منذ فترة تشهد مصر، التي ذهبت بعيداً في العنف، تطورات سياسية ستترك أثرها الكبير على مستقبل حياتها السياسية. لعل أهمها الانقلاب الذي نفذه الجيش بعد النزول الجماهيري في 30 حزيران (يونيو) 2013، حيث شكلت الملايين الغطاء الشرعي لهذا الانقلاب، وما تبع ذلك من توترات أمنية أوصلت الى حل تنظيم جماعة الإخوان المسلمين وإقفال وسائلهم الإعلامية. بعد ثلاث سنوات من الانتفاضة الاولى، تعود مصر إلى سياسة الحد من التعددية السياسية والتضييق على حرية الرأي والتعبير، بما يوحي بعودة الى النظام الأمني السابق الذي كسرت انتفاضة كانون الثاني (يناير) 2011 الكثير من منظوماته. بعد هذه التطورات، وفي ظل التخبط والفوضى الذي تعيشه مصر، وأمام إصرار الإخوان المسلمين على عدم التسليم بإزاحة رئيسهم عن السلطة، يطرح سؤال: مصر الى أين؟ يقدم المشهد المصري صورة عن الواقع الحالي حيث يتزايد منسوب الصدامات والأزمة الاقتصادية ومعدل ارتفاع البطالة ووصول مستوى الفقر الى مراحل عليا، يترافق ذلك مع ارتباك في إدارة البلاد وعجز عن استيعاب الطروحات السياسية لسائر القوى، ناهيك عن الأعمال العسكرية المتواصلة في جزيرة سيناء، وعودة الاغتيالات والسيارات المتفجرة، وهي كلها عناصر تجعل المواطن المصري أمام مطلب شبه وحيد هو تأمين الامان والطمأنينة والعيش بسلام، وهي الشعارات التي تستند اليها الأنظمة الديكتاتورية لفرض سلطتها وتكريس نظامها القمعي. مصر اليوم تسير في هذا المنحى، يعبّر عنه المشهد الإعلامي المتصاعد، والمرعي بالتأكيد من جانب السلطات العسكرية، والداعي الى القضاء على الإخوان المسلمين واستئصالهم، في خطاب يقوده مثقفون وسياسيون عانوا من الإقصاء والقمع ومنع العمل السياسي، بما يدعو الى الدهشة من هذا الخطاب البعيد كل البعد من منطق الديموقراطية والتعددية السياسية. تترافق الحملة «الأيديولوجية» ضد «الإخوان» مع نداء صريح لعودة العسكر الى السلطة عبر تصاعد الدعوة لترشح وزير الدفاع لرئاسة الجمهورية، او من خلال طرح اسم رئيس الأركان السابق سامي عنان للرئاسة. ويجري استحضار مرحلة صعود عبد الناصر في الخمسينات من القرن الماضي وإسقاطها على الراهن، وتصوير وزير الدفاع في وصفه عبد الناصر الجديد والمنقذ. يستحق هذا «النفخ» السياسي والفكري واستعادة الناصرية في غير سياقها بعض الملاحظات. صعد عبد الناصر ومعه بنيت الناصرية في وصفها منظومة فكرية أيديولوجية تسيّج النظام وممارساته على قاعدة جملة عوامل. منذ إعلان ثورة حزيران (يوليو) 1952، قدم العسكر برنامجاً إصلاحياً على الصعد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية يعد بتحسين أوضاع المصريين عبر تحقيق الإصلاح الزراعي والحد من سلطة الإقطاع بل وتأميم الأراضي، وهو برنامج واعد استقطب ملايين المصريين حوله. ترافق ذلك مع خوض النظام الجديد معركة وطنية تمثلت بجلاء الجيوش البريطانية عن مصر. ثم أتى تأميم قناة السويس في وصفه رمزاً لاستعادة الإستقلال المصري والمصالح المصرية، وما تبعها من عدوان ثلاثي استنفر الشعب المصري وأدخله في معركة وطنية كبرى رفعت رصيد عبد الناصر الى أعلى درجاته. وكانت القضية المركزية التي توجت الناصرية متمثلة بطرحه للمشروع القومي العربي الداعي الى الوحدة العربية طريقاً الى التحرر من الاستعمار، وسبيلاً لاستعادة فلسطين والقضاء على دولة اسرائيل. في هذا المجال، لم يعد عبد الناصر زعيماً لمصر فقط، بل بات زعيماً للعالم العربي من المحيط الى الخليج، خصوصاً بعد قيام الوحدة مع سورية. بات عبد الناصر أمل الجماهير العربية في الخلاص الوطني والقومي، كما تحول الى زعيم عالمي يحسب له الحساب في العلاقات الدولية، من خلال الدور الذي لعبته مصر في بناء منظومة دول عدم الانحياز وتكتيل دول العالم الثالث حولها. وأخيراً، لا ننسى دور التأميمات الاشتراكية التي نفذها في مصر وسورية والتي ألهبت حماسة الجماهير في البلدين. صحيح ان نظام عبد الناصر لم يكن ديموقراطياً، بل ان المقومات الوطنية والقومية التي صنعت مكانته شكلت مظلة لممارسة الاستبداد، وبصرف النظر عن المآل الذي انتهى اليه النظام خلال هزيمة حزيران 1967 وما تلاها، الا ان الناصرية شكلت مشروعاً قومياً نهضوياً طبع العالم العربي بطابعه لسنوات، قبل ان يشهد انهياره المتتالي على يد حكم كل من أنور السادات وحسني مبارك. أين مصر من ذلك الزمن، وهل من مجال لمقارنة الوضع الراهن بتلك المرحلة؟ الدعوة لاستحضار عبدالناصر تقع في موقع معاكس، فمصر في أسوأ اوضاعها الاقتصادية والأمنية وتراجع في موقعها العربي والدولي، وهي تقيم صلحاً مع اسرائيل. لذا لا مجال أمام النظام القائم او القادم سوى استخدام القمع والأمن لمنع الجماهير المصرية من المطالبة بالخبز والحرية، لأن النظام لن يمكن له إطعام الشعب وعوداً، ولن يمكن له تغطية قمعه بمنظومة أيديولوجية تظلل ممارساته، كما ان العداء لحركة الإخوان المسلمين وقمعهم لن يمنع الجماهير من المطالبة بتحسين مستوى معيشتهم. اذاً، القمع والمنع والتضييق على الحريات واستعادة الممارسات الاستبدادية هي السمة المستقبلية للسلطة الحاكمة. اذا كان من نتيجة لانتفاضة مصر سواء في يناير او في يونيو، فانما هو كسر جدار الخوف لدى الجماهير واستعادة حقها في السياسة والنزول الى الشارع. قد تكون هذه المسألة هي نقطة الأمل بأن لا تعود مصر الى الاستبداد العاري، وان يكون بامكان الشعب المصري إسقاط النظام الديكتاتوري الذي تجري تهيئة المسرح لقيامه. * كاتب لبناني