الاشارات الايجابية المتبادلة بين سورية واسرائيل والتي رافقت المفاوضات "الجدية" و"الحاسمة" في ميريلاند بكرت في طرح سؤال حول مستقبل العلاقات السورية - الايرانية. ولعل خوف ايران من العزلة ومن احتمال خسارة "حليفتها الاستراتيجية" هو الذي كان وراء الحملة التي شنتها وسائل اعلام ايرانية على الخيارات السورية في موضوع السلام مع اسرائيل. واضح ان العلاقات بين دمشقوطهران ستتعرض لعملية اعادة صياغة الزامية في حال كانت السنة الحالية سنة معاهدة السلام السورية - الاسرائيلية واعلان النهاية الرسمية للنزاع العربي - الاسرائيلي. وظهر هذا الواقع جلياً من خلال تصريحات وزير الخارجية الايراني علي أكبر ولايتي الذي أكد على الاستمرار في علاقات "صداقة استراتيجية" مع سورية لكنه اعترف في الوقت نفسه ب "بعض الاختلافات في السياسة الخارجية". والواقع ان الافتراق في الحسابات بين دمشقوطهران يفتح ملفات عدة بينها مستقبل "حزب الله" في لبنان والعلاقات مع الحركات اللبنانية والفلسطينية الراديكالية التي تقيم علاقات وثيقة مع العاصمتين اضافة الى ملفات اقليمية أخرى تتعلق بالعراق وتركيا. يبقى ان جدية التفاؤل على المسار السوري - الاسرائيلي لن تتضح قبل جولة وزير الخارجية الاميركي وارن كريستوفر ومحاولته توفير صياغات مقبولة لضمان ترسيخ ما اتفق عليه ومعالجة النقاط العالقة. هدأت الحملة التي شنها بعض الصحف الايرانية على سورية وكادت تهدد بانفراط عقد التحالف الاستراتيجي الذي استمر 17 عاماً لولا مسارعة الجانبين الى احتواء الموقف. ولمعرفة الدوافع وراء كل هذه الضجة لا بد من عودة سريعة الى تقرير وضعته أجهزة رسمية في طهران وتوقعت فيه ان تشهد العلاقات الايرانية - السورية مرحلة افتراق بعد التوقيع بين سورية واسرائيل على معاهدة سلام شاملة تؤدي تالياً الى انحسار الدور الايراني في المنطقة وعلى الصعيد الدولي. التقرير أعد قبل اغتيال رئيس الوزراء الاسرائيلي اسحق رابين وحمل مؤشرات على اصطفاف جديد في خريطة النظام العالمي الجديد والدور الذي ستؤهل له منطقة الشرق الأوسط بعيداً عن ايران وتأثيراتها. وطرح التقرير سؤالاً عما سيكون عليه وضع العلاقات الايرانية - السورية وكذلك عن مصير قادة الفصائل الفلسطينية المعارضة إضافة الى مستقبل "حزب الله" في لبنان؟ وخرج التقرير باستنتاج انه إذا وضع السوريون أقدامهم على مرتفعات الجولان فإنهم سيغيرون نهجهم السياسي ويديرون ظهرهم للايرانيين ولن يتحملوا وجود قادة الفصائل الفلسطينية المعارضة على أراضيهم. ويمضي التقرير الايراني وعنوانه "سورية وسلام الشرق الأوسط" الى التأكيد على ان اسرائيل يستخدم التقرير اسم الكيان الصهيوني تدرك تماماً ان الاستقرار السياسي والاجتماعي والأمني في سورية يرتبط بوجود القيادة الحالية،. لقد شعر كبار الزعماء الايرانيين بفرح غامر لدى سماعهم نبأ مقتل رابين، اذ شكل اغتيال واحد من أهم أعمدة عملية التسوية السلمية، ورحيله على يد يهودي من داخل اسرائيل نفسها، مناسبة لكي تجدد طهران معارضتها هذه العملية بعد ان تعززت حجتها وصارت ترسل الكرة الى ملعب أولئك الذين يطالبونها بالكف عن معارضة العملية رغم انها لا تعمل على تقويضها. ومع ان هذا الابتهاج كلفها تعريض علاقاتها "المزدهرة" مع بون للخطر، عندما ألغى البرلمان الألماني زيارة وزير الخارجية الايرانية علي أكبر ولايتي للمشاركة في ندوة "الحوار بين الاسلام والغرب"، الا ان طهران رضيت بركوب المركب الصعب مع بون أكبر شركائها التجاريين لأنها كانت تعلل النفس بالآمال وعلى اساس ان الغضب الالماني مجرد سحابة ستنقشع سريعاً لا سيما بعد المعارضة الحقيقية للسلام من داخل