إذا صح أن للخطاب الذي افتتح به الرئيس حسني مبارك الدورة الأولى لمجلس الشعب الجديد، أكثر من زاوية تستحق التحليل والتعليق، فإن أهم ما فيه - في رأي بعض المراقبين - أنه أكد بوضوح التحولات المتصاعدة في لغة الخطاب السياسي المصري منذ مطلع العام الجاري، وربما منذ نهاية 1994. وألقى أضواء على نهج الحكم في السنوات المقبلة. وشمل الخطاب أفكاراً رئيسية صيغت بعناية: 1- التركيز تكراراً على شعار "الوطنية المصرية" سبيلا إلى تحقيق البرنامج المطروح. وذلك يعني إبراز الخطر الخارجي. 2- تقديم الحديث عن المشاكل الداخلية وبخاصة الأمن والإرهاب والديموقراطية. 3- إبراز مهمة الحفاظ على الأمن القومي للبلاد بمعناه الواسع. الأمن القومي يحكم كل شيء. 4- تأكيد استمرار دعم السلع والخدمات الصحية والتعليمية ومجانيتها. 5- الحديث عن "رعاية" الصناعة الوطنية في ظل أوضاع تحرير التجارة مما يعني التمسك بحماية هذه الصناعة. 6- اعتبار أن ما تمر به الأمة العربية الآن هو من الأوضاع المرحلية الطارئة. التعامل مع العرب كأمة واحدة. 7- الحديث عن تطوير قدرات القوة المسلحة المصرية "درع مصر والعرب". وهي القوة الداعمة لكل شعب عربي يتعرض للتهديد أو العدوان "لأننا نؤمن بوحدة الأمن العربي". تأكيد الدور العربي الرائد لمصر. ورأى المراقبون في تصاعد لغة الخطاب السياسي المصري على هذا النحو، اتجاهاً نحو "ناصرية" جديدة، تعتمد اقتصادا مختلفا عما كان قائما في مرحلة الستينات، وخطة مختلفة لتحقيق التضامن العربي واستنهاض الحماسة الوطنية من التاريخ القريب، ضمن تحولات كبرى وصعوبات كثيرة داخلية وعربية واقليمية ودولية. و"الناصرية الجديدة" تختلف عن "الناصرية الأولى" في لغة الخطاب والشعارات والأشخاص أيضاً. اذ اعتمدت الأولى لغة الخطاب القومي العربي إطارا للخطاب الوطني. بينما تعتمد الجديدة الخطاب الوطني سبيلا لتحقيق الأمن القومي. واعتمدت الأولى شعارات الجلاء والاستقلال وطرد الاستعمار. والجديدة رفض التبعية وحرية الإرادة الوطنية والتذكير بالمخاطر الخارجية. واعتمدت الأولى الاقتصاد المخطط والمركزي حيث الدولة تؤمم وتصادر وتتحكم بكل نشاط، وتستند الجديدة الى التخطيط الذي يفسح مجالا واسعا للنشاط الخاص ويبقي للدولة مسؤولية المشاريع الكبرى. ودعت الأولى إلى الوحدة العربية إلى حد استعمال اسم "الجمهورية العربية المتحدة" بدلا من مصر. وتعتمد الجديدة اسم "جمهورية مصر العربية"، وتضع خطة لتحقيق التضامن العربي ووحدة مصالح الأمة العربية والعمل على صياغة ركائز الوجود القومي وعناصر الأمن العربي بمعناه الشامل. واعتمدت الأولى استراتيجية الحفاظ على الأمن القومي للأمة العربية، وتنادي الجديدة باستراتيجية الحفاظ على الأمن القومي لمصر بمعناه الواسع، وهو ما يرتب ضرورة تنسيق المواقف العربية وتحقيق حد أدنى من التضامن العربي. وهي في تحركها أكثر براغماتية، وفي خطابها أقل عقائدية وتحاول استعادة ما خسرته القاهرة من مواقع بين البلاد العربية في مواجهة صعوبات كثيرة داخلية وخارجية. وفي قضايا العدالة الاجتماعية، اعتمدت الأولى الالتزام اقتصاديا وسياسيا بضمان تقديم الخدمات التعليمية والصحية والخدمات العامة الى الجميع من دون مقابل. أما الجديدة فتحاول تحقيق الحد الأدنى من حاجات الناس وتفعيل القطاع الخاص لتلبية حاجات القادرين، في