فحسب، بل كالوا له المديح على دوره التاريخي، "كمنقذ للأمة" و"محرر لفلسطين" كبسمارك وكاسترو.
هل عجز الرفيق حاوي حقاً عن استعادة شريط الذكريات المأسوية لتلك المرحلة التي طرق الحزب الشيوعي العراقي وقادته فيها كل باب، ومن بينها قيادة الحزب الشيوعي اللبناني، للتنبيه من الأخطار المحدقة بالشعب العراقي وبالأمة العربية وبقضاياهما المصيرية، والتحذير من مغبة تزكية صدام حسين وسياسته؟ وماذا كان موقفه من تلك التحذيرات؟ وهل ان الحياة وحركتها، بكل صخبها وفواجعها ونتائجها المأسوية التي نعيشها اليوم، لم ترد بما يفرض مراجعة مسؤولة على من لم يسمع ويتنبه؟
ليس غريباً ان تثير السيرة الشخصية للرفيق حاوي الاهتمام والمتابعة، فهي بالاضافة الى الجوانب الشخصية النابضة بالحياة، ستُعتمد دون شك كوثيقة حزبية وسياسية في غاية الأهمية، وسيجري التعامل مع ما ورد فيها، كحقائق ومسلمات. ومن هنا أهمية تدقيق وتصويب ما ورد فيها بحق الآخرين إن لم يكن للحزب الشيوعي اللبناني ما يقوله عن السيرة.
وبغض النظر عن تقييم ما ورد في السيرة من مواقف وذكريات وتوجهات، فلا بد من الاقرار بأن صاحب السيرة يعتبر من بين ألمع القادة الشيوعيين العرب، وأكثرهم نشاطاً، وكان منذ صعوده السريع الى المركز الأول في قيادة الحزب الشيوعي اللبناني، مثار جدل والتباس ايجابي، متميزاً بالحماسة، مستعداً للمجابهة دون تهيب، بقدر استعداده للتراجع والانتقال الى الموقف الآخر. كان قادراً على الايحاء بصدقية المواقف التي يبادر الى اطلاقها سواء على صعيد حزبه او الحركة الوطنية اللبنانية او العربية. إلا ان الأمر لم يكن كذلك على صعيد الحركة الشيوعية في غالب الأحيان، لاعتبارات تتعلق بالبيئة السياسية التي كانت تحيط دائماً بحركة ونشاط الأحزاب الشيوعية، وتعرضها للعسف وللقمع الشامل ما يلزمها بتوخي الحذر من أي مبادرة او موقف غير محسوب او متسرع من قياداتها، وهو ما كان يظهر هذه القيادات بمظهر حذر بل ومحافظ. وهو الهامش الكبير الذي كان ولا يزال، يميز الانفتاح والتسامح السياسي اللبناني عن الأوضاع التي تسود غالبية الأقطار العربية الأخرى. وكان واضحاً منذ بروزه السياسي انه يعرف قواعد اللعبة السياسية اللبنانية، ويتعلمها بكفاءة وسرعة. واستطاع ان يكسب أوساطاً محدودة في بعض الأحزاب الشيوعية العربية الى نهجه البراغماتي الذي لم يكن يلائم الأحزاب الشيوعية، بل يثير قلقها.
ووفقاً للمعايير اللبنانية، كان حاوي بمستوى موقعه، بل أضفى على هذا الموقع بديناميكيته وبراغماتيته أهمية مضافة مكنته من تعزيز دوره القيادي في حزبه، وفي الحركة الوطنية اللبنانية، ومنحته هامشاً غير محدود للتحرك في الأوساط الفسلطينية والعربية لم تتح لأي قائد شيوعي او يساري غيره، باستثناء الحالة المصرية المتميزة هي الأخرى. ولتفسير هذه الحالة من التسامح ازاء تحرك قائد شيوعي عربي، كان يحلو للصديق محسن ابراهيم ان يفسر هذا التسامح مازحاً "انكم مخدوعون بنا، فجورج حاوي قومي مندس في الحركة الشيوعية، وأنا شيوعي مندس في الحركة القومية!".
ولم يكن مستغرباً ان يثير الرفيق حاوي بنهجه السياسي والفكري وطروحاته التنظيمية التي كان يؤكد على طابعها التجديدي، حفيظة الأحزاب الشيوعية، ولكنه استطاع ايضاً ان يكسب قياديين في هذا الحزب او ذاك الى هذا النهج، كما حصل في الحزب الشيوعي العراقي، الذي كان يخوض صراعاً دموياً في ظروف اختلال التوازن مع حزب البعث الحاكم حول وجهة تطور العراق وهويته ومصير شعبه، دون أخذ الفروقات الجوهرية بين البلدين والشعبين والحزبين، وطبيعة النظام السياسي في كل من الدولتين بالاعتبار.
وهكذا يمكن اعتبار الرفيق جورج حاوي مدرسة حزبية وسياسية، مما يستلزم اخذ ذلك بالاعتبار عند محاججته والرد على طروحاته.
ولأنه كذلك، او هكذا بدا لي، فإن الرفيق حاوي لم يترك شأناً عربياً او دولياً، ولم يوفر حزباً او قضية، حتى وإن لم يكن على اتصال بها، دون ان يتناولها بالتقييم او النقد، الجارح أحياناً، وغير الموضوعي او الدقيق أحياناً أخرى.
