تجمع تقديرات مختلفة على أن منطقة الخليج العربي ستكون في خلال السنوات الخمس المقبلة من أفضل نقاط الجذب للشركات العالمية، على رغم الإرباك الذي أحدثه غزو العراق للكويت، وما أثاره من مخاوف سياسية وأمنية، وعلى رغم التوقعات التي ذهب بعضها إلى القول أن الدول الخليجية لن تكون قادرة في المرحلة المقبلة على تغطية جميع التزاماتها بسبب الاحتمالات القوية لعدم تحسن أسعار النفط، وتاليا لخسارة هذه الدول لقسم كبير من عائداتها، إذ أنه من المعروف أن العائدات النفطية لا زالت تشكل حوالي 80 في المئة من العائدات الإجمالية لدول الخليج. ومن بوادر هذا الجذب للشركات الأجنبية، المعارض الدولية "المزدهرة"، وكثافة الحضور الدولي فيها، ثم سعي الشركات الدولية إلى إقامة مراكز لها لمتابعة تطور الحركة، والوفود الأجنبية التي تتوالى زياراتها للمنطقة، إما للتعرف عليها، أو لإحياء مشاريع قديمة، في إشارة واضحة إلى سعيها للحصول على حصة أكبر من العقود الجديدة، بعدما كانت انسحبت من المنطقة في النصف الثاني من الثمانينات عندما دخلت المنطقة في فترة ركود جديدة ارتبطت بانهيار أسعار النفط في الأسواق العالمية وتحقيق اكتفاء ذاتي في مشاريع البنى التحتية، ثم اندلاع الحرب العراقية - الإيرانية. وفي أوائل التسعينات، بدأت بوادر انتهاء فترة الركود تظهر بشكل متزايد، لكن حرب الخليج ما لبثت أن أرخت ظلالها على المرحلة، وأثارت علامات استفهام حول مستقبل الوضع العام في المنطقة، إلا أن حسم موضوع غزو العراق، وظهور إجماع دولي على الاهتمام بالخليج أعاد الثقة العالمية التي تعرضت للاهتزاز. وتركز معظم الشركات متابعتها لأربعة قطاعات أساسية في الخليج، يتوقع أن تمتص الجزء الأكبر من الموازنات المخصصة في السنوات المقبلة، وفي طليعة هذه القطاعات، القطاع النفطي الذي تقدر مصادر عربية وغربية إن حجم الاستثمار فيه لن يقل عن 70 مليار دولار حتى العام ألفين. وفي المملكة العربية السعودية وحدها، فان حجم الاستثمار الجديد في القطاع النفطي لن يقل عن 24 مليار دولار. وقد قررت شركة أرامكو تسريع تنفيذ خططها لزيادة الإنتاج السعودي. وتبلغ كلفة أعمال التطوير حوالي 17 مليار دولار. كما تخطط أرامكو لإنفاق أكثر من 500 مليون دولار لتطوير الإنتاج في بعض الحقول. وتتجه أرامكو في إطار تسريع وتيرة العمل إلى اعتماد تقسيم مشاريعها الأساسية إلى مشاريع أقل حجما تقوم بتنفيذها شركات مختلفة. كما أنه من المتوقع أن تخرج إلى حيز التنفيذ مشاريع أخرى ترمي إلى زيادة معامل فصل الغاز عن النفط، وربط الآبار في ما بينها بشبكة متطورة من الأنابيب. وفي القطاع النفطي أيضا، فان شركات سعودية أخرى تملكها الحكومة بدأت هي الأخيرة للتخطيط لتنفيذ المرحلة الثانية من خطط توسعها في إنتاج البتروكيماويات ومشتقاتها، إذ بلغت قيمة خطط التوسعية التي قررتها شركة سمارك حوالي 3 مليارات دولار، كما بلغت القيمة الإجمالية للمشاريع التي تقوم شركات تابعة ل"سمارك" بتنفيذها ما يزيد على 5 مليارات دولار. إلى ذلك، تقوم شركة سمارك بتنفيذ خطة طموحة لتحديث المصافي النفطية في المملكة في السنوات العشر المقبلة، سواء بزيادة قدرتها الإنتاجية للاستهلاك المحلي، أو بزيادة إنتاج المشتقات العالمية الجودة، والتصدير منها إلى الخارج، كالبنزين الخالي من الرصاص الذي يتوقع أن تتوصل السعودية إلى تصدير 350 ألف برميل منه يوميا في نهاية العقد الحالي. وتصل كلفة المشاريع التي تنفذها سمارك، على مراحل إلى حوالي 4مليارات دولار. وفي السنتين الماضيتين، وبعدما كان النشاط النفطي والنشاطات المكملة له في عهدة القطاع العام، بدأ هذا