اذا رأيت رجلاً عينه متورمة وسوداء ومغلقة فهو اما ملاكم أو متزوج. والملاكمة، مثل الزواج، رياضة عنيفة، بل هي "الرياضة" الوحيدة التي تهدف الى إيقاع الأذى الجسدي بالخصم. شخصياً لم أحب الملاكمة يوماً، ومع أنني حضرت أكثر الدورات الأولمبية منذ الستينات فانني لم أحضر خلالها مرة مباراة واحدة في الملاكمة، هذا مع العلم أن الملاكمة الأولمبية تتألف من ثلاث جولات فقط مع غطاء يحمي الرأس. ولا أدري أهمية الغطاء في الملاكمة، فلو أن الملاكم عنده عقل لفتش عن عمل آخر، مثل السطو على ساعات الناس، وإذا عدنا الى الملاكم صاحب العين المتورمة الذي بدأت به فهو ذهب الى الطبيب، ووصف له هذا "قطرة". وسأل الملاكم: هل آخذ القطرة قبل الأكل أو بعده؟ وأخشى ان مضيت في الهزء من الملاكمين أن يكون بينهم من يعرف العربية، مثل الملاكم اليمني - البريطاني نسيم حامد، و"يدشني" جزاء وفاقا على ما اقترف قلمي، لذلك ابتعد عن السخرية وأكمل ببعض المشاهدات، فقد حضرت مع أصدقاء، للمرة الأولى وربما الأخيرة، مباراة على بطولة العالم في الوزن الثقيل انتهت بفوز البريطاني فرانك برونو على حامل اللقب الأميركي أوليفر ماكول. الواقع انه يندر أن تقتصر حفلة ملاكمة على مباراة واحدة، وانما تكون هناك مباريات عدة تمهد للمباراة الرئيسية. وهنا نعود الى الزواج فقد وجدت من متابعتي التلفزيونية للملاكمة ان المقدمات تكون أحياناً أفضل من الحفلة الرئيسية، كما أن الخطبة دائماً أفضل من الزواج نفسه. وهكذا فقد رأيت بين المقدمات مباراة بين نايجل بن، حامل اللقب البريطاني في الوزن السوبر - وسط، والأميركي داني راي بيريز، وهي انتهت كما كان متوقعاً بفوز بن، في الجولة السابعة، فهو ملاكم نادر، ثم ان بيريز لم يكن خصمه الأصلي وانما استعين به قبل اسبوع فقط من المباراة، فلم يتدرب كثيراً. على كل حال، المباراة الأخيرة، بين برونو وماكول، كانت أفضل من المباريات السابقة، بما فيها مباراة بن - بيريز، ومع ذلك لم تكن عظيمة، فهي خلت من لكمات واضحة القوة، ولم يقع أي من الملاكمين أرضاً. ولعل برونو فاز في النهاية لأن ماكول لم يدافع عن لقبه كما يجب، لا لأن برونو يستحق الفوز. هو حاول انتزاع لقب العالم ثلاث مرات سابقة، وفشل، ضد تيم وذرسبون سنة 1986، وضد مايك تايسون سنة 1989 عندما سقط في الجولة الخامسة، وضد لينوكس لويس سنة 1993. واعطتني رتابة المباريات حرية الفرجة، وتأكدت بسرعة ان جمهور الملاكمة ليس كأي جمهور آخر، فهو لا يتمتع بروح رياضية بالمرة، وانطلق صفير الاستهجان والخبط بالأرجل عندما عزف النشيد الوطني الأميركي حتى اعتقدت ان المتفرجين من العراقيين أو الايرانيين. ولم يخجل المتفرجون من مغني أوبرا معروف، حاول غناء النشيد الأميركي فغطى الجمهور صوته على رغم المكبّرات بزمجرة هائلة انتصاراً للملاكم البريطاني. أغرب ما في الأمر أنه كانت هناك سيدات، بعضهن في عنف الرجال أو أعنف، والواحدة تهتف في بن أو برونو عبارات تشجيع من نوع "اقتله" أو "دمّر ابن الزانية..." مع شتائم من العيار الثقيل. ورأيت سيدة حامل، هي الانكليزية الحامل الوحيدة وقع عليها نظري بعد 20 سنة من الاقامة في لندن، وكانت تقف على كرسيها وتصرخ وتقفز وتلوح بيديها، حتى خفت ان تضع قبل نهاية المباراة... وان شاء الله صبي يا مدام. كنا جلسنا حول الحلبة في مقاعد فوق حشيش ملعب ويمبلي المشهور. وقرصنا البرد وانكمشنا داخل ثيابنا. غير أنه كان وراءنا شاب انكليزي يبدو أنه شرب صندوق خمر قبل أن يدخل الملعب ولم يعد يحسّ بشيء، فهو ارتدى قميصاً فتح أزراره على صدره، وصرخ وصرخ فلم تأت مباراة برونو - ماكول حتى كان فقد صوته، وهو لم يفقده إلا بعد ان أسمعنا شتائم انكليزية، في الخصم الأميركي، لم أكن أعرف أنها موجودة في أي قاموس. وكانت شابة حسناء جلست أمامي مع صديقها، وهما تبادلا القبل غافلين عما يدور في الحلبة، وتأكدت بذلك أنهما غير متزوجين. واعتقدت أنها لم تر شيئاً حتى وقفنا في النهاية لمغادرة الملعب فإذا بها تضربني على ظهري بقوة وتقول عن الملاكم الأميركي "ابن كذا وكيت نال ما يستحق". وخرجت من الملعب كما دخلت، ولي موقف ضد الملاكمة، وكان بين الحاضرين مايكل واتسون الملاكم الذي كاد يفقد حياته بعد مباراة مشهورة مع كريس يوبانك، وبقى غائباً عن الوعي أشهراً. وصفق له الجمهور طويلاً عندما وقف محيياً، الا أن وجوده ذكرني بأخطار الملاكمة، فلا أقبل منها سوى جولة مع احدى الحسان اللواتي كن يدرن في الحلبة بين الجولات ويرفعن رقم الجولة التالية. وعلى الأقل ففي جولة مع حسناء من هذا المستوى، إذا خسرت أو ربحت، أظل رابحاً.