حرص الرئيس اليمني علي عبدالله صالح ان يطلق، منذ وصوله الى المملكة العربية السعودية، تصريحات اشاعت جواً من التفاؤل حول الظروف التي تتم في اطارها زيارته الرسمية التي انهت قطيعة دامت خمس سنوات. وكان الدكتور عبدالكريم الارياني نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية اليمني أكد لپ"الوسط" اهتمام الجانب اليمني بزيارة الرئيس صالح للسعودية التي أعد لها جيداً خلال الاشهر الماضية حيث مهّدت لها زيارات عدة قام بها مسؤولون يمنيون كبار، مثل الشيخ عبدالله الأحمر رئيس مجلس النواب. وأعطى الاستقبال الحافل الذي لقيه الرئيس صالح انطباعاً جيداً منذ بداية محادثاته مع خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز التي تميزت حسب ما قالته مصادر رئاسية لپ"الوسط" بالصراحة والوضوح منذ البداية، حيث استطاع الزعيمان "تجاوز سلبيات المرحلة الماضية والاتفاق على طي هذه الصفحة بما تحمله من عتب وألم للجانبين لتبدأ صفحة من الاخاء والمحبة والتعاون". وأضاف المصدر "ان المرونة وسعة الأفق والانفتاح خلال المحادثات ساهمت بشكل فعّال في تجاوز الكثير من العقبات، وأتاحت تهيئة اجواء مؤاتية لعمل اللجان المشتركة التي كانت اقترحتها مذكرة التفاهم". وأعطى الزعيمان الضوء الأخضر لبدء أعمال اللجان التي أوكل اليها انهاء موضوع ترسيم الحدود بين البلدين وتطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية والثقافية وإزالة سبل العوائق التي كانت تعرقل حركة التجارة والاستثمار والنقل. الى ذلك عكست تصريحات الرئيس اليمني في اليوم التالي لزيارته النتائج المباشرة التي حققتها محادثاته مع الملك فهد عندما اعلن امام الجالية اليمنية في القنصلية اليمنية في جدة ان لقاءه والعاهل السعودي "اتسم بالصراحة والوضوح اللذين ساهما في ازالة سوء الفهم نتيجة مواقف اليمن خلال أزمة حرب الخليج واحتلال العراق للأراضي الكويتية". وطمأن الرئيس اليمني مواطنيه الى عودة التسهيلات التي كان يتمتع بها العاملون اليمنيون في المملكة خصوصاً على صعيد الاقامة والتنقل وممارسة الأعمال التجارية، وهي المعاملة التفضيلية التي كان يتمتع بها اليمنيون دون سواهم من الجنسيات المقيمة فوق الأراضي السعودية، وقال المصدر الرئاسي اليمني لپ"الوسط" ان هذا الموضوع بالذات كان محور بحث الرئيس اليمني مع أبرز المسؤولين السعوديين الذي اجتمع معهم في جدة، وعلى رأسهم الأمير سلطان بن عبدالعزيز ووزير الداخلية الامير نايف بن عبدالعزيز، ثم مع نائبه الأمير أحمد بن عبدالعزيز. واعترف المصدر الرئاسي بأن آثار حرب الخليج أضرت بشدة بالاقتصاد القومي اليمني وأصابته بالشلل بعد ان توقفت التحويلات النقدية لآلاف اليمنيين الذين غادروا السعودية عقب احداث حرب الخليج، وفقدت اليمن بالتالي مئات الملايين من الدولارات التي كانوا يقومون بتحويلها الى بلادهم ما أثر مباشرة على "فعالية العجلة الاقتصادية التي توقفت تماماً في الفترة الاخيرة، فندرت السلع واشتعلت الاسعار". وتوقع المصدر ان تقوم السعودية خلال الفترة القريبة المقبلة بتقديم قروض ومساعدات لانعاش سريع للاقتصاد اليمني المنهار في خطوة لاصلاح مساره الطبيعي بعد ان قضت الحرب الداخلية الاخيرة مع المنشقين الجنوبيين على البقية الباقية منه. لكن اليمنيين - حسب المصدر الرئاسي - يعتبرون ان "التضحية بالمال والرجال كانت واجبة في سبيل وحدة اليمن". برامج واضحة ويُجمع المسؤولون السعوديون واليمنيون على نجاح محادثات الملك فهد والرئيس صالح في تكريس الأسلوب والمنهج الجديدين للعلاقات بين البلدين، خصوصاً ان الرئيس اليمني أكد ان القمة "اظهرت ان هناك جدية لدى قيادتي البلدين للمضي في العلاقات نحو مستوى أفضل". ويرى المراقبون ان هذه العلاقات بدأت تدخل مرحلة جديدة تختلف عن المراحل السابقة والمعقدة، بما فيها مراحل الود والوئام. فالمرحلة