مجال الصحة والتعليم اساسا. والخلاصة أن "الناصرية الأولى" كانت شديدة المركزية، بينما "الناصرية الجديدة" تبقي على المركزية انتاجا واشرافا، لكنها تتيح للنشاط الخاص الحر فرصا أكبر باشراف عام للدولة. خطاب سياسي جديد ولوحظ أن السنوات الماضية شهدت تحولاً كبيراً في مفردات الخطاب السياسي الرسمي وغير الرسمي. وساهم في هذا التحول نزوع الدولة بعد حرب تشرين الأول اكتوبر إلى تهيئة المجتمع لحالة سلام طويلة، وتأكد ذلك باطلاق عملية كامب ديفيد، وبفتح الباب أمام النشاط الفردي في مجالات عدة وإلغاء الحراسات على العقارات والمشاريع وتعويض اصحابها، وكذلك تعديل قوانين الاصلاح الزراعي. مما أدى إلى ظهور قوة اجتماعية تملك قدرة مالية واقتصادية صارعت نفوذ مؤسسات القطاع العام في كل المجالات رافعة شعار الخصخصة. وتقاطع ذلك التحرك الداخلي مع الضغوط التي مارسها ويمارسها البنك الدولي والمؤسسات المالية الدولية الأخرى بما في ذلك الدول التي تقدم منحا ومعونات وقروضاً. وبدأ هذا الخطاب السياسي يتبلور بوضوح بعدما واجهت مجموعات رجال الأعمال التحدي الذي تفرضه الاتفاقات الدولية مثل "الغات" واتفاقات الشراكة الأميركية والاوروبية التي تضعف من اجراءات الحماية المحلية الرسمية كما تضعف فرص النفاذ الى الأسواق العربية المحيطة. وتقاطع هذا الموقف الاقتصادي مع تزايد الشعور بخطر التفوق الاسرائيلي العسكري والتقني في ظل توقيع الاتفاقات مع اسرائيل ومشروع اقامة السوق الشرق الأوسطية. لذلك علا صوت رجال الأعمال المصريين بشدة اثناء مناقشة الإطار الاقتصادي الذي بدأ في القمة الاقتصادية في الدار البيضاء ثم في عمان، وكذلك لدى مناقشة الإطار المتوسطي الذي بدأ في برشلونة. وفي الحالتين كان التحفظ المصري الرسمي وغير الرسمي واضحا. وإذا كان التحفظ عن الجانب السياسي أكثر وضوحا في المشروع الشرق الأوسطي فإن التحفظ عن الجانب الاقتصادي كان أكثر بروزا في المشروع المتوسطي أي الأوروبي. مؤشرات ويستند المراقبون في ترجيحهم الاتجاه إلى ناصرية جديدة، الى مجموعة من المؤشرات تؤكد التحول المتصاعد في لغة الخطاب السياسي المصري. ومن هذه المؤشرات في الشهور الأخيرة تصريحات للمشير حسين طنطاوي وزير الدفاع اعلن فيها يوم 6 تشرين الاول اكتوبر 1995: "ان التهديد الاكثر خطراً للامن القومي يأتي من خلل في التوازن العسكري". وهو لا يشير بالطبع الى الخلل بين مصر وأي من جاراتها العربية، بل الى اسرائيل وما تملك من اسلحة نووية. وكرر هذا الموقف قادة عسكريون آخرون في اكثر من مناسبة. ففي الاول من تشرين الثاني نوفمبر 1995، صرح الفريق مجدي حتاتة رئيس الاركان ان القوات المسلحة المصرية اظهرت كفاءة عالية خلال المرحلة الاخيرة من المشروع التكتيكي "ناصر - 1" الذي نفذه الجيش الثاني الميداني يوم 31 تشرين الاول. ويذكر ان القوات المصرية كانت تطلق على مناوراتها التدريبية اسماء منها: بدر ، وبدر - 1 وعبور المواقع المائية، والدفاع عن الممرات. وكلها اسماء ذات دلالة ورسائل لا تخطىء اسرائيل التقاطها. وبعد ايام صرح المشير طنطاوي تعليقا على المناورات المشتركة "النجم الساطع" بأن مصر ترحب بالاشتراك مع الدول الكبرى في التدريبات، وانه لن يكون هناك مانع من اشتراك اسرائيل بعد ان يكتمل مسار السلام الفلسطيني ويعم السلام منطقة الشرق الاوسط على كل