ادت سياسة ضبط الانفاق العام في السعودية في السنوات الأخيرة الى تراجع قطاع المقاولات بصورة واضحة، ما دفع غالبية الشركات العاملة في هذا القطاع، الى اجراء مراجعة جذرية لأوضاعها والى تقليص العمالة التي تستخدمها. ومن غير المتوقع ان تغير السعودية في النصف الثاني من التسعينات في سياسة الانفاق التي باشرت تطبيقها في السنوات الثلاث الماضية، وهي سياسة تميزت بترشيد الانفاق الحكومي، واعادة النظر في المشاريع المقررة، سواء لجهة تأجيل التنفيذ، أم لجهة الغاء البعض منها، ما لم يكن هذا البعض ضمن الاولويات ذات الطابع الانمائي. ويبرر الخبراء الاقتصاديون مثل هذه التوقعات باعتبارات عدة، من بينها ان الاسباب التي شجعت على ضبط الانفاق العام لا تزال قائمة، وفي طليعتها استمرار اسعار النفط عند مستوياتها الحالية في النصف الثاني من التسعينات، مع هوامش محدودة جداً او الهبوط، ثم الاولوية التي اعتمدتها الحكومة السعودية لمكافحة العجز المالي الذي نشأ بصورة مضطردة في النصف الأول من العقد الحالي، نتيجة الالتزامات التي رتبتها حرب الخليج وتحرير الكويت، وهي التزامات تجاوزت 45 مليار دولار، ثم نتيجة الالتزامات المالية التي ترتبها حالياً النفقات العسكرية التي تحتاجها خطط تطوير القوة الدفاعية للمملكة، كدولة كبرى في منطقة الخليج. الا ان من الاعتبارات الرئيسية لتوقع استمرار سياسة ضبط الانفاق الحكومية ايضاً، التوجهات التي اقرتها الخطة السادسة للتنمية، وفي طليعتها التوجه نحو افساح المجال امام القطاع الخاص لزيادة مساهمته في النشاط الاقتصادي، سواء عبر القنوات التي يتيحها برنامج تخصيص الشركات التي تملكها الدولة، ام لجهة الافساح في المجال امامها للتوسع في التوظيفات المصنفة استراتيجية، مثل الصناعات البتروكيماوية وتكرير النفط والتعدين. ومع ذلك فان ثمة مؤشرات واضحة الى بوادر نمو بدأ يسجلها قطاع المقاولات في السعودية، ومن أبرز هذه المؤشرات الارتفاع الذي سجله مؤشر ترسية عقود الانشاءات الذي بلغ 149.9 نقطة، وهو رقم يزيد بواقع 94.9 نقطة عما كان عليه قبل عام. وتقول تقديرات غير رسمية ان تحسن المؤشر جاء نتيجة ارتفاع قيمة العقود التي تم توقيعها في الاشهر الماضية، وتجاوزت قيمتها 28 مليون ريال حوالى 7.5 مليارات دولار، توزعت على 170 عقداً، تركز معظمها في قطاعي الاتصالات والكهرباء. كذلك من مؤشرات تحسن سوق المقاولات، استمرار الارتفاع في انتاج الاسمنت، اذ وصل في نهاية العام 1995 الى 17 مليون طن، في مقابل 16.7 مليون طن في العام 1994 و16.5405 مليون طن في العام 93 و11.4 مليون طن في العام 1991، فيما من المقدر ان يرتفع في نهاية العام 1996 الى 18 مليون طن. ومن المعروف ان انتاج الاسمنت واستهلاكه على علاقة عضوية بسوق المقاولات والانشاءات على اعتبار انه مادة اساسية في غالبية المشاريع، سواء الصناعية ام النفطية، ام في القطاعات الأخرى، بما في ذلك قطاعات النفط والتكرير. والاعتقاد المتزايد في السعودية ان النمو المشجع الذي بدأت سوق المقاولات والانشاءات تحقيقه يعود في الجزء الأساسي