لم يدخل فيلم كين لوتش الأخير"الطريق الإرلندية"في مسابقة"كان"الرسمية لهذه السنة، سوى يومين قبل الافتتاح. قبل ذلك لم يكن أحد يعرف عنه شيئاً وكثر لم يكونوا عارفين، حتى، بوجوده. أما القلة التي كانت تعرف أن لوتش يحقق فيلماً بهذا الإسم فقد خيّل اليها - وكانت معذورة في ذلك - ان صاحب"الريح تهز حقل الشعير"كان يدنو، من جديد، من القضية الإرلندية. فالعنوان هنا فصيح. ولوتش سبق له الاهتمام السينمائي مراراً بتلك القضية. لكن هذا سرعان ما تبين خطأه ما إن أعلن لاحقاً أن الفيلم عن... الحرب العراقية. وهنا تذكر الذين يعرفون بغداد، في أزمانها الحديثة أن"الطريق الإرلندية"هي تلك التي تربط مطار بغداد بمنطقتها الخضراء. إذاً... في انتظار معرفة ما الذي يمكن للوتش أن يقول، بدوره، عن حرب أعلن مراراً موقفه السلبي منها، وسبق أن عولجت بما يزيد على دزينتين من الأفلام لمبدعين أوروبيين سبقوه، في انتظار معرفة ذلك برزت التكهنات، وكان أقربها الى المنطق يقول ان هذا المبدع اليساري المشاكس العنيد،"سيقول كلمة فصل في تلك الحرب الظالمة"... سيوجه الى الأميركيين والبريطانيين وحلفائهم - من غزاة العراق بحسب رأيه - ألف تهمة وشجب وتنديد. لم يكن متوقعاً منه أقل من ذلك. والمتوقعون كانوا مطمئنين الى درجة بدوا معها وكأنهم ألقوا على كتفي لوتش كل حمل مواقفهم وأمنياتهم. ولكن حين عرض الفيلم، بعد مرور ثلاثة أرباع أيام المهرجان، بدت الخيبة على حجم التوقع. وقال كثر مهمهمين: ما الذي حدث للمشاكس الأكبر في السينما الأوروبية؟ أين حرب العراق في فيلمه؟ بل أين العراق؟ وماذا عن الطريق الإرلندية؟ وكانت الأسئلة محقة... والدهشة السلبية أكثر وضوحاً. تشويق بوليسي ذلك أن ما قدمه كين لوتش في"الطريق الإرلندية"، كان شيئاً آخر. ليس تماماً انما الى حد كبير. صحيح اننا هنا - في الفيلم - في مواجهة حرب العراق وأمام لاعبين لهم علاقات مباشرة بها. والفيلم قدم، في لحظات منه مشاهد تمثل العراق - حتى وان كانت صورت في الأردن كما بتنا نعرف الآن -... وصحيح ان الطريق الإرلندية موجودة، انما فقط كمكان جرى فيه"اغتيال"إحدى الشخصيتين المحوريتين فيه. وصحيح أن ثمة ضحايا عراقيين، لكن التعامل مع قضيتهم في الفيلم لم يبد سياسياً على الإطلاق. بدا أقرب الى الإدانة الأخلاقية. ويرتدي هذا الأمر أهمية من أن الجلادين هنا، ليسوا الجنود الأميركيين أو الانكليز، ولا حتى الإرهابيين الآخرين، بل مرتزقة يعملون لحساب الشركات الأمنية الغربية التي يقول لنا الفيلم ذات لحظة انها تكاد تكون التعبير الساطع عن"خصخصة"الحرب العراقية. ولعل هذا هو الجانب"السياسي"الوحيد في فيلم بدا أقرب الى أن يكون عملاً تشويقياً بوليسياً، منه الى فيلم اتهامي - سياسي، من النوع الذي طغى دائماً على سينما كين لوتش - راجع مكاناً آخر في هذه الصفحة -. الحال أنه لو أتى هذا الفيلم من مخرج آخر غير لوتش، لكان في الإمكان التعاطف معه في شكل أفضل، انطلاقاً من مجرد اعتباره فيلماً مشوقاً مشغولاً بحرفية جيدة، ويطل من موقعه الأخلاقي على قضية قد يحق لسينمائي عادي - تجاري إذا