المسارات. وكان وزير الخارجية عمرو موسى القى، قبل يومين من المناورات، محاضرة امام طلاب جامعة القاهرة شدد فيها على ضرورة الاسراع في تنفيذ الاتفاق الفلسطيني - الاسرائيلي. واضاف الى شروط التوصل الى السلام الشامل، شروطاً اخرى منها التحقيق مع المسؤولين في اسرائيل عن جريمة قتل الاسرى المصريين ومحاكمتهم وتعويض عائلات الضحايا والاعتذار رسميا عن هذه الجرائم. وقال في المحاضرة نفسها إن مصر لا تعترف بقرار الكونغرس الخاص بنقل السفارة الاميركية الى القدس وانها لن تعترف به وليس لديها اي نية لاحترامه. واذا اخذنا بالترتيب الزمني الذي تراكمت معه مجموعة المؤشرات، الرسمية وغير الرسمية، الى "ناصرية جديدة"، فيمكن البدء بالشهور الأخيرة من عام 1994 التي شهدت نشاطاً فنياً مسرحياً واذاعياً وتلفزيونياً ملحوظاً، علت فيه نبرة انتقاد اسرائيل والولاياتالمتحدة. وكان من ابرز ما شاهده المصريون فيلم "زيارة السيد الرئيس" المقتبس عن واقعة زيارة الرئيس الاميركي السابق ريتشارد نيكسون لمصر واستقبال الرئيس أنور السادات اياه. ويدور الفيلم على مجموعة الشائعات التي صاحبت الزيارة عن توزيع الجبن والحليب المجفف واستقبال اهالي القرى قطار الرئيسين. وفي الفيلم مشاهد مباشرة عن الزيارة استعملت رموزا عن المعونة الاميركية. وقام الممثل محمود عبد العزيز بدور رئيس مجلس القرية المنفذ لتوجيهات السلطة. وقام الممثل نجاح الموجي بدور السادات مرتديا البدلة العسكرية التي اشتهر بها. وفي مطلع العام الحالي كان الفنان محمد صبحي يقف على خشبة مسرح سينما قصر النيل ليقدم مع فرقته مسرحية "ماما اميركا" ويخاطب الاميركيين قائلا: "طبعا ح تتهموننا بالارهاب"... ويشاهد المتفرجون تمثال الحرية الاميركي وهو ينفجر، ويخرجون بعد ثلاث ساعات من الضحك والتفكير وهم يتساءلون هل صحيح ما ذكره محمد صبحي عن اميركا؟ وما الذي كان يقال لنا عنها لسنوات إذن؟ وقدر المراقبون ان مسرحية "ماما اميركا" التي تنتقد بشدة الولاياتالمتحدة، هي كغيرها من المسرحيات والمسلسلات المصرية التي تميل عموماً الى الدراما الوطنية والقومية وتفيد من هامش واسع لحرية التعبير على خشبة المسرح لا يزيد عليه اي هامش آخر في وسائل التعبير الاخرى. وفي كانون الثاني يناير 1995 شرح الرئيس حسني مبارك اثناء لقائه الكتاب والمفكرين المصريين، موقف بلاده الرافض للتجديد اللانهائي لاتفاقية حظر الانتشار النووي، والاسباب التي تجعلها تنادي الدول الاخرى الى هذا الموقف ومنها بالطبع امتلاك اسرائيل السلاح النووي ورفضها التوقيع على الاتفاقية. واستمر المناخ السياسي في القاهرة ساخنا منذ مطلع 1995. ولم يعد انتقاد الولاياتالمتحدة او حتى تحديها وتحدي اسرائيل قاصرا على المسرح، وانما تزايدت المسلسلات الوطنية التي يقدمها التلفزيون المصري سواء بإعادة بث مسلسلات وافلام سبق تقديمها، او ببث افلام جديدة كان ابرزها فيلم "الطريق الى ايلات" الذي حرص الناس جميعا تقريبا على مشاهدته وهو يتناول عملية نسف قطع بحرية اسرائيلية في ميناء ايلات عام 1969 اثناء حرب الاستنزاف. وفي الوقت نفسه سارت الصحف المصرية القومية والحزبية في حملة متصاعدة تحضيرا للمؤتمر العالمي الخاص بتجديد اتفاقية منع الانتشار النووي. وتلقف الكتاب والصحافيون والمعلقون الاذاعيون تصريحات الوزير عمرو موسى فأفاضوا في