الموقف من صدام حسين ونظامه
في معرض تقييمه للحزب الشيوعي العراقي وسياسته التي انتهجها ابان التدهور السريع للأوضاع في البلاد، وانهيار التحالف الهش مع حزب البعث الحاكم، ذكر الرفيق حاوي ان قيادة الحزب توقفت عند القضايا الثانوية، وهذا يلقي اللوم عليها في ما آلت اليه أوضاع البلاد بعد ذلك!
فقد عرض حاوي طبيعة تحالف الحزب الشيوعي اللبناني والحركة الوطنية اللبنانية مع النظام العراقي، ومع صدام شخصياً وتطور العلاقات معهما، مؤكداً على طابعها الودي.
وذكر انه طالب شخصياً بقطع المساعدات العراقية عن حزبه والحركة "عندما بدأت حرب الخليج الأولى، وعندما فك ميثاق العمل القومي بين سورية والعراق، وعندما أعدم 31 شيوعياً في الجيش، ذهبنا في محاولة لاستجلاء الموقف والنقاش مع القيادة العراقية".
ويذكر حاوي ايضاً انه حذر عزيز محمد سكرتير الحزب آنذاك بما يبيته الحزب الحاكم للحزب الشيوعي العراقي حيث يقول: "ابلغنا هذا الحديث الى الرفيق عزيز محمد وقلنا له اننا نستشف نيّات غير سليمة، وطلبنا منه ان يعالج الوضع سياسياً وأمنياً، وأن يتخذ احتياطات. أنا لا أتدخل في شؤون الأحزاب الأخرى، لكن الحزب الشيوعي العراقي، ويا للأسف، لم يعالج الوضع، وتصلب في الصراع مع حزب البعث على أمور ثانوية وليس على المسألة الرئيسية المتعلقة بالقضية القومية. على مطلب اقتصادي هنا، على اصلاح ديموقراطي هناك، ولم يتخذ كما كنت أتصور احتياطات للمواجهة تتيح له البقاء في الداخل".
"كانت خطة الحزب الشيوعي العراقي في المواجهة" قال حاوي: "هي الخروج من العراق، وهو أمر أجد أنه في غاية الضرر. صحيح ان النظام العراقي دموي، وصحيح ان لا أحد في سجونه، فإما الموالاة وإما الاعدام. لكن حزباً ثورياً ينتقل الى الخارج بقياداته وكوادره وربما أعضائه !! لن يعود الى الداخل بسهولة".
ويقدم حاوي بعد ذلك تجربته والحزب الشيوعي اللبناني الذي رفض الخروج أثناء الحرب الأهلية.
يبدو ان الرفيق حاوي نسي تفاصيل تلك الفترة، وآمل أن لا يكون سبب النسيان هذه المرة ايضاً تبرير سلوكه السياسي الخاطئ في تلك المرحلة العصيبة والمريرة من تاريخ شعبنا.
ولهذا سأذكره ببعض الحقائق:
1 - ان اعدام 31 شيوعياً وصديقاً للحزب الشيوعي العراقي تم عام 1978.
2 - ان ميثاق العمل القومي بين سورية والعراق انهار أواخر عام 1979.
3 - ان الحرب العراقية - الايرانية الخليج الأولى اندلعت في ايلول سبتمبر عام 1980.
4 - ان المساعدات للحركة الوطنية اللبنانية، التي بلغت كما يذكر حاوي مليونين و225 ألف دولار وللحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي، التي بلغت كما قيل نصف مليون دولار لكل منهما، لم تنقطع حتى بعد ذلك التاريخ، وقد قطعها النظام نفسه بعد ان تحسنت علاقات الأطراف المذكورة مع سورية، ولم تعد قادرة على الجلوس على كرسيين!
5 - ان قيادة الحزب الشيوعي العراقي أدركت في وقت مبكر ما يبيته الحزب الحاكم للحزب وللبلاد، سوى انها، وبضغط من جناح فيها تلكأت في اتخاذ التدابير الضرورية كما قيّم ذلك المؤتمر الوطني الرابع للحزب وراهنت على مواصلة التحالف مع النظام.
لا أدري في الواقع عن أي قضايا ثانوية يتحدث الرفيق حاوي. فلقد ضاق حزب البعث الحاكم في العراق بنشاط الشيوعيين وكسبهم الجماهير الى ما يدعو له الحزب من شعارات، وما يقوم به من فعاليات، فراح يضيق على هذا النشاط باجراءات "قانونية" الحكم بما لا يقل عن خمس سنوات حتى 15 سنة لكل من يعمل في منظمة غير مرخصة، بعد ان عجز الحزب عن الاتفاق معه لتوحيد منظمات الطلبة والشباب والنساء، واضطر الى اعلان تجميدها، والتخلي عن مواقعه في قيادات اتحاداتها العالمية، الأمر الذي قيّمه الحزب سلباً في التقرير الذي أصدره المؤتمر الوطني الرابع للحزب، مع جملة من الممارسات الخاطئة التي ثلمت استقلالية الحزب عملياً ولم يتبق له ما يدافع عنه غير وجود الحزب ذاته، وباجراءات بوليسية واسعة النطاق.