أمكن، خصوصاً ان"الطريق الإرلندية"قد يكون في نهاية الأمر أكثر أفلام كين لوتش تجاريةً! - أن يدنو منها من موقع أخلاقي. ولكن أن يأتي هذا من كين لوتش فأمر بدا مستغرباً، بقدر ما بدا مستغرباً، في سياق مشابه، الفيلم الذي حققه أوليفر ستون قبل سنوات عن نسف مبنيي مركز التجارة العالمية في نيويورك على يد ارهابيي القاعدة، ف"الطريق الإرلندية"فيلم هوليوودي بامتياز، تحل فيه الأخلاق مكان السياسة، والتشويق البوليسي، مكان التحليل العلمي، ومشاهد العنف والضرب والمطاردات، محل الحوارات الاتهامية. بالتالي يخرج منه متفرجه وهو يحاول أن يتذكر أين في الفيلم عبّر صاحبه عن موقف سياسي ما من تلك الحرب!؟ فالصراع هنا هو بين الخير والشر، بين الجشع والبراءة... براءة ما، لدى أولئك الجنود السابقين وهم من المظليين في سلاح الجو البريطاني هنا، الذين بعدما تنتهي مدة خدمتهم في الحرب العراقية تتعاقد معهم شركات الأمن للعودة والعمل في العراق مقابل مرتبات لا تقل عن 14 ألف دولار شهرياً. ان المبلغ مغرٍ بالطبع، حتى ولو كانت المهمة عسيرة وخطرة. فالعراق والى سنتين سابقتين كان يشكل مصيدة حقيقية لهذا النوع من المرتزقة - قبل أن يكتفي الإرهابيون خلال الآونة الأخيرة بقتل أبرياء الشعب العراقي جماعياً وفردياً -. وهذه المخاطرة يقوم بها في الفيلم - عام 2004 - الجندي السابق فرانكي بإغراء من صديقه ورفيق طفولته فرغاس... فينضم الى العملاء الأمنيين. بيد أن فرانكي سيقتل بعد ثلاث سنوات في"فخ لإرهابيين"على الطريق الإرلندية. والفيلم يفتتح على فرغاس وهو يتوجه للمشاركة في جنازة فرانكي... وهناك يلتقي بالمعارف المشتركين، وبامرأة فرانكي، ثم بسيدة اسبانية تعطيه هاتفاً نقالاً عراقياً تقول له ان فرانكي كان تركه لديها طالباً منها ان تعطيه لفرغاس ان حصل له هو مكروه. وهكذا يجمع كين لوتش وكاتب سيناريواته المعتاد بول لافرتي، منذ العشر دقائق الأولى في الفيلم العناصر التي ستحكم مساره. وكما يحدث في فيلم سابق للوتش هو?"الأجندة الخفية"، يكون الهاتف النقال هنا - بدل الأجندة - كاشفاً يمكن فرغاس بالتدريج من رفض الرواية الرسمية التي تتحدث عن قتل الإرهابيين صديقه فرانكي. فالهاتف يحمل مراسلات وصوراً، تكشف بالتدريج، وعلى مدار القسم المتبقي من الفيلم، حقيقة ان فرانكي لم يقع ضحية الإرهابيين، بل ضحية ما كان سجله ورصده من قتل زملاء له عائلة عراقية داخل سيارة - من طريق الخطأ ربما! -. أما قتل فرانكي فلم يكن إلا للتغطية على تلك الجريمة. واضح اننا أمام حكاية لا تعود الحرب العراقية فيها سوى"اكسسوار". ومن هنا يصبح منطقياً أن الجزء الأكبر من أحداث الفيلم يدور في ليفربول، مدينة فرغاس وفرانكي. وان ما صور من الفيلم في الأردن/ العراق، لم يكن أكثر من مشاهد تراجعية ترتبط بما يتذكره فرغاس أو بما يحمله الهاتف النقال من صور. والى هذا يصبح هدف ادانة الفيلم الحقيقي، شركات الأمن الخاصة، التي إذ يكشفها فرغاس، ممثلة بالشركة التي كان هو وفرانكي يعملان لديها، ويبدو انها تمول عملية التعمية على حقيقة اغتيال فرانكي، يتولى بيده - إذ يعرف ان السلطات الرسمية عاجزة عن أن تطاولها - الانتقال منها لمقتل صديقه. وبالفعل، على طريقة ستالوني أم تشاك نوريس، يحقق فرغاس في نهاية الأمر غايته ويدمر الشركة ويقتل مسؤوليها، من دون أن ينسى في طريقه انه كان ذات يوم معجباً بامرأة صديقه القتيل، فيمارس الحب معها، كما يحدث في أي فيلم تجاري أميركي من هذا النوع. نجاح تجاري هذا هو، في اختصار"الطريق الإرلندية". ومنذ الآن يمكن القول ان نجاحه التجاري مؤكد، إذ الى موضوعه الشيق وتصويره وتمثيله المميزين، لا بد أن نضيف هنا سمعة مخرجه وكاتبه، التي تضفي على الفيلم هالة، لن تفارقه حتى بعد أن يكتشف متفرجوه انها هالة ليست له، بل لتاريخ مبدعيه، بخاصة أن لافرتي، كاتب السيناريو لم يتوقف منذ ظهور الفيلم عن الحديث عنه ودائماً انطلاقاً من إمعانه في فضح شركات الأمن، رابطاً اياها، في أحاديثه وليس في الفيلم، ببعض أجواء السياسة الأميركية، ما يعطي"الطريق الإرلندية"قيمة سياسية من خارجه، لا من داخله. ولكن أولسنا نعيش عصر الإعلام بامتياز حيث تختلط الأمور في أذهان الناس، بما يقال عنها، حتى وان لم يكن فيها. من المؤكد ان"الطريق الإرلندية"فيلم يستفيد من هذا، وبشكل مقصود بحيث يجمع المجد من طرفيه ويمكنه أن يقدم نفسه كفيلم عن الحرب العراقية، فيلم اتهامي، عنيف يمكنه أن يدعي أيضاً أخلاقية ما، ولو من خلال ما يفهم من مشهد يقبض فيه فرغاس على قاتل فرانكي المفترض ويعذبه في شكل مرعب. وكأن الفيلم يريد أن يقول لنا هنا، للمرة المليون، تلك الحكمة الخالدة التي تصور الحرب قاتلة للبراءة فينا، حتى ولو كنا من الأبرياء. إذ أمام مشهد من هذا النوع قد يتساءل المتفرجون الأكثر حساسية... إذاً... ها هو فرغاس يتحول الى جلاد بدوره أوليس هذا من فعل الحرب؟ كين لوتش: آخر يساريّي السينما المحترفين قبل زمن ما، كان يمكن للقب"آخر السينمائيين اليساريين المحترفين"أن يكون من نصيب مخرج مثل أوليفر ستون، أو حتى مايكل مور، غير ان الاثنين بإفراطهما في تصوير أفلام ملتبسة ولا سيما حول ديكتاتوريين، بالنسبة الى ستون، أو حول أمور بدت أمام كاميراه غير مقنعة، بالنسبة الى مور، راحا يبدوان أبعد ما يكون عن اللقب، وربما عن الكلمة الأخيرة فيه، حتى وإن ظل لسينما كل واحد منهما طابع المشاكسة، لكنها مشاكسة بدت عنصرية تقريباً لدى مور، وتغض الطرف عن ممارسات وتحليلات سياسية لدى ستون الذي بعدما جعل فيلمه عن مركز التجارة العالمي ملتبساً لا سياسياً، وبدت شخصية الرئيس الأميركي السابق بوش في فيلمه عنه مبهمة مثيرة أحياناً للتعاطف، ولم يتورع في فيلمه الأخير عن تقديم صورة عن الديكتاتور الفنزويلي تشافيز، كثير النفور من الفيلم ومبالغاته، لا من الشخصية نفسها... وازاء هذا كله من الطبيعي أن يعود اللقب الى الانكليزي كين لوتش، الذي أثبت دائماً أن سينماه متمردة على قيم اليمين والسلطة والتاريخ الراسخة، وذلك في الوقت نفسه الذي تتميز بكونها سينما ممتعة مشغولة بحرفية فنية وحداثة لغوية لافتتين. الهدف والمتعة والحقيقة أن هذا المزج بين السينما"الهادفة"والسينما الكبيرة التجديدة دائماً، كان دأب كين لوتش منذ أفلامه الأولى التي بدأ تحقيقها منذ أكثر من ثلث قرن، ولسوف يعتبر من أجملها وأقواها فيلمه"حياة عائلية"وكان ثالثه بعد"يا للبقرة المسكينة"1967 و?"