انتهى قبل أيام مهرجان أدنبره التاسع والأربعون للسينما، حيث عُرضت افلام قارب عدد كبير منها صراعاً كان حيناً حرباً دامية، وفي حين آخر تناقضاً ذاتياً او "نزاعاً" يتخطى حدود الزمن ليصل الحاضر بالماضي. "الوسط" حضرت المهرجان واستوقفتها افلامه الآتية: على رغم حمى المهرجانات التي تصيب أدنبره فتغص روزنامتها بالعروض الراقصة والمسرحية… بين شهري آب اغسطس وايلول سبتمبر من كل سنة، فإن العاصمة الاسكتلندية تجد متسعاً لمهرجان للسينما انعقدت دورته التاسعة والأربعون بين 13 و27 آب الماضي. عُرض خلال هذين الأسبوعين 300 فيلم على 15 شاشة كبيرة ضمن محورين، أولهما "غالا" الذي اقتصر على أعمال معظمها غربي باهظ هوليوودي الطراز "يشع" بالنجوم. اما الثاني فهو "براعم الورد" الذي ضم حفنة من أفلام أجنبية - واحد من أرمينيا وآخر من طاجيكستان - الى جانب عدد من الأعمال الغربية ذات الكلفة المحدودة. واحتفى المهرجان بالمخرج الأميركي ستانلي دونين صاحب "غناء تحت المطر" و"أرابيسك"، كما وضع مجموعة من المشاهير وجهاً لوجه مع الجمهور في سلسلة أمسيات أطلق عليها "مشهد اثر مشهد" ناقش فيها السينمائيون أحد أفلامهم البارزة اثناء عرضه على شريط فيديو. وهذا المنبر، الذي تباهى القائمون على مهرجان أدنبره به كابتكار فريد من نوعه، استضاف روبرت تاون حائز الاوسكار التي كوفئ بها على سيناريو "الحي الصيني"، وولتر مورتش مصمم الصوت في "القيامة الآن"، والايطالية سوسو سيتشي داميكو التي وقعت عدداً من نصوص أشهر أفلام انطونيوني وفيسكونتي وزامبا. واعتلى المنبر ذاته المخرج الاسكتلندي جيليز ماكنون والنجم الأميركي ستيف مارتن اللذان ناقشا فيلمهما الجديد "مفاجأة القدر البسيطة". والفيلم، الذي اقتبس مارتن قصته عن رواية لجورج اليوت، يصور حياة حرفي بخيل شغله جمع الذهب والفضة عن الحياة الحقيقية التي اكتشفها مصادفة مباغتة حين التقى طفلة يتيمة. والاهتمام الاعلامي الذي انصب على العمل، لا يعود على الأغلب الى ما ينطوي عليه من فهم جديد للعائلة والعلاقات الانسانية، ولا الى كونه يعرض للمرة الأولى في أوروبا التي جاءها "خائباً" نبذه شباك التذاكر الأميركي. بل ربما كانت نجومية بطله، وجنسية مخرجه - الذي فاز فيلمه الآخر "وجوه صغيرة" بجائزة مايكل بول في المهرجان الحالي - اضافة الى كلفته الباهظة، هي العوامل التي وضعته في دائرة الضوء. وفيلم "عظام مرحة" عومل بسخاء صحافي أشد بعدما اختير شريط الختام في المهرجان. وهو ايضاً هوليوودي، لم يلق النجاح الواسع في أميركا. لكنه أشد بريطانية من سابقه فالمخرج بيتر تشيلزم والبطل لي ايفانز - الذي ظهر للمرة الأولى في فيلم هوليوودي - هما من أبناء المملكة المتحدة، ويدور الشطر الأكبر من أحداث الفيلم في مدينة "بلاك بول" الساحلية مسقط رأس تشيلزم الذي يحاول ان يوثق نتفاً من حياة المكان وناسه ومعالمه التي تنحسر باطراد. ويدور العمل حول صراع رئيسي بين نزعة التمرد والميل للحكمة والعقلانية اللذين يمثلهما بطل الفيلم جاك، الفقير المتمرد والطريف بالفطرة، وأخوه غير الشقيق تومي المنطقي والثري. وعبر هذا التناقض يطمح المخرج الى تسليط الضوء على الاشكالية المتأصلة في طبيعة العمل الكوميدي حيث الطرافة لا تكون مجانية تماماً، فالمضحك "رهيب … يورث الألم والمعاناة". لكن نبالة الفكرة، التي ترصد محنة