تفصيلها وتعزيز معانيها، ونشطت كل الجمعيات غير الحكومية المشتغلة بالقضايا السياسية المباشرة او بقضايا حقوق الانسان. وعندما حاولت اسرائيل الايحاء بأن وزارة الخارجية المصرية وراء الحملة، تصدى لها الرئيس مبارك في مؤتمراته الصحافية مؤكداً مطالب مصر قبل التوقيع على التمديد اللانهائي لمعاهدة منع الانتشار النووي. وازدادت الاجواء سخونة خصوصاً مع تدخل واشنطن لتهدئة القاهرة، ومع تأكيد اسرائيل انها لن توقع على المعاهدة كما تطالب مصر. وشكّل الموقف من هذه القضية نقطة التقاء لجميع القوى السياسية المصرية الحكومية وغير الحكومية والحزبية وغير الحزبية. وساهم الفنانون والادباء في تغذية هذه الحملة التي تركت مناخا "نضاليا" كان غاب لسنوات عن الاجواء المصرية، وإن لم تنجح في تحقيق ما طلبته القيادة المصرية. "ناصر 56" وما كادت هذه الموجة تنحسر، حتى دفعتها موجة اخرى من النشاطات الفنية والادبية والتعليقات السياسية، دارت كلها حول الزعيم الراحل جمال عبدالناصر ومرحلة حكمه، وبخاصة حرب العدوان الثلاثي عام 1956 وحرب الاستنزاف بعد عام 1967. وتحول الاستعداد للاحتفالات بثورة 1952 الى نشاطات ادبية وفنية وسياسية تركزت على ابراز الجوانب الايجابية لثورة تموز يوليو المرتبطة بشخصية عبدالناصر. وساهمت كل القوى في هذه النشاطات سواء التي تدافع عن تلك المرحلة او التي تنتقدها. وأدلى النشاط الفني بدلوه ايضا واعلن التلفزيون استعداده بفيلم "ناصر 56" الذي كتب حواره محفوظ عبدالرحمن ومثل بطولته أحمد زكي وفردوس عبدالحميد واخرجه محمد فاضل. وعرض في حفلة افتتاح مهرجان القاهرة للتلفزيون الذي شاركت فيه دول عربية كثيرة. وعلى رغم ان "ناصر 56" يتناول مئة يوم في حياة عبدالناصر والشعب المصري بعد تأميم قناة السويس، الا انه اثار حماسة شديدة ردها بعضهم الى الحنين القومي، وردها آخرون الى الجدل السياسي الحاد بين الاحزاب. ولكن لوحظ ان الصحافة القومية التي تعد ناطقاً شبه رسمي للحكم، مالت نحو الترويج للفيلم وموضوعه. بل شهدت جريدة "الاهرام" معركة صحافية حول "ناصر" ساهم فيها مهاجما ومنتقدا الكاتب ثروت اباظة وكيل مجلس الشورى والكاتب المؤرخ عبد العظيم رمضان الذي كان ينشر في "الاهرام". اذ ضاقت المساحة بنشرها في "الوفد" التي اخذت بالطبع موقف المنتقد لعهد ناصر ولم تخفِ انزعاجها من عودة الحديث الكثير والايجابي عنه. حتى موضوع فيلم "ناصر 56" وهو تأميم قناة السويس، اعترض عليه الكاتب ثروت اباظة وقال إن التأميم كان عملا متسرعا لا داعي له. وكتب مهاجماً عبدالناصر وقرار التأميم والناصريين. ولم يتوقف عند هذا وانما انتقد ايضا كل من يحاول ارجاع نصر تشرين الاول اكتوبر 1973 الى الاستعدادت التي سبقتها منذ ما بعد 1967. مرة اخرى كاد الحديث، او قل الصراع، حول تقويم عبدالناصر ومرحلته يغطي على كل التعليقات السياسية في فترة الاحتفالات بثورة تموز 1952. وما كادت هذه الفترة ان تنتهي حتى بدأت، او هي التحمت بالفترة التالية التي شهدت حديثا متصاعدا ومتكاثرا عن شخصية عبدالناصر والعهد الناصري، استمر صعداً طوال شهر آب اغسطس وايلول سبتمبر ليلتحم بمرحلة الاحتفالات بحرب 6 اكتوبر. وربما ساهمت مناسبة مرور 25 عاما على رحيل عبدالناصر على زيادة حجم المنشور عنه. ولكن الاجواء السياسية المحيطة وبخاصة زيادة حدة الانتقادات