ولم يكتف بذلك بل قدم لقيادة الحزب مذكرة تحوي 18 مطلباً تستهدف التضييق على نشاطه، لخصها صدام حسين بأن على الحزب ان يعرف ان "الأبّي" - أي المفتاح الرئيسي - هو بيد البعث. وأن عليه ان يرضى بما يرفعه من شعارات وما ينتهجه من سياسات حتى لو تناقضت مع قناعات الشيوعيين. ومن بين تلك المطالب الخطيرة التي كانت تتضمن كل ما من شأنه انهاء الحزب سياسياً وفكرياً وتنظيمياً وتحويله الى مجرد واجهة للنظام، تبني وجهة نظر صدام باعتبار منظمة التحرير الفلسطينية أداة صهيونية، وقيادتها عملاء موساد… والتعامل مع سورية وقيادتها باعتبارها "النظام العميل" وتبني السياسة القومية للحزب الحاكم بتفاصيلها، بالاضافة الى اخضاع علاقات الحزب عربياً ودولياً لسياسات واعتبارات الحزب الحاكم، وانهاء علاقاته الأممية، الخ… وقد رفض الحزب ذلك ونشر تقرير آذار مارس 1978 الذي طالب فيه بانهاء الأوضاع الاستثنائية، واطلاق الحريات العامة لكل القوى الوطنية، والتمهيد لاجراء انتخابات عامة لمجلس تشريعي، وطالب بالتخلي عن مواقف العداء ضد سورية ومنظمة التحرير الفلسطينية، وبناء جبهة معادية للامبريالية والصهيونية ومشاريعهما في المنطقة، الأمر الذي أثار حفيظة البعث الحاكم ورد عليه باعدام 31 عضواً وصديقاً للحزب بتهمة كاذبة هي اقامة تنظيم عسكري داخل الجيش. فهل كان ما طالب الحزب به "قضايا ثانوية"؟ وإذا كانت هذه قضايا ثانوية، فما هي القضايا الرئيسية التي دعا الرفيق حاوي ويدعو للتوقف عندها؟
من الغريب ان يتمسك الرفيق حاوي بموقف لم تزكه الحياة حتى بتفاصيله الثانوية! فقد انتهت الغالبية الى ادراك الحقيقة المريرة، والشفاء من اللوثة السياسية التي سممت العالم العربي طوال عشر سنوات عجاف من حرب الخليج الأولى، حيث توهمت حتى أوساط من اليسار العربي بالدور "القومي المنقذ" لپ"حارس البوابة الشرقية" صدام حسين، وظلت تلك الغشاوة تعمي أبصار الكثيرين خلال الحرب الثانية.
الحركة الوطنية وصدام
لقد اقنع الرفيق جورج حاوي نفسه، في ما يبدو من ذكرياته، بامكانية ثني صدام حسين عن النهج الذي قاد البلاد والأمة العربية الى الهاوية، وجردها من أسباب المقاومة، واعادها عدة عقود الى الوراء. ولولا هذه القناعة لما مرر تلك الملاحظة الغريبة وغير المنصفة ليس بحق الحزب الشيوعي العراقي، بل بحق شعبنا الذي ذاق مرارة عذابات تكاد تفوق طاقة البشر. وإلا كيف لا يستنتج حاوي، بما عرف عنه من استعداد للمراجعة والنقد الذاتي بعد كل هذا الذي جرى، ان تقييماته السابقة ازاء صدام ونظامه كانت خطأ فادحاً يحتاج الى وقفة نقدية جادة؟
لقد تعززت علاقات الحركة الوطنية اللبنانية في الفترة التي كرس فيها صدام حسين سلطته المطلقة على البلاد أواخر السبعينات، حين جعل من تعميم سياسة الارهاب الجماعي والتصفيات الدموية نهجاً للحكم، ولم تقتصر علاقات الحركة وأطرافها على ادامة أوثق العلاقات مع النظام بل تعدتها الى تزكية نهجه وسياساته تحت واجهات "قومانية" وادعاءات بالمشاركة في مواجهة "الامبريالية والرجعية"، ورغم اللقاءات والحوارات المستمرة مع الرفيق حاوي حول ما يجري في العراق والنوايا الكارثية التي يبيتها صدام، فقد كان يصر على ان "المسؤولية القومية" تفرض عليه الحفاظ على التحالف مع صدام، كما ان التزاماتهم في اطار الحركة الوطنية تلقي عليهم عبئاً اضافياً.
وكنا وما زلنا نرى ان من العبث، كما اكدت التجربة، على الدوام فك الترابط بين الديموقراطية وتكريس ارادة الشعب، وبين القضية القومية، إذ لا يمكن لجلاد ومستهتر بمصير بلاده ان يكون مناضلاً ضد العدو الاسرائيلي "والتحديات الامبريالية"، وأي خطر يحيق بالوطن والأمة العربية.