الكوميديا المحكومة بأن تمتزج أبداً بحزن خفي، لا تكفي لنجاح الفيلم، خصوصاً ان المخرج طعمه بمقاطع استعراضية طويلة وفقرات تفيض بالاثارة الهوليوودية التي تجلت على اشدها في الخاتمة و"النزال" بين الأخوين على قمة عمود. الماضي يستمر في الحاضر يأخذ الصراع شكلاً آخر في فيلم الافتتاح "الحديد والنار" الذي أخرجه البريطاني كين لوتش صاحب "خطة مضمرة" 1990 و"حجارة منهمرة" 1993. ولوتش كوفئ غير مرة في مهرجان "كان"، حيث فاز أخيراً بجائزة فيلم "الحديد والنار"، وفيلم "كارينغتون" البريطاني الحاضر في أدنبره ايضاً. وشريط الافتتاح يختلف عن "مواطنه" فيلم الختام في نفوره من هوليوود ورتشوها، التي فضل لوتش الاستغناء عن لمساتها السحرية البراقة. و"الأرض والحرية" ترجمة سينمائية تستحق الاحترام لفترة مليئة بالدلالات قدمها لوتش بقليل من التصرف الذي يعزز صدقية فيلمه التاريخية. هذه الفترة هي سنوات الحرب الأهلية الاسبانية 1936 - 1939 التي نفض عنها المخرج - وكاتب السيناريو زميله المخضرم جيم ألن - الغبار وسرد تفاصيلها عبر قصة الشاب العاطل عن العمل ديفيد ايان هارت الذي يغادر مدينته ليفربول العام 1936 للالتحاق بالثوار المدافعين عن الجمهورية ضد الجنرال فرانكو وصديقيه هتلر وموسوليني. وبين برشلونة وآرغون يكتشف ديفيد ان أعداء الحزب الشيوعي "الرسمي" للفصيل التروتسكي "بوم" هو أشد ضراوة من عدائه للفاشيين. ومع ديفيد الذي حارب في صفوف هاتين المجموعتين من الاخوة - الاعداء، نعيش لحظات بؤس الايديولوجيا والهزيمة أمام الفاشيين التي يرسمها لوتش وفريقه الماهر من خلال قصة حب تربط الشاب البريطاني بالصبية الاسبانية ميتي. العاطفة التي تضمخ السرد التوثيقي تصل ذروتها غير مرة في مشاهد منها تلك التي تصور غضب الفتاة من ديفيد لعزمه على هجر "بوم"، وخبازة الصبية في قريته حيث يلتقي ديفيد أم حبيبته التي تمنحه منديلها الأحمر حيث يضع حفنة من تراب القبر تبقى بين أشيائه حتى موته. هذه العاطفة "تؤنسن" الحرب وتبرز الخيوط التي تصلها بالراهن. فالفيلم يومئ الى ان احداث الأمس جزء مما يجري حالياً على أكثر من صعيد، وانتصار فرانكو ومعه هتلر وموسوليني يتجلى حالياً في صعود العنصرية في أوروبا وفي التنظيف العرقي على طريقة كاراجيتش وملاديتش. وسياسة "عدم التدخل" وحظر الأسلحة التي التزمتها أوروبا تمارس حالياً ضد البوسنة وتتسبب في سيل دماء مزيد من ابنائها العزل. وكين لوتش الذي لا يرى ضرورة لاستعادة التاريخ سينمائياً ما لم تكن الغاية "قول شيء عن الراهن" يحذر في فيلمه البارع من انتصار "فاشي" جديد ويهيب بالجميع، أفراداً وحكومات، ان يحولوا دون وقوع هذه الكارثة. ونزاع البوسنة الغائبة - الحاضرة في فيلم الافتتاح، حيث تسمع هسيس حرائق ساراييفو وتوزلا… من دون ان تراها، هو موضوع فيلم "قبل المطر" الذي أخرجه اليوغوسلافي ميلوشو مانشيفسكي وصور معظم أحداثه في مقدونيا. والشريط موزع على ثلاث حكايات "كلمات" و"وجوه" و"صور" تقص سيرة الصراع الطائفي وتعلق المرء بالوطن الذي يدفعه الى الاشتراك في المجزرة ويلوثه بپ"فيروس" الحرب تتحرك الشخصيات ضمن مناخات أجاد المخرج رسمها وتنتقل بين لندن الضبابية ومناطق في يوغوسلافيا ذات جمال عبقري يزيد من حدة المأساة ويدل الى جنون الحرب الذي يلعلع رصاصها في حضن طبيعة ساحرة. شاعرية سينمائية