معرض الانطباعيين في غاليري هايوارد، لندن، شحذ مجدداً أقلام النقاد المعادين لهؤلاء الفنانين الذين يعيّرون برسومهم الجميلة الحافلة بالشمس "اللعينة" بحسب احدهم. ما الذي فعله بيار أوغست رينوار 1841 - 1919 وفنسنت فان غوغ 1853 - 1890 لتباع لوحاتهما بملايين الدولارات، علماً ان فان غوغ المسكين لم يبع سوى لوحة واحدة في حياته المأسوية القصيرة التي انتهت في عامه السابع والثلاثين؟ بدا الانطباعيون كأنهم عاشوا خارج زمنهم احياناً. كلود مونيه 1840 - 1926 جلس يرسم في حديقته الشهيرة جيفانري زنابق وسماء زرقاء وهو على مرمى القنابل في الحرب العالمية الأولى. وهو ورفاقه رأوا الحياة الحلوة ورسموها بضربات قصيرة مقطعة وألوان قوس قزح. ناس لاهون يأكلون ويشربون ويتحدثون في اطار مشمس أو منار وألوان ربيعية متفائلة. أين القضايا والهموم والخوف واليأس وعبث الحياة؟ لم يتدخل الانطباعيون في شؤون الناس الداخلية، وبقيت وجوه مواضيعهم جامدة، فارغة من التعبير. انتصر المبنى لديهم على المعنى، واكتفوا بالبحث عن الجمال من دون ان يصدروا بياناً سياسياً أو يعبروا عن رأي في مشكلة اجتماعية ما. مدّاحون بمعنى ما، ولا يستأهل رشاقة ريشتهم وعملهم الدؤوب إلا ما يبهج النظر. رينوار قال انه يميل الى اللوحة التي تمنح الفرح للحائط الذي علقت عليه ولا عجب في ان اليابانيين الذين يعمل احدهم كالحصان أقبلوا على لوحات الانطباعيين في الثمانينات ورفعوا اسعارها. رفض كثيرون اللوحات الانطباعية الهادئة لأنها بلا رأي. لا تقول شيئاً للمشاهد بعد ان يتملى من سكينتها وهنائها وجمال ألوانها والعمل الصبور على أشكالها بضربات مختصرة. محاولة غاليري هايوارد تصوير الانطباعيين ثوريين قوبلت بالسخرية. اذا وضعنا الأسلوب الجديد جانباً، أين الثورة يا إخوان؟ المؤسسة الرسمية هي التي رفضتهم لا العكس، وما لبثت ان قبلتهم كعادتها مع كل جديد ينجح ويجد اتباعاً. روح انطباعية لا تختلف احياناً عن صور "نجوم الاسبوع" في "الوسط" مثلاً والفارق ان بعض نجومنا يبتسم ويضحك ويصدق ربما انه سعيد، وهذه قصة اخرى. تمنح الحركة والتجمعات في اللوحات حساً بالأمان، ولا تخلو رسوم كاميل بيسارو أبي الانطباعية 1830 - 1903 التي تصور المدينة في الشتاء في الضوء والجلبة والأمل. حتى الظل والعتمة زرقاوان عند الانطباعيين لا أسود. المفارقة ان السلام الذي صوّره الانطباعيون لم يكن داخلياً. بيسارو كان يهودياً في باريس في زمن قضية دريفوس، الضابط الفرنسي اليهودي الذي اتهم بالتجسس للألمان، وحتى أعز أصدقائه، ادغار ديغا، تخلى عنه. الميول الفوضوية لدى بيسارو لم تنتقل الى لوحاته التي احترمت التناسق والنظام في العمران وطريقة الرسم، وربما كان لا انتماؤه من أسباب اعتماده مواضيع حيادية، بالاضافة الى ضرورة العيش. فهو لم يتخلص من ديونه الا عندما بدأ يرسم مشاهد من المدن، لذا أكثر منها في أواخر حياته. وكيف استطاع فان غوغ، ذلك الرسام المعذب، ان يغرق لوحاته في كل ذلك الضوء هو الذي قطع أذنه ثم انتحر وهو يرسم في حقل، مغموراً بالسكينة والسماء؟ هل تفرج الانطباعيون على العالم لأسباب تجارية فقط، أم ان لا انتماءهم دفعهم الى الهروب؟ في هذا السياق يبدو تجاهل مونيه القتال رفضاً للعالم والحرب واختياراً للسلام، والانطباعيون في تصويرهم العمران والفرح والجلسات الكسولة هامشيون لا مبالون أم رافضون؟ ذلك البعد عما يجري يثير الغيظ بالتأكيد، لكنني أفضل استرجاع حياة الرسام قبل ان احكم على رسومه.