ان شعبنا يتذكر بمرارة سكوت اوساط واسعة من القوى القومية واليسار العربي أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، تحت ذات الشعارات والذرائع التي لوحت بها خلال سني حربي الخليج، عن النهج المدمر لصدام حسين الذي قام بتنظيم المجازر الجماعية بحق جميع الأحزاب والقوى السياسية، دون ان يوفر رفاقه وأقرب اصدقائه ومساعديه، كما يتذكر الزيارات المكوكية لبغداد، تحت واجهة دعم "الصمود والتصدي للمعتدي الاسرائيلي"، التي لم تكن وظيفتها في حقيقة الأمر تتعدى اظهار التعاطف والدعم لصدام حسين، "لتحليل" استلام المخصصات الشهرية التي كانت تبلغ مئات الآلاف من الدولارات "لتنظيف" تلك المجازر، وكانت وفود الحركة الوطنية اللبنانية تحصد حصة الأسد من تلك المساعدات. وكان من الممكن غض النظر عن تلك العلاقات لو ان أطرافها لم يفلسفوها، باضفاء "طابع قومي" عليها. يومها طلب منا الرفيق محسن ابراهيم، بأسلوبه الودي المرح، ان نتجاوز طروحات الرفيق حاوي وتنظيراته "المبدئية" حول خلفية موقفهم وعلاقاتهم مع صدام. وقال مازحاً: "ان المبدئي الوحيد في هذه العلاقة وفي موقفنا من النظام هو الدولار، فما دام مستمراً في الدفع، يصعب علينا تغيير "موقفنا المبدئي" ازاءها"، واقترح ان نلين موقفنا و"نجمد المبادئ"، ونستفيد من حصة الحزبين لدعم كفاحنا ضد الدكتاتورية. وبذلك نكون قد "زكيّنا" هذا المال الحرام، و"استكردنا" صدام، وأعدنا المصداقية لپ"مبادئ" الرفيق جورج. كان هذا اللقاء بمشاركة الرفيق فواز طرابلسي الذي كان واضح التعاطف معنا، وتابع شخصياً دفع مساهمة منظمة العمل الشيوعي اللبناني على دفعتين بلغت الواحدة منهما خمسين ألف دولار. ولا بد من الاشارة الى ان هذه التسوية المخلة من الناحية السياسية لم تكن موضع رضانا جميعاً.
انقلاب أم ثورة ؟
بعد ذلك التقينا الرفيق حاوي، الرفيق عزيز محمد وكاتب هذه السطور، وأعاد علينا اقتراح الرفيق محسن ابراهيم ملمحاً الى اتفاقه بهذا الشأن، إلا انه خلافاً لما ذكره ابراهيم حول أساس العلاقة بالنظام أعاد تأكيد طروحاته السياسية والفكرية ازاءه. وقدم هو الآخر خمسين ألف دولار، ولمرة واحدة، في اطار الاتفاق المشار اليه اعلاه. وكان قد سبق اللقاء المذكور اجتماع بين وفدين من قيادة الحزبين العراقي واللبناني بحضور حاوي وعزيز محمد. وقد أثار الوفد بانزعاج شديد نشر جريدة "النداء" الناطقة باسم الحزب الشيوعي اللبناني خبراً عن احتفالات النظام العراقي بانقلاب 8 شباط فبراير 1963، وتسمية ذلك الانقلاب المشبوه "ثورة"! وللأسف فإن موقف الرفيق جورج لم يكن ينطوي حتى على التبرير، بل التأكيد على ان هذا الأمر ينسجم مع علاقتهم وموقفهم من الحزب الحاكم في العراق "وأن هذه الممارسة شكلية لا تتطلب الملاحظة والنقد"! ومن الانصاف الاشارة الى ان رفاقاً في قيادة الحزب الشيوعي الشقيق لم يكونوا منسجمين حول تفاصيل المواقف والسياسات التي كان ينتهجها أمينهم العام على هذا الصعيد.
من اللافت ان الرفيق حاوي كان يقيّم نظام بغداد في فترة صعود البعث في مواجهته "الشكلانية" للامبريالية والصهيونية بشكل مغاير تماماً، ومن بين مواقفه الحادة خطبته المشهورة التي أشار اليها في سيرته والتي ندد فيها بارسالية "التمر" العراقي، وعندما سأله علي غنام عضو القيادة القومية للحزب الحاكم الذي جاء على رأس وفد الى بيروت عما إذا كان سيوقف هجومه عليهم قال له: "دعنا نتصارح، هناك شخص سيء النية اتهمني بشيء وسافر وأنا أبحث عنه، اتهمني بأنني لا أقبض وأريد ان أعرف من أين أتى هذا الملعون بمعلوماته، نحن نريد مساعدة للحزب وللحركة الوطنية" … بعدها تماماً تغير الموقف جذرياً من النظام، رغم انحداره الى درك الدكتاتورية السافرة ونهج الابادة الجماعية ضد سائر الأحزاب والقوى، وباتت سياسته موضع ادانة عربية ودولية واسعة. فهل يستقيم هذا الموقف وما جسده الرفيق حاوي في ردّه على علي غنام مع الادعاءات التي سيقت في سيرته لتبرير التحالف والعلاقة مع نظام بغداد وصدام حسين.
هل هرب الشيوعيون العراقيون: أعضاء وكوادر وقيادات الى خارج العراق؟
زار الرفيق حاوي بغداد في عام 1978 وكان عزيز محمد وقياديون آخرون خارج البلاد قبل مغادرتي ببضعة أسابيع الى سورية ولبنان، بتكليف من قيادة الحزب، لتنظيم التراجع الموقت ولتأمين الهجرة المعاكسة الى داخل الوطن. ويومها رأيت من واجبي ان أضع الرفيق حاوي، ومن خلاله أعضاء وفد الحركة الوطنية، في صورة المأساة التي تحيق بوطننا، والتي تهدد بخرابه. وأثناء زيارته لپ"طريق الشعب" الجريدة المركزية للحزب. وكانت قد تحولت بسبب الحملة الارهابية الى مركز للنشاط والاتصالات الحزبية والسياسية، عرضت عليه احد العاملين في الجريدة، العائد تواً من أقبية الأمن، وقد بدا مهدماً ومحطماً من التعذيب الذي استخدمت فيه كل فنون ما بعد الفاشية. وأذكر الآن بألم وحزن كيف كان رد فعل الرفيق حاوي، فقد رأى في هذه الواقعة مجرد مسرحية وفخ لتخريب زيارة وفد الحركة الوطنية. هكذا نقل اليّ الانطباع بعض أعضاء الوفد من قادة الحركة يومذاك.