والطبيعة تكاد تكون شخصية مستقلة تتحدث الى المشاهد في فيلم "كوريا" الذي وقعه المخرج الايرلندي كاثال بلاك واقتبست احداثه عن قصة كتبها الأديب جون ماغهارن. هنا البحيرة البديعة حاضرة أبداً رمزاً ميثولوجياً للحياة وساحة يحلو عليها البوح… والنزاع. الضباب والمطر والظلام عناصر أساسية في سير احداث الفيلم وفي بناء شخصياته. وهذا الالتصاق بالطبيعة موظف على نحو متقن في فيلم المخرجة الاسكوتلندية الشابة موراغ ماكنون "3" الذي يرصد تأرجح مصمم شاب بين الخيال والواقع الجاف. وأدواتها لرسم هذه السيرة الاسطورية صور فانتازية مدهشة وشاعرية تعتمد الموسيقى والرقص والدمى وسائل للتعامل مع الواقع بطريقة تجافي الحرفية المكدرة. وشاعرية السرد المقترنة بحس تصويري مرهف هي من سمات الشريط الايرلندي "كوريا" التي تضفي مزيداً من الدفء على ماضي الريف الايرلندي اوائل الخمسينات الذي يطل في مشاهد طويلة تنضح بالحميمية حتى يكاد المرء يرى فيها ماضي بلاده البعيد. والماضي لا يموت بل يعيش أبداً في الحاضر، فالشاب ايمون يشعر انه "متقدم في السن، كأني عشت طويلاً في جراح أبي". والأب - الذي يؤدي دوره على نحو مدهش تماماً الممثل دونال دونللي - يعتقد ان "وصول الكهرباء عاجز عن تغيير أشياء عدة". ومع انه يستمر في عدائه مع بين موران الذي خاصمه منذ أيام الحرب الأهلية، فالأب يخفق في ابعاد ابنه عن كريمة عدوه اللدود. كما تفشل خطته لارسال ولده الوحيد الى أميركا كي يخوض حربها في كوريا ما يخول أبوه لقبض راتب شهري، او ربما ثمن دم ابنه فيما بعد. يرفض ايمون المجازفة بحياته في حرب تدور رحاها في بلاد بعيدة، ما يجعله حالة مخالفة لديفيد بطل "الأرض والحرية" الذي يعتبر المعركة ضد الفاشية معركته حتى ولو اندلعت على أرض غريبة. والستالينيون الذين حاربهم ديفيد في اسبانيا، ينكدون حياة الجنرال المتقاعد كوتوف عام 1936 في فيلم "حرقته الشمس" الذي أخرجه الروسي نيكيتا ميخالكوف حائز أوسكار هذا العام على أفضل فيلم أجنبي. والمخرج - الممثل الذي يؤدي دور الجنرال يتناول يوماً واحداً من ذلك العام الذي شهد بداية سعي ستالين لاغتصاب القوة المطلقة وبدأ بتصفية خصومه المحتملين، ومنهم بطل الحرب السابق كوتوف. يومئ الفيلم الى الحاضر الروسي، ويصور ببساطة أنيقة فجر عهد الديكتاتورية الذي ترك على البلاد ندوباً لا تزال تعاني منها في محنتها الحالية. ومن الأفلام الأجنبية البارزة التي عُرضت في ادنبره "ناستاشا" جديد المخرج البولوني الشهير اندريه فايدا. العمل البرلماني والتفرغ شبه التام لتاريخ ماضي بلاده وتجاربها البعيدة والقريبة لم يمنعا صاحب "رجل الرخام" و"رماد ولآلئ" من انجاز الشريط الحالي الذي يحاول تقديم تفسير جديد للفصل الأخير من رواية "الأبله" لديستوفسكي. ويؤدي الفيلم ممثلان يابانيان لا يبرحان القاعة ذاتها خلال 100 دقيقة تنقضي بتثاقل ممض فيما تتوالى الصور والحركات المبهمة على الشاشة. وبخلاف فيلم فايدا، يبدو شريط "أيدي دافعة" الأميركي - التايواني مملاً بسبب وضوحه البالغ ومعالجته السردية التصويرية المتواضعة فنياً لموضوع مكرور يتعلق بصراع الحضارات والأجيال اللذين نجد امثلة عليهما في التناقض بين الزوجة الاميركية الشابة ووالد زوجها الصيني المتقدم في السن. وضمن سيل أشرطة الاثارة والمغامرة القادمة من أميركا وصل ادنبره