الموجهة الى اسرائيل، جعلت المقالات المنشورة عن الرئيس الراحل بما تذكره من احداث ماضية تفسر بنظرة حاضرة، وبات يصعب على القارئ الفصل بين الحديث عن الوضع الحالي - وبخاصة التعنت الاسرائيلي - والحديث عن العهد الناصري والعكس بالعكس. وساهم في اشتعال الخطاب السياسي وعلو النغمة القومية في الكتابات المنشورة، الكشف عن مذبحة الاسرى المصريين في حرب 1956 وكذلك عام 1967 والتي تناولها كثير من الكتاب لا من زاوية الوقائع فحسب وانما ايضا من زاوية التحليل الفكري والسياسي والعقيدي للسلوك الاسرائيلي واليهودي. وامتلأت الصحف والمجلات بمقالات تذكر بمقالات سابقة قديمة في مرحلة النهوض القومي العربي في الستينات. كما ساهم في هذه الاجواء، الحديث الكثير الذي رددته المراجع الرسمية وغير الرسمية عن ضرورة اجراء المصالحة العربية، والمحافظة على الجامعة العربية وتقويتها ودور مصر القيادي العربي. وكلها قضايا ترشح بالحنين الى صور الماضي الناصري. ذكرى عبدالناصر حتى ذكرى وفاة عبدالناصر وجدت في الصحف القومية من يذكرها مرتبطة بأحداث واقعة سياسية هي توقيع اتفاق طابا في واشنطن. إذ قارن صلاح الدين حافظ مدير تحرير "الاهرام" في مقدمة مقاله يوم 4 تشرين الاول بين 28 ايلول سبتمبر 1970 عندما رحل عبدالناصر و28 ايلول 1995 عندما وقّع ياسر عرفات واسحق رابين الاتفاق التكميلي في مسار التسوية الفلسطينية - الاسرائيلية. وعرض في مقاله هذا تقويما لاتفاق طابا ضمنه انتقادات شديدة للاتفاق، لأنه يضمن الهيمنة الامنية لاسرائيل على ما بين 80 - 90 في المئة من الاراضي الفلسطينية، ولأنه كرس وضع المستوطنات ولأنه اطلق يد الدولة العبرية في تهويد القدس. وختم مقاله بعبارة: "الحق بلا قوة حق غائم والحلم بلا قدرة حلم واهم". ولم يقتصر هذا التسخين على الكتاب والفنانين والصحف والاذاعات، وانما عبّر عن نفسه في الخطاب السياسي الرسمي، في تصريحات الرئيس والوزراء والقادة العسكريين. ولعل اهم ما لاحظه المراقبون في هذه المرحلة، صورة الرئيس مبارك عند زيارته قبر الرئيس عبدالناصر يوم 6 تشرين الاول. وهي زيارة سنوية لكنها حظيت هذه المرة باهتمام بارز اذ نقلت الصحف وشاشات التلفزيون صورة الرئيس المصري متوسطا اسرة عبدالناصر. وحرصت "الاهرام"، الصحيفة شبه الرسمية، على ان تضع هذه الصورة في موقع بارز في الصفحة الثالثة لتعطي معنى خاصاً لزيارة مبارك لضريح سلفه الراحل وقد احاط به أنجال عبدالناصر جميعا. ربما تداخلت العوامل المتغيرة في السياسات المصرية مع الحنين الشعبي الى الماضي خصوصاً مع ارتفاع حدة الغلاء وإلغاء الحكومة فرص التعيين الفوري للخريجين. وفي العوامل المتغيرة يأتي الامن القومي في المقدمة، اذا مع توقيع الاتفاقات الاسرائيلية مع الاردن ومنظمة التحرير وقيام علاقات شبه رسمية بين الدولة العبرية مع دول عربية اخرى، شكت القيادة المصرية مما اعتبرته "هرولة عربية نحو اسرائيل"، خشية ان تكون مبادرتها الى عقد الصلح مع الاخيرة قبل خمسة عشر عاما قلّلت من دورها العربي. وهي تعتقد ان لا سبيل لها، في مواجهة المشاريع الجديدة الشرق الاوسطية، الا تشجيع المصالحة العربية ومخاطبة الرأي العام العربي بنبرة حماسية اعلى. وكان لا بد تبعا لذلك من تصحيح الصورة العربية في أذهان المصريين بعد سنوات من التأكيد على الذات المصرية الوطنية اولاً.