النشاط يشهد تحولا باتجاه القطاع الخاص، خصوصا في مجالات إنتاج البتروكيماويات والمشتقات العالمية الجودة والزيوت المعدنية. ويقدر حجم مساهمة القطاع الخاص في هذا المجال بما لا يقل عن ملياري دولار حصلت عليها شركات أميركية وأوروبية متخصصة في هذه الصناعات. أما في دولة الإمارات، فان كلفة مشاريع تطوير القطاع النفطي تصل إلى حوالي ملياري دولار، وتخطط الإمارات لزيادة قدرة مصافي التكرير فيها إلى أكثر من 300 ألف برميل يوميا، وزيادة إنتاج الغاز إلى 204 مليون طن سنويا. وفي قطر، بدأ تنفيذ المرحلة الثانية من مشروع حقل الشمال، وتخطط الحكومة القطرية لزيادة إنتاجها إلى 8 ملايين طن سنويا، إضافة إلى إنجاز أعمال ميناء النقل وخطوط الأنابيب، كما تسعى قطر للمحافظة على معدلها الحالي من الإنتاج النفطي بحدود 400 ألف برميل يوميا من خلال زيادة الاكتشافات الجديدة للتعويض عن النفط في الاحتياط العام للدولة. وقد تصل أكلاف المرحلة الثانية مع ملحقاتها إلى حوالي 5 مليارات دولار. وفي البحرين، فان التركيز يتم في معظمه على مشاريع زيادة الطاقة الإنتاجية لشركة الألمنيوم "ألبا" إلى 430 ألف طن، مع ما تستتبعه هذه الزيادة من مشاريع التوسع للشركات الأخرى التي بدأت تتهيأ لاستيعاب الفائض الجديد في الإنتاج. كما تنوي البحرين زيادة طاقة نصافيها النفطية، وإقامة مصانع للبتروكيماويات والأسمدة. وقدر كلفة المشاريع بحوالي 900 مليون دولار. وفي الكويت، رست التقديرات الأخيرة حول إعادة تأهيل قطاع النفط على رقم 8.5 مليار دولار من ضمنها كلفة إطفاء الآبار المحترقة، وإعادة تأهيل قطاعات التكرير في المصافي التي لم تسلم منها سوى مصفاة واحدة من اصل 4 مصاف لحق دمار شبه شامل بثلاث منها، إلى جانب إعادة تأهيل قطاع الغاز، ومعاودة الإنتاج في مصانع البتروكيماويات التي دمرت بشكل كامل تقريبا. وعلى رغم أن الأميركيين حصلوا حتى الآن على حصة الأسد من العقود في الكويت، إلا أن استكمال مشاريع إعادة التأهيل ما زال يجذب شركات ودولا أخرى للفوز بحصة. وإذا كان القطاع النفطي في دول الخليج استحوذ حتى الآن على الأولوية في الإنفاق وفي العقود، فان قطاعا آخرا مرشح لاحتلال مرتبة الصدارة في المرحلة المقبلة، هو قطاع الدفاع الذي بدأ، على ما يبدو، يحتل أهمية قصوى أكدتها سابقا تطورات حرب الخليج. ويصل حجم كلفة إعادة تأهيل القواعد العسكرية في الكويت وحدها إلى حوالي 10 مليارات دولار، وهي كلفة تفوق كلفة إعادة تأهيل القطاع النفطي، وتتحدث تقديرات مختلفة عما لا يقل عن 10 مليارات دولار اخرى في كلفة اعادة بناء القدرات الدفاعية الكويتية، بما يتناسب والأخطار التي ترى الكويت أن عليها أن تواجهها. وكما الحال في الكويت، كذلك الحال في الإمارات التي تبحث عن تطوير قدراتها الدفاعية وإقامة منشآت عسكرية جديدة. وتقوم سلطنة عمان بتنمية طاقاتها العسكرية، وفق خطة خمسية رفعت حجم الإنفاق العسكري إلى حوالي 42 في المئة من النفقات العامة للحكومة، وتتم في الوقت الحاضر مفاوضات مع باريس ولندن وواشنطن للاتفاق معها على المساهمة في تطوير القدرات العسكرية في السلطنة. وفي قطاع الطاقة الكهربائية والمياه والهاتف، فان قيمة العقود التي تقررت في الكويت حتى الآن لإعادة تأهيل قطاع الكهرباء، إنتاجا وشبكات، تصل إلى مليار دولار، كما تقدر العقود في مجال تجديد شبكات الاتصالات بمليار دولار أخرى. وفي السعودية، كما في سلطنة عمان ودولة الإمارات العربية المتحدة، ودولة قطر، فان العقود المنتظرة في قطاع الكهرباء والهاتف والمياه لا تقل عن 4 مليارات دولار، وتتمثل بتطوير كفاءة الشبكات الحالية وزيادة معدلات