وأشهد اليوم، وقد تجاوزت الخمسين، انني كنت على درجة من السذاجة السياسية بحيث لم أكن اسمح لنفسي بنصب كمائن لأحزاب شقيقة حتى وإن فعلوا ما يلحق أفدح الأضرار بقضيتنا، إذ كنت مع معشر الشيوعيين العراقيين نفهم الأممية على انها تضحية لصالح الحركة ككل. ويبدو اننا طبقنا هذا المبدأ دائماً بالاتجاه الذي لا يصب في مصلحتنا الحزبية والسياسية الضيقة، كما فعل "أمميون" آخرون.
كان الشيوعيون العراقيون عند زيارة الوفد اللبناني، ينتقلون بالآلاف الى العمل السري، ويغيرون مواقع نشاطهم وأساليبه. وغادر الآلاف منهم للنجاة من الابادة الجماعية، كما غادر الآلاف منهم بتوجيهات حزبية للالتحاق بمنظمات الحزب في كردستان وكذلك الى دمشق و بيروت تمهيداً للانخراط مجدداً في نضال الحزب ضد الديكتاتورية في المواقع والمهام التي يحددها.
وكما ذكرت فقد كُلّفت على نطاق قيادي ضيق بالسفر الى دمشق وبيروت لتنظيم حركة التراجع، وتأهيل المناضلين تمهيداً لتنظيم عودتهم الى مواقع نضالية جديدة في اطار الهجرة المعاكسة الى الداخل وكردستان.
عند وصولي بيروت وضعت نفسي تحت تصرف الحزب الشقيق عملاً بتقاليد اتبعناها باستمرار. ولم أقبل بغير ضيافته، على رغم ان الأخ الصديق ياسر عرفات وضع تحت تصرفنا عدة بيوت مع مجموعة من المرافقين. ولا يمكن هنا إلا ان أشيد بمشاعر الشيوعيين اللبنانيين وتضامنهم معنا.
وجدت نفسي بعد فترة أخرق هذه القاعدة نتيجة تزايد الأعباء التي فرضها تدفق مئات المناضلين الناجيين من الارهاب والمطاردة الدموية، الذين كانوا بأمس الحاجة الى مأوى ورعاية، ناهيك عن العمل والتدريب، استعداداً للعودة السرية الى البلاد.
اشهد ان الأخ الرئيس ياسر عرفات و"فتح" لعبا الدور الأهم في الاحتضان وفتح المعسكرات وتقديم شتى المساعدات، وفعلت "الديموقراطية" و"الشعبية" ما يتناسب مع امكانياتيهما وانضمت اليهما المنظمات اليسارية الأخرى. وكان للحزب الاشتراكي اليمني وقيادته موقع الصدارة في الاحتضان والدعم الشامل.
وهكذا كما يبدو اننا أعلمنا الجميع بمن فيهم قيادة الحزب الشيوعي اللبناني، قرارنا بالعودة الى مختلف انحاء البلاد حسب الامكانيات المتاحة والتي نسعى بشتى الوسائل لتوسيع نطاقها، وبشكل خاص الى كردستان، للمشاركة في حركة الكفاح المسلح، وأكدنا عدم استعدادنا عطفاً على نصائح البعض باللجوء إلى البلدان الاشتراكية، للتحول الى حزب مهاجر، ورفضنا اعادة تجربة حزب تودة والحزب الشيوعي التركي. كما أعلمناهم بأن لدينا قيادة في داخل البلاد وفي بغداد بالذات، وأن هناك تجمعاً من القياديين والكوادر البارزين يعيدون بناء المنظمات والقواعد الحزبية والانصارية.
وكانت عمليات العودة الى منظمات البلاد تجري بمساعدة من الأصدقاء، وليس بمعزل عن علم عام من قيادة الحزب الشيوعي اللبناني الشقيق. ولم يمر عام او اكثر بقليل، حتى انتقل اكثر من نصف اعضاء اللجنة المركزية وغالبية كوادر الحزب الى كردستان. فهل يرى الرفيق حاوي ان كردستان، مثلاً، ليس العراق، وأن العودة الجماعية للمناضلين اليها، هي أشبه بالهروب؟!
ولمزيد من الافادة، اذكّر الرفيق حاوي بالحقائق التالية:
1 - لم يلتحق بصفوف الحزب وحركة الانصار بعد انهيار التحالف، الكوادر الذين تركوا البلاد "لأنهم أصبحوا مكشوفين أمام العدو ليس ذلك بمعزل عن الخطأ الفادح الذي ارتكبته قيادة الحزب بسياستها التحالفية" فقط، بل والمئات من المناضلين الذي كانوا يدرسون او يعملون في البلدان الاشتراكية والعديد من البلدان الرأسمالية والعربية ايضاً.
2 - ان كردستان وقواعد أنصار الحزب بالتحديد ضمت بعد ثلاث سنوات من التراجع أكثر من ثلاثة آلاف مناضل، بين أديب وصحافي وطبيب وفنان، وعامل وفلاح وطالب، رجالاً ونساء! وكانت القاعدة الانصارية الواحدة تضم أحياناً مناضلين يجيدون 16 لغة! ولم تخلُ بعض القواعد من أشهر الكتّاب والفنانين والأطباء واساتذة الجامعات، قدم العشرات منهم حياتهم في سبيل قضية شعبهم، وقضى أغلبهم بين 5 - 10 سنوات في الجبال القاسية وعلى الكفاف!