اسرائيل، العنصر الرئيسي في التسوية. السلام والجزر ولم يطل فرح طهران اذ راحت الريح تهب باتجاه آخر لم يكن في الحسبان. وأخذت وتائر التفاؤل على المسار السوري تثير قلقها. ولم تعلق في تلك الفترة بشيء، لكنها طلبت من دمشق الموافقة على استقبال نائب الرئيس الايراني حسن حبيبي لتبحث معها "هموم" ما بعد التطبيع السوري - الاسرائيلي. ولم تتم زيارة حبيبي لدمشق التي كانت "مشغولة" في تلك الأيام بمؤتمر برشلونة الذي يحاول ترتيب السوق الاقتصادية الجديدة" الشرق أوسطية بوجه خاص "كنتاج عملي لنجاح التطبيع مع اسرائيل". وبالتحضير لاستقبال المنسق الاميركي "دنيس روس" ومن بعده وزير الخارجية وارن كريستوفر الذي أقنع دمشق بإرسال المفاوض السوري الى واشنطن. وعلمت "الوسط" ان طهران كانت راغبة في ان تتم زيارة نائب رفسنجاني للعاصمة السورية أواخر تشرين الثاني نوفمبر أو أوائل كانون الأول ديسمبر لكي تدخل على خط "التسوية" وتؤمن مكانها حول الطاولة، ولكن ذلك لم يحصل فظهرت بداية الانزعاج الايراني. ويشار هنا الى ان السفير الايراني في دمشق حجة الاسلام اختري التقى في تلك الفترة كبار المسؤولين السوريين ونقل اليهم الرغبة الايرانية بشأن زيارة حبيبي وسارع الاعلام الايراني الرسمي الى الحديث عن زيارة حبيبي "الوشيكة" لسورية قبل حوالي الشهر من الاعلان عنها على لسان ديبلوماسي ايراني من دمشق. ويلاحظ ان تصريح الديبلوماسي الايراني تزامن مع موقف رسمي صدر في طهران رداً على بيان وزراء خارجية دول اعلان دمشق بشأن الخلاف الايراني - الاماراتي حول الجزر. وإثر ذلك جمدت طهران زيارة حبيبي وأعلنت تأجيلها الى إشعار آخر دون ان توضح الأسباب، إلا ان الصحف ذكرت بأن السبب يكمن في الموقف السوري المؤيد للامارات خلال اجتماع دول اعلان دمشق قبل ان تأخذ الحملة الصحافية الايرانية منحى آخر بالتركيز على الموقف السوري من التسوية مع اسرائيل. واللافت في هذه الحملة ان المتشددين اليسار الديني لم يشاركوا فيها، وأنها ترافقت مع الحديث في طهران عن وساطة عمانية بين ايرانوالامارات كشفها مسؤول رفيع في الخارجية الايرانية أكد لپ"الوسط" وجود عرض في هذا السياق نقله الى طهران رئيس مجلس الشورى العماني الشيخ عبدالله بن علي القتبي، الذي استضافت بلاده القمة الخليجية الأخيرة التي خرجت ببيان حول الجزر لم تكن طهران تتوقع صدوره بهذه اللهجة ومن مسقط بالذات. واذا كانت ايران اعتادت في كل الاجتماعات السابقة على بيانات من مجلس التعاون الخليجي ودول اعلان دمشق تؤيد الامارات من دون ان يؤثر ذلك في علاقاتها "المميزة" مع بعض الدول، فإنه من الواضح ان "الزعل" الايراني من سورية لم يكن بسبب "الجزر" وانما لأن طهران بدأت تشعر ان تحالفها الاستراتيجي مع دمشق أخذ في التصدع وقد يتجه هذه المرة نحو الانهيار ولم يعد عامل المماطلة الاسرائيلية في المفاوضات مع سورية يفيد الايرانيين كورقة تدعم معارضتهم المستمرة لعملية السلام. ويرى خبراء ان طهران وجدت نفسها وجهاً لوجه أمام عملية السلام. فأما ان تختار تطبيق ما قاله وزير الخارجية الايراني علي أكبر ولايتي قبل مرحلة "ميرلاند" عن انه كلما اقتربت دولة من اسرائيل ابتعدت عن ايران... أو تنحاز الى رأي يختلف عن الأول بدرجة كبيرة أطلقه ولايتي أيضاً الذي قال ان العلاقات الايرانية - السورية لن تشهد تغييراً جوهرياً اذا وقعت سورية معاهدة سلام مع اسرائيل. اكتشفت طهران ان الزمن لم يعد في صالحها، ورأت واشنطن تصعد ضغوطها وتشرع قانونين الأول: تمويل عمليات سرية داخل ايران، والثاني: إقرار عقوبات ضد الشركات غير الاميركية التي تتعامل مع ايران. إذن ماذا تفعل؟ رسالة من الشرع بعض المحللين هنا يرى ان الحملة التي قادتها صحف "موالية للحكومة على سورية تمت بتنسيق مع القيادة الايرانية التي أرادت ان تمارس الضغط على دمشق قبل ان يمضي قطار التسوية الى محطته الأخيرة، ولكي تضمن مقعداً لها حول الطاولة الاقليمية"، وعن طريق سورية وكما كان هو الحال في العلاقة بين البلدين طوال السنوات الماضية. ويستند هؤلاء المحللون الى ان الحملة هدأت بعد اللقاء العاجل الذي عقده سفير سورية النشط أحمد الحسن مع مساعد وزير الخارجية الايراني للشؤون العربية والافريقية حسين شيخ الاسلام ونقل خلاله رسالة من وزير الخارجية السوري فاروق الشرع الى ولايتي جددت تأكيدات القيادة السورية أنها ستواصل وقوفها الى جانب ايران في المحافل والأوساط الدولية ولن تتخلى عن علاقاتها الاستراتيجية معها. وان سورية "لن تدير ظهرها لأصدقائها مقابل أي شيء يقدم لها". وأكد السفير الحسن لپ"الوسط" انه لمس ارتياحاً كبيراً من القيادة الايرانية وإصراراً على استمرار العلاقات المتينة بين البلدين. وحول السلام قال ان السلام الذي تنشده سورية هو السلام العادل والشامل القائم على اساس انسحاب اسرائيل من الأراضي العربية المحتلة والتزامها الشرعية الدولية وتنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي 242 و338 و425 الخاص بلبنان. وتابع ان ايران ليست ضد سورية عندما تسترجع أراضيها. وانتقد الحسن بعض الصحف الايرانية، وقال ان انفعال بعض الصحف هنا أعطى وسائل الاعلام الغربية مادة لكي تضخم الأزمة الخفيفة التي طرأت مؤخراً ولتحاول الايحاء بوجود خلاف كبير بين ايران وسورية، أو ان العلاقة المتميزة بين البلدين بدأت بالتصدع والانهيار. وقال: "يجب ألا نمنح الذين يصطادون في الماء العكر الفرصة لتخريب العلاقات الاستراتيجية القائمة بين ايران وسورية. وفي الاتجاه نفسه قلل المستشار لشؤون الشرق الأوسط في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية التابع لوزارة الخارجية الايرانية محمد علي مهتدي من أهمية ما يثار حول العلاقات الايرانية - السورية. وقال ان هذه العلاقات قائمة على اسس وهياكل ثابتة للتنسيق والتشاور حول مختلف القضايا. واعتبر مهتدي ان للبلدين مصالح مشتركة لا يمكن لأحدهما التفريط بها، إضافة الى الثقة المتبادلة بين القيادتين محذراً من الرهان على النيل من العلاقات الاستراتيجية واستغلال أية فرصة لدق أسفين بين البلدين. ووصف ما جرى انه سحابة مرت وانتهت". مدافعون ومتفهمون والى جانب المنتقدين لسورية كان في طهران مدافعون. فقد وصفت صحيفة "كيهان انترناشيونال" القريبة من الزعيم الديني آية الله علي خامنئي الحملة الصحافية على سورية بأنها "سخيفة". وقالت انه على الصحافي ان يفكر مرتين قبل توجيه اللوم بصورة مباشرة الى سورية ويتهمها بنكران الجميل، في اشارة الى ما أورده بعض الصحف الايرانية. وأضافت الصحيفة انه ليس لائقاً بالصحافة الحديثة استخدام عبارات غير ودية عن بلد ما زال صديقاً وحليفاً لايران. وبررت الموقف السوري الأخير من السلام وقال ان القيادة السورية تعرف جيداً ما ينفع شعبها وما يضره "وان الرئيس السوري حافظ الأسد ليس حديث عهد بالديبلوماسية الدولية". وعبرت أوساط مطلعة عن اعتقادها ان مقال "كيهان انترناشيونال" ربما يعكس رأياً تتبناه قيادات ايرانية عليا على خلفية ما دار في اجتماع نائب الرئيس السوري السيد عبدالحليم خدام مع الرئيس الايراني هاشمي رفسنجاني مطلع ايلول سبتمبر الماضي. وكان خدام زار طهران في 2 ايلول حيث أكد له رفسنجاني ثقته الكاملة بحنكة الرئيس الأسد وحكمته في ما يتعلق بعملية السلام. هدأت العاصفة... ولكن هل نزع البلدان فتيل الأزمة الى ما لا نهاية له؟