كيس"1919... الذي، من خلال قصة محددة عرف كيف يوجه سهامه في ثلاثة اتجاهات في آن معاً: المؤسسة العائلية، مفهوم السلطة ومؤسسة العلاج النفسي. ومنذ ذلك الحين لم يتوقف كين لوتش عن الدنو من القضايا الكبيرة في أفلام شعبية، انما غير تبسيطية، ومثقفة انما غير نخبوية. وهو في اطلالته على تلك القضايا، عرف كيف يمزج نظرته الناقدة التغييرية، ولا سيما ازاء قيم المجتمع البريطاني، ببعض أبرز سمات الثقافة الشعبية وأطرها، من العمل النقابي الى رياضة كرة القدم، الى الذاكرة الجماعية، الى تفاقم أزمة الطبقة العاملة، الى شروخ التاريخ بين النظرية والممارسة، وصولاً الى صراع الأجيال... ولكن من دون أن يفوته أن يطل في الوقت نفسه على علاقة الأفراد بكل هذا العالم المتغير، حيناً، وأن تكون للفيلم طرافة ممتعة في حين آخر، وأن الحب جزء من هذا العالم الجميل. وهذا المزج الخلاق بين القضايا في مظهرها وأعماقها، هو الذي يفسر كيف أن مخرج فيلم ملحمي سياسي بامتياز مثل"الريح تهز حقل الشعير"2006 الذي أرخ ليس فقط للمسألة الإرلندية، بل حتى للجانب المظلم وجانب جلد الذات لدى أصحاب القضية، هو نفسه مخرج فيلم طريف مثل"البحث عن اريك"2009 يقدم لنا علاقة متخيلة بين رجل ينتمي الى الطبقة العاملة في بلدة انكليزية بليدة، ونجمه الرياضي المفضل اريك كانتونا. وأن يكون هو المخرج الذي أطل على أزمة المراهقة في"سويت سكستين"- 2002، كما على الحرب الإسبانية ليقول لنا في"الأرض والحرية"1995، كيف ان هزيمة الجمهوريين كانت بفعل الخيانات المتبادلة بين اليساريين، أكثر مما كانت بفعل قوة اليمين الفاشستي... ثم يغوص أمامنا في صلب الصراع الاجتماعي اليائس والبائس الذي تخوضه الطبقة العاملة المسحوقة في بريطانيا الثاتشرية من خلال ثلاثية ربما تكون من أفضل ما حققته السينما الاجتماعية الأوروبية أوائل التسعينات، أي في زمن سنوات الفولاذ، الناتجة عن حكم السيدة الفولاذية التي تقول الحكاية انها هي من أعاد الاقتصاد البريطاني الى سكة السلامة. في أفلام الثلاثية وهي تباعاً"ريف راف"- 1991 -، و?"أحجار ممطرة"- 1993 -، و?"ليدي بيرد"- 1994 - قدم كين لوتش مساهمة أساسية في تحديد الفعل السياسي الثاتشري، من دون أساطير أو أوهام. سعفة ذهبية لقد قدمت سينما كين لوتش هذا كله، لكنها وصلت الى عالم النقابات والهجرة في"خبز وورود - 2000 - وإلى أميركا اللاتينية في"أغنية كارلا"- 1996 - أما نجاحه التجاري الأكبر فيبقى حتى الآن فيلم"الأجندة الخفية"، الذي دنا فيه من القضية الأم - بالنسبة اليه - القضية الإرلندية، انما على طريقته، وفي شكل"بوليسي"سرعان ما استكمله ب"الريح تهز حقل الشعير"، الذي أتى أشبه برد ملحمي على تشويقية الأول البوليسية. وبدا مستحقاً تماماً للسعفة الذهبية التي نالها في مهرجان"كان"قبل أربع سنوات. نشر في العدد: 17234 ت.م: 11-06-2010 ص: 22 ط: الرياض