وكم كان المناضلون الذين قضوا سنة او سنتين في قواعد المقاومة الفلسطينية او الحزب الشيوعي اللبناني يتحسرون على جبال لبنان، لأن قراه النائية المتخلفة كانت تنعم بما لم يكن العديد من العواصم العربية ينعم به من خيرات ورفاهية. بينما خرج مناضلو جبال كردستان بعد سنوات وهم لم يشاهدوا شارعاً مسفلتاً! ولم يعرفوا معنى الفيديو والفاكس! وفي نفس الفترة، وقع تحت قبضة جلاوزة صدام أعضاء في اللجنة المركزية وكوادر حولها، ومنهم الشهيدة عائدة ياسين ود. صفاء الحافظ ود. صباح الدرة وكوكبة من النساء والرجال والشبيبة في منظمة بغداد والمدن الأخرى. فهل هرب الحزب الشيوعي العراقي، لا القادة كما ذكر الرفيق جورج حاوي ولا الكوادر فحسب، بل والأعضاء ايضاً! سامحك الله!
3 - كيف لا يتذكر الرفيق حاوي مآثر الشيوعيين العراقيين؟ انه تحدث عن مآثره النضالية الشخصية وهو محق في ذلك. فقد سجن بضعة أشهر، وزارته شخصيات بارزة اثناء توقيفاته وأجبر ملفقي الدعاوي عليه على الاعتراف بجرائمهم بحقه داخل مراكز الشرطة، واستطاع تنظيم الهروب من مطار بيروت. فكيف لا يعرف الرفيق حاوي ان الآلاف بلا مبالغة من شبيبة العراق قضوا سنوات طويلة في سجون الديكتاتورية منذ 1960 حتى يومنا هذا؟ وأن أطفالاً في الخامسة عشرة ودون سن الرشد، جُلدوا، وحكموا سنوات ثقيلة في السجن بعد تعرضهم لأنواع التعذيب. ألا يذكر ان الهروب من السجون، وحفر الخنادق لتنظيم الهروب الجماعي، والمواجهة مع الجلادين وتحدي السجانين ومواجهة الرصاص بصدورهم في السجون والمعتقلات، وتقاليد العمل السري في أشق الظروف وأصعبها حتى في ظل الأوضاع الفاشية الراهنة، انما هي مآثر يومية لا للشيوعيين فحسب، بل ولأصدقائهم أيضاً؟
انني اشهد واعتز بمفاخر المناضلين الشيوعيين اللبنانيين، وأعرف نماذج منهم تحمل مآثر بارزة، مع انهم لم يصبحوا قادة. كما أنحني اجلالاً أمام شهداء الحزب الشقيق وجهادية قادته. إلا ان من الصعب ان اتفهم دوافع الرفيق حاوي بايراد تلك الملاحظة المتجنية التي تتهم الشيوعيين العراقيين بالهروب. لقد تذكر الرفيق مأثرة الفنانة الكبيرة ناديا لطفي اثناء الحصار، بزيارة بيروت، ولكنه نسي مآثر مئات الشيوعيين العراقيين الذين ظلوا صامدين في بيروت وفي قواعد المقاومة والحركة الوطنية، ورفضوا الهروب الى خارجها، وقدمت كوكبة منهم حياتها في حي السلم لوجودها في مواقع أمامية قتالية.
ولماذا لا يذكر أبرز الكتّاب والصحافيين والشعراء الذين تولوا تحرير صحف المقاومة والحركة وساهموا في صحافة الحزب ووسائل اعلامه؟ بل وأن بعض الصحف والمجلات لم تجد من يحررها غير الشيوعيين العراقيين؟ ولم تجد "فلسطين الثورة" من يوزعها تحت وابل القصف على المقاتلين، في الصفوف الأمامية غير شيوعي عراقي.
ويهمني سياسياً، وبعيداً عن المفاخرة والادعاء، ان اذكّر بأن كاتب هذه السطور اخترق الحصار الاسرائيلي وعاد ليبقى مع رفاقه وأصدقائه الفلسطينيين واللبنانيين وفاء لوقفتهم مع شعبنا ويعود في آخر باخرة من بواخر الانسحاب الفلسطيني، محمولاً على المحفة، بعد تعرضه لمحاولة اغتيال على أيدي زبانية أجهزة صدام!
القومية والأممية
يقول حاوي: "العراقيون يتمتعون بالصلابة والأمانة والاخلاص لقضيتهم، لكني على خلاف معهم في كثير من القضايا التي تتعلق بالجمود والمواقف من القضية القومية العربية والموقف من الأممية التي كانت هناك معركة بشأنها. ليس من قبيل الصدفة اتهام الحزب الشيوعي اللبناني وأنا خصوصاً بأننا قوميون شوفينيون معادون للاتحاد السوفياتي. الأكثر وعياً كانوا يعتبروننا كالولد المشاكس. ولكن هذه كانت مميزاتنا. وأعتقد بأنني كنت ولا أزال أممياً اكثر منهم. لكن مفهومي للأممية هو مدى مساهمتي كحزب وشعب في النهر الأممي الكبير وليس في تحولي الى مستنقع آسن … تتجمع فيه مياه الأممية …"!