ايضاً فيلم "ذي غيبارد". وهذا هو الباكورة الاخراجية للممثل المكسيكي الأصل ماريو فان بيبلز الذي اقتبسه عن قصة كتبها أبوه المخرج ميلفين عن نضال زنوج اميركا في الستينات تحت لواء "امة الاسلام" ومالكوم اكس ثم حركة "الفهود السود" لنيل حقوقهم المدنية. ومن سوء حظ كاتب هذه السطور انه لم يستطع مشاهدة هذا الفيلم، الذي يوثق حقائق الأيام الصعبة بأسلوب سينماسي ناضج وممتع، او فيلم "بومباي" حيث قارب المخرج الهندي ماني راتنام نزاع المسلمين والهندوس مقاربة أنيقة عادت عليه بجائزة مهرجان أدنبره. كريم دريدي: ضياع في فرنسا بيد ان الموجة العنصرية التي تستهدف الآخر ذا العقيدة الدينية المغايرة، هي واحدة من الموضوعات الأساسية التي يشتغل عليها المخرج التونسي الأصل كريم دريدي صاحب "وداعاً… وداعاً" الفيلم العربي الوحيد الذي عُرض في أدنبره. والشريط الناطق بالفرنسية يبدأ بمشاهد يظهر فيها التونسيان اسماعيل وشقيقه الأصغر مولود 14 عاماً وهما يتجهان بسيارتهما الى مرسيليا. وفي أحد أحياء المدينة الرثة يسكن الأخوان في بيت عمهما. وهنا يتعرضان الى ضغوطات ذات مصادر متباينة، أبرزها العنصرية الفرنسية والماضي الشخصي والعائلي الذي يلح على الأخوين. هكذا يعيشان غربتهما الموحشة ويتأرجحان داخل وخارج الوطن "الأبيض" والعائلة التونسية وتاريخ الأرض الأولى وثقافتها. العم البسيط الذي يستقبلهما بالترحاب بادئ الأمر، سرعان ما يتذمر من المتاعب التي يسببها له اسماعيل ومولد. وطريقته التقليدية في مهادنة العنصريين وفي ادارة البيت وتربية الأولاد تؤدي الى نتائج كارثية منها تورط ابنه في تجارة المخدرات. وامعاناً في الايحاء بفشل النموذج العتيق، الذي يبقى أسير ماض يجد فيه عالمه الفاضل البديل من المجتمع الأوروبي، جرد دريدي الجدة من قدرتها النطق. وهذه الشخصية المحملة برموز الماضي والعائلة… لا تبرح مقعدها حيث تراقب الراهن من دون ان تستطيع التأثير فيه. والوطن الفرنسي قاس على ذوي البشرة الداكنة، يقابلهم بالفقر الذي يرتفع في احيائهم الواطئة، وبالكراهية المقززة التي يبديها العنصريون البيض ازاء "الأجانب". وعلى رغم متانتها المضللة، فإن عمر صداقة اسماعيل وزميله الفرنسي قصير لأن كلاً منهما يحمل ارثاً من الأحاسيس والسمات الحضارية الراسخة. والتصالح مع الواقع الفرنسي يفضي بالشمال افريقي، كما يبدو، الى نهاية بائسة لا تختلف عن نهاية النموذجين اللذين اندمجا في المجتمع الجديد، وهما الفتاة التي تثير بسلوكها قرف اسماعيل وشهوته، وتاجر المخدرات الذي يستغل مولوداً وابن عمه رضا وآخرين. ماذا يفعل الاخوان اذن حيال هذا العالم، وأين يعثران فيه على مكان لهما؟ الاجابة تأتي في نهاية الفيلم الماهر، حيث نرى السيارة ذاتها التي شاهدناها في البداية، وقد توقفت رافضة ان تنطلق من جديد، ما يضطر الاخوان الى تركها وشأنها والسير… في وجهة مجهولة. هكذا، لم تأت النهاية بحل لمشكلة عدم الانتماء والتيه اللذين جسدهما المخرج وممثلوه بذكاء عبر مشاهد شتى منها اللقطات الأولى، وصور السلالم والادراج المعلقة في الفراغ بين مستويين التي يكثر الشخوص من صعودها وهبوطها في أجواء كابوسية تذكر احياناً بمناخات كافكا. ولئن تعمق الاحساس بالغربة في نهاية الفيلم، كما قد يبدو للبعض، فهذا الاحساس اقترن ببحث عن الذات شرع فيه الشقيقان أخيراً.