استيعابها إلى جانب تلبية احتياجات المرحلة المقبلة، وهي مرحلة تعكس مزيدا من النمو الاقتصادي في هذه الدول. والى هذه القطاعات الإنشائية في معظمها، فان قطاعا جديدا بدأ يأخذ دوره في الأهمية، ويتمثل في زيادة الحاجة إلى صيانة الإنشاءات القديمة وتشغيلها، ويقدر حجم هذا القطاع في السعودية وحدها بما بين 5 و 6 مليارات دولار في العام، إلى جانب 4 مليارات دولار في الدول الخليجية الأخرى. وقياسا على العقود التي تم إبرامها في السنوات الثلاث الماضية، فان الشركات الأميركية حصلت على حصة الأسد بنسبة 30 في المئة من إجمالي العقود التي تم توقيعها، فيما حل الفرنسيون في المرتبة الثانية، لكن بفارق كبير إذ حصلوا على 7.5 في المئة. وحل البريطانيون في المرتبة الثالثة، وقريبا من الحصة الفرنسية، أي بنسبة 7 في المئة. أما المرتبتان الرابعة والخامسة فاحتلهما الألمان والإيطاليون بنسبة متقاربة 6.8 و 6.5 في المئة. وقد يحصل الأميركيون على حصة أكبر في المرحلة المقبلة لاعتبارات مختلفة، منها ما هو سياسي يتصل بالوزن السياسي والعسكري للولايات المتحدة الأميركية ودورها في حرب الخليج، ومنها ما هو غير سياسي، ويتصل بالتفوق الأميركي، خصوصا في مجال التكنولوجيا النفطية المتقدمة والإنشاءات العسكرية. وحتى الآن، فقد حصل الأميركيون على أكثر من 3 مليارات دولار قيمة العقود التي أبرمتها الشركات الأميركية، فيما لم تزد حصة الفرنسيين مثلا عن 250 مليون دولار، كمل لم يحصل البريطانيون على أكثر من 550 مليون دولار. وبدأت شركات المقاولات الوطنية تزيد من استعداداتها لتحسين شروط المنافسة. وطبقا لتقديرات الاتحاد العام للمقاولين العرب، فان حصة الشركات المحلية في العقود تحسنت من 20 في المئة في العام 1985، إلى 40 في المئة في العام 1991. كما أن الاتجاه السائد في معظم الدول العربية، خصوصا النفطية منها، هو إلى زيادة الفرص المتاحة أمام الشركات الوطنية، سواء من خلال الشركات الأجنبية بتلزيم نسبة معينة من قيمة عقودها إلى شركاء محليين، أم من خلال إلزام الطرف الأجنبي بمشاركة طرف محلي. وباستثناء العقود التي تتطلب تكنولوجيا متقدمة، فان معظم عقود المقاولات تذهب لمقاولين وطنيين، خصوصا في مجالات البناء والطرق والمجمعات السكنية والتجارية، نظرا إلى كون هؤلاء المقاولين حققوا خبرات واسعة في الفترة الماضية، كما ظهر أنهم أكثر قدرة على تقديم أسعار تنافسية نظرا إلى انخفاض معدلات الكلفة لديهم. كما أن التسهيلات الممنوحة لهم في إطار مجلس التعاون الخليجي يمكن احتسابها عنصرا إيجابيا يزيد من الفرص المتاحة أمامهم. ويكاد عمل الشركات الأجنبية يصبح محصورا بالأعمال التي تتطلب خبرات فنية عالمية، وتكنولوجيا متقدمة، فيما يزيد عدد الشركات التي تسعى إلى التعاقد مع شركات محلية لتنفيذ مراحل معينة من المشروع. وفي الفترة المقبلة، قد يصبح بإمكان الشركات المحلية زيادة إمكانات المنافسة مع الشركات الأجنبية نظرا إلى نجاحها في توفير الجانب التمويلي للعقود التي تسعى للحصول عليها. فقد ظهر بوضوح أن سوق المقاولات والإنشاءات في الخليج لم تعد كما كانت في السبعينات والثمانينات على أساس الدفع المباشر، وإنما حصل تحول واضح باتجاه توفير القروض الكافية من السوق المصرفية لتمويل الإنشاءات الجديدة، ولدا أن الحصول على الكثير من القروض يعتمد على توفير التسليفات المصرفية لها. الصورة في الخليج اليوم أفضل مما كانت عليه قبل سنوات. وقد يزيد حجم العقود السنوية عن 13 مليار دولار. وليس أدل على تهافت الشركات الأجنبية على الفوز بهذه العقود من "عودتها بالجملة" وإعلان المنافسة المفتوحة.