ارتبطت بمسيرة الرفيق جورج منذ بروزه الحزبي والسياسي قضايا عقدية كان له شأن في إثارتها. ومن ذلك موقفه من القضية القومية والأممية واستقلالية الأحزاب الشيوعية.
وفي سيرته الذاتية لم يترك هذه القضايا دون وقفة. لكنها للأسف وقفة لا تتناسب مع من شاء ان يقدم نفسه باستمرار كمجدد، وهو ما أكده في سيرته، التي لم ينس ان يعرّض فيها بالشيوعيين العراقيين ايضاً، والشيوعيين العرب عموماً، مفاخراً بأنه اكثر أممية منهم جميعاً.
لست أدري من أين استقى معلوماته عن تعريض الشيوعيين العراقيين بأمميته، إذ ليس بينهم من عرض بأمميته، ولا اعتقد ان أحداً منهم حاول ثلمها. ولكن الأممية، في رأيي المتواضع، لا تستقيم أبداً مع اخضاع مصائر البلدان والشعوب الأخرى لمصالح أي طرف آخر، وليس للأممية علاقة بالتعاون مع دكتاتورية دموية، واعتبار خراب بلد وحزب وشعب "حلال" شأناً لا يمس او يخدش أممية "القائد" حتى وإن كان يوظف العلاقة معها لتصريف شؤون حزبه او بلده. ثم كيف لأحد ان يعرّض بأممية الرفيق، وهو الذي كان دائماً "بشهادة سيرته" وسيطاً مبادراً بين موسكو وعواصم اشتراكية أخرى، وقيادة المقاومة وعدن واثيوبيا وليبيا… الخ.
ليسامحني الرفيق جورج، إذ استمد منه الجرأة في الاستشهاد بالطرف والنكات، وما أكثرها مما لا يقال، فالأمين العام لپ"الجبهة الديموقراطية" نايف حواتمة كان يعلق على وساطاته الأممية "ان أممية الرفيق حاوي هي ماركنتيلية صرفة"، وأخشى ان الرفيق جورج كان حريصاًْ على اعطاء مثل هذا الانطباع في سيرته وتقديم نفسه بهذه الصورة، وهذا ما انعكس بوضوح في معرض نقاشه السالف مع علي غنام، ملمحاً الى ان هجومه على النظام او ايقافه مرهون بتقديم المساعدة لا غير، وليس لأي اعتبارات سياسة او فكرية او دعاوى قومية.
ويعقب الصديق محسن ابراهيم في هذا السياق، ان وزير الخزانة الليبي استقبل وفداً ضمه وجورج وآخرين في مطار طرابلس وبعد ان حيّاهم الوزير سألهم كيف هي القضية؟ يقول محسن فوجئ الوزير عندما قلنا له بلسان واحد: "جئناك بها، خذها أرجوك واعطنا مفتاح الخزانة"!
"حركة ثورية جدىدة"
ميّز حاوي أممية منتقديه من الشيوعيين عن أمميته، بأنها مستنقع آسن … وقد استعدت بانتباه شريط المواقف الانعطافية القومية للرفيق حاوي حول القضية القومية، ولم استطع تحديد مضمونها بوضوح.
وهو لم يحدد موقفه من القضية القومية في المرحلة الراهنة، وماذا لحق به من تغيير، إذ ان مواقفه وتطبيقاته في هذا السياق تثير التساؤل والحيرة. ومرد الالتباس في توجهه لا يعود الى قناعته بأن الحزب الشيوعي لم يعد اطاراً ملائماً لتحركه السياسي والفكري في ظروف ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، إذ ان من حقه الوصول الى هذه القناعة، بل الى البديل الذي يطرحه لتفعيل فصائل الحركة الثورية ليس كخيار للحزب الشيوعي اللبناني، وانما للأحزاب الأخرى ايضاً. متجسداً بما يسميه "الحركة الثورية العربية" وهو خيار "قومي الشكل" دون محتوى واضح، مما يفقده مصداقيته السياسية والفكرية. فإذا كنت أوافق الرفيق جورج في جوانب من نقده للأحزاب الشيوعية وتخلف بعضها، لكن من العسير استيعاب تجليات هذا البديل الذي يطرحه تحت شعار حركة ثورية عربية جيدة، وهو المشروع الذي طرحه، كسبب من بين أسباب أخرى لتركه الأمانة العامة للحزب الشيوعي اللبناني، وكخيار لتجاوز تخلف الأحزاب وعجزها عن مواكبة الحركة القومية العربية والاستجابة لمتطلباتها.
ان جوهر هذا المشروع، كما تعكسه تحركات الرفيق ونشاطاته العربية منذ فترة طويلة، تستند الى تبني التجربة الليبية، وترتكز على دعمها. وتكاد كل مساعي ونشاطات الرفيق لتشكيل واطلاق مبادرته لتأسيس الحركة المذكورة تبدأ وتنهي عند هذه التجربة.