منه، ليس الى تبدل السياسة الانفاقية للحكومة بقدر ما يتصل بمجموعة من التوجيهات التي سجلها الاقتصاد السعودي في السنتين الماضيتين، ومن غير المستبعد استمرارها بصورة اكثر وضوحاً في النصف الثاني من العقد الجاري. ومن بين ابرز هذه التطورات التي تشجع على توقع نمو افضل لسوق المقاولات، زيادة اعتماد الشركات على الفرص التي سيوفرها القطاع الخاص، سواء في المجالات الصناعية، ام في مجالات البناء السكني والتجاري، فقد زاد عدد رخص البناء التي تم اصدارها العام 1994 الى 72.6 ألف رخصة في مقابل 55.6 الف رخصة في العام 1993، كما ارتفعت المساحات المرخص بها في الفترة نفسها من 40.7 الى 51.6 مليون متر مربع. وتشتمل هذه الرخص على مشاريع اسكانية وتجارية، وصناعية وسياحية تتمثل في مئات المصانع والفنادق والمجمعات السياحية التي ينوي اصحابها انشاءها في مختلف مناطق المملكة. الى ذلك تمثل المشاريع التي تنوي شركات حكومية تنفيذها في السنوات القليلة المقبلة فرصاً واعدة لتحقيق نمو اوسع، فقد اعلنت "ارامكو السعودية" عن خطة لتنمية المناطق النفطية الجديدة، خصوصاً حقول "الشعيبة"، الى جانب الخطة الخاصة بتطوير مصافي النفط ومرافق التصدير، كما اعلنت "الشركة السعودية للصناعات الأساسية" سابك عن نيتها الاستمرار في توسيع طاقة المصانع التابعة لها في مجال البتروكيماويات رفع انتاجها الى 25 مليون طن سنوياً، في مقابل 20 مليون طن في الوقت الحاضر. وتقول تقديرات متطابقة ان تنفيذ مشاريع التوسع في قطاعي النفط والبتروكيماويات سيعتمد على الموارد المالية غير الحكومية، في اشارة غير مباشرة الى التمويل الذاتي الذي توفره هذه الشركات، اضافة الى التوسع في الاقتراض من المصارف والشركات المالية لآجال متوسطة وحتى طويلة. وأظهرت الأرقام التي اعدتها مؤسسة النقد العربي السعودي ساما ارتفاع حجم القروض المصرفية التي حصل عليها قطاع الانشاءات في الفترة الماضية، اذ وصلت قيمة هذه القروض الى حوالى 14.142 مليار ريال 3.76 مليارات دولار في نهاية العام 1994، وهو رقم يزيد بنسبة 13.96 في المئة عما كان بلغه في العام 1993، كما يزيد بنسبة 18 في المئة عما كان عليه في العام 1992. ويتوقع خبراء ماليون ومصرفيون زيادة الاعتماد على التمويل غير الحكومي لتنفيذ بعض المشاريع المقررة في مجالات البنية التحتية على غرار ما تحقق في قطاع الاتصالات والكهرباء سواء عن طريق الاقتراض من المصارف المحلية او الخارجية، ام عن طريق التزام الشركات التي تعرض التنفيذ ارفاق عروضها بعروض اخرى للتمويل، او اعتماد صيغة التنفيذ والتمويل والتسليم، على ان تسترد الشركة اموالها من عوائد التشغيل. الى ذلك فان ثمة اعتقاداً متزايداً بأن توسيع اطار برنامج التوازن الاقتصادي لكي يشمل العقود الحكومية غير الدفاعية، على غرار ما حصل في العقد الأخير لتوسيع شبكة الهاتف مع شركة "اي. تي. اند. تي" الاميركية، من شأنه ان يفتح افقاً جديداً امام نمو قطاع المقاولات عن طريق تنفيذ عشرات المشاريع التي يتوجب على الشركات الاجنبية المساهمة فيها بالتعاون مع شركات محلية.