ومع تضامني مع الجماهيرية الليبية ومع الأخ العقيد معمر القذافي في مواجهة الأخطار التي تواجهها بلاده، فإن من الصعب على قومي متنور، وأنا لست منهم دون شك، قبول مثل هذا الربط بين الدعوة لتجديد حركة اليسار وتقويم مسار أطرافها من القضية القومية، وتطبيقات الرفيق حاوي. إذ هل يعقل ان ينهار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية الشمولية، وأن لا تجد قوى اليسار والتحرر بديلاً لها غير النموذج "الجماهيري"؟ وهل من المنطقي ان تنتهي جهود التجديد التي أعلن حاوي تكريس نفسه لها بعد استعفائه من الأمانة العامة للحزب، عند هذا البديل؟ وهل ان التخلف ورفض التجديد في نظره حكم عادل على من يرفض منطلقاته لاستنهاض حركة اليسار وتياراتها المختلفة او لا يستهدي او يبشر ويثقف بالكتاب الأخضر "مع انه يحترمه كوجهة نظر" بديلاً من رأس المال الذي لم تنقطع التنظيرات حول ما شاخ فيه وما لم يشخ. او الاقرار بپ"الطريق الثالث" - الجماهيرية بديلاً مما انهار من تجارب؟
التجربة اليمنية المغدورة
ربما بمحض الصدفة، كنت في عدن في نفس الفترة التي كان فيها الرفيق جورج عشية المأساة الدامية التي أغرقت الحزب الاشتراكي اليمني وتجربته بالدم والهزيمة.
ولقد قابلت القادة من الطرفين، وتمنيت على من قابلت من الأصدقاء ان يساهموا في تهدئة الأوضاع، ويسعوا للحيلولة دون تفجر الأحداث، وكنت أخفي الحقيقة عن الجميع عندما انقل لكل طرف كلاماً ايجابياً عن الآخر، وهو لا يصدق!
وأذكر آخر اتصال تلفوني لي من بيت الفقيد علي باذيب مع الرفيق علي ناصر محمد الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني، في ساعة متأخرة من ليلة الأحداث الدامية، محاولاً طرح اقتراح للتهدئة، فطلب مني الامتناع عن الاسترسال بالتلفون، على ان يرسل لي الصديق الفقيد فاروق علي أحمد ليضعني في صورة التطورات، ويسمع ما عندي.
عند وصوله، طلب الانفراد معي في حديقة المنزل، وأبلغني ان الصدام حتمي لا محالة معززاً استنتاجه بما نقله اليه الرفيق حاوي ليوصله الى علي ناصر "ان علي عنتر، حسب رواية حاوي، هدّد بأنه سيقتل علي ناصر غداً في اجتماع المكتب السياسي وأن أحد الطرفين يجب ان يخرج من المعادلة"! وقد ورد هذا ايضاً في سيرة الرفيق جورج.
قبل يومين من المجزرة زرت الفقيد علي عنتر ونقلت له ان الثورة تتحمل أكثر من علي لقيادتها.
قال لي ببساطة: "انتم العراقيين تحبوننا جميعاً، حتى إذا كنتم منحازين فكرياً لعلي ناصر، إلا ان الرفيق جورج للأسف يحرض الآخرين علينا ويتهمنا بأننا حثالة الرجعية"! لن أنقل نص كلامه.
في هذا السياق، ومنعاً لأي التباس، يهمني التأكيد على ان الحزب الشيوعي اللبناني كان حريصاً دون أدنى شك على التجربة اليمنية. ولكن انشداد الرفيق جورج الى اسلوبه في معالجة ما كان يتدخل فيه، كانت تصب في أحيان غير قليلة لغير صالح القضية.
وهكذا ذهبت التجربة اليمنية ضحية الاسقاطات "الارادوية" على عمليات التغيير في البلاد وعدم نضوج مقدماتها… ضحية الصراع المنفلت على السلطة بالمعايير القبلية والمناطقية… ضحية حسن نوايا قادة الحزب الاشتراكي بالخبرة التاريخية لاشقائهم، ولرفاقهم من قادة حركة القوميين العرب الفلسطينيين حيث حاول كل طرف في الحزب ان يستميل هؤلاء القادة الى جانبه وكم كان سهلاً ان يسمع كل منهم ما يعجبه ويثيره من بعض هؤلاء القادة.
أخيراً… لا بد لي في الختام ان اعبّر عن الأسى والحزن لعجزي عن التزام الصمت والايفاء بتعهدي مع نفسي بتجنب الكلام، وكل شيء من حولنا يتحول وينقلب، فقد تركت منذ بضع سنوات العمل القيادي متفرغاً للنشاط الثقافي والفكري، تقديراً، وربما توهماً، بامكانية تقديم ما يضفي مصداقية اكثر على التفاعل مع المشاعر المحبطة للناس وتوقهم للخلاص من محنتهم وعذاباتهم ووساوسهم وأوهامهم وأحلامهم…
أشعر بالحزن لأن الرفيق جورج بملاحظاته الجارحة لم يترك لي خياراً آخر. ولم يبذل الجهد لكي يوظف ذاكرته وذكرياته، في مثل هذه الظروف الصعبة والمعقدة، مساهمة منه في ايقاف الانحدار والتدهور ولاستنهاض الناس واستعادة ثقتهم، ومعافاة المناخ السياسي والفكري الملوث، دون ان يتجنب قول الحق وعرض الوقائع، بعيداً عن اغراءات الاثارة الاعلامية.
أشعر بالحزن لأنني طالما أبديت اعجابي بالعمل القيادي الجماعي للحزب الشيوعي اللبناني، وبالديموقراطية الحزبية التي يتيحها الحزب لجميع الكوادر للمساهمة في رسم سياسته وتوجهاته. وإذا بالرفيق جورج يصدمنا إذ يقدم لنا كل ما كان يبدو انه حصيلة نقاش وجهد جماعي في القيادة والحزب، إن هو إلا مبادرة وانجاز فردي وشخصي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.