الجديدة تقوم على برامج واضحة ومحددة في مذكرة تفاهم مشتركة تحدد تفاصيل وسبل معالجة كل ما يمكن ان يثار بين البلدين من قضايا، سواء كانت قضايا حدودية أم قضايا التعاون المشترك. وقد وصف الرئيس اليمني مذكرة التفاهم بأنها "الأساس السليم والأسلوب الحضاري الذي يُحتكم اليه في حل كافة المشاكل العالقة بين البلدين، ومنها قضية الحدود". اما السعوديون فاعتبروا مذكرة التفاهم أساس حل المشاكل والقضايا المشتركة بين البلدين خصوصاً المشاكل الحدودية المعقدة. وترى الرياض انه عندما تحل المشاكل الحدودية فان كل المشاكل الاخرى بين البلدين يسهل حلها. وقد أدرك الرئيس صالح ذلك، لذا أعلن بعد انتهاء محادثاته ان بلاده ستعمل على تجديد اتفاقية الطائف الحدودية الشهيرة التي وقّعت بين البلدين عام 1934 من دون أي تعديل، ما يؤكد ان الاتفاقية أصبحت حقيقة قائمة على الأرض لا مجال لتصبح وسيلة للمزايدة السياسية داخل اليمن، كما كان يحصل خلال سنوات الانشطار وفترات الخلاف بين عدنوصنعاء. وقال مصدر يمني "اذا كان التاريخ سيذكر للرئيس صالح انه ثبت الوحدة اليمنية، حتى ولو بالقوة، فانه سيسجل له أيضاً انه كرّس اتفاقية الطائف الحدودية". واذا كانت اتفاقية الطائف هي اتفاقية حدودية بشكل أساسي الا انها وضعت - ومنذ أكثر من ستين عاماً - حلولاً للقضايا الثنائية الأخرى، ومنها قضية انتقال العمالة اليمنية الى السعودية. ولا شك ان مذكرة التفاهم المشتركة تجدد ما بين البلدين من اتفاقات وفق المفهوم الحديث للعلاقات بين الدول وهو مفهوم يقوم على أساس تشكيل لجان مختلفة تكون مهمتها ترجمة الاتفاقات على أرض الواقع لتكون العلاقات قائمة على أسس سليمة. ومن أجل ذلك اعطيت محادثات القمة السعودية - اليمنية أهمية لعمل اللجان المشتركة بين البلدين، سواء اللجان الحدودية ام لجان التعاون السياسي والاقتصادي والثقافي، وهي أهمية برزت ببدء اجتماعات اللجان المشتركة اعتباراً من اليوم الاثنين. وإذا كانت القمة السعودية - اليمنية اكدت بدء المرحلة الجديدة في العلاقات بين البلدين، فانها اكدت أيضاً أن اسلوب الاتصال المباشر بين قيادتي البلدين كفيل بحل كل القضايا، خصوصاً مع توافر النيات السليمة. ولأن الرئيس صالح يتبع سياسة الاتصال المباشر لذلك كان شديد الحرص على زيارة السعودية. ولاحظ المراقبون ان صالح أشاد كثيراً في مؤتمره الصحفي بمضيفه الملك فهد بن عبدالعزيز، نظراً الى ان الرئيس اليمني يدرك ان خادم الحرمين الشريفين حريص على الابتعاد عن سياسة اثارة المشاكل لتحقيق المصالح، حيث ان السياسة السعودية ترى ان تحقيق المصالح لا يمكن ان يتم الا بعد تهدئة المشاكل أولاً، ومن ثم يمكن وسط اجواء الهدوء التوصل الى التفكير السليم والواقعي لحل أية مشكلة، ومن هنا يمكن فهم التأني السعودي في عقد القمة، فبعد الازمة في العلاقات التي اشتدت مع تدهور الوضع على الحدود في شهر كانون الثاني يناير الماضي فضلت السعودية العمل على تهدئة الاوضاع والتوصل الى مذكرة التفاهم لتأتي القمة وتكرس الاتفاق والوئام. ارتفاع الريال وتدرك صنعاء ان لا استقرار في اليمن الذي عصفت به في فترات كثيرة الخلافات والنزاعات من دون علاقات طبيعية وجيدة مع الجارة الكبرى في الشمال. وقد تعوّد اليمن ان يشهد استقراراً اقتصادياً عندما تكون علاقاته جيدة مع السعودية، ولأن زيارة الرئيس صالح اكدت عودة الاستقرار الى الاوضاع بين البلدين، فان ذلك انعكس فوراً على الوضع الاقتصادي في اليمن، والدليل ان سعر الريال حقق ارتفاعاً تجاه الدولار تجاوز الخمسة في المئة بعد يوم واحد من وصول الرئيس صالح الى جدة. وجاءت المحادثات السعودية - اليمنية تتويجاً لمرحلة طويلة من المفاوضات بين البلدين استمرت أكثر من شهر. وقبل كل ذلك كانت المفاوضات الحدودية بين البلدين انطلقت في تموز يوليو 1992 في جنيف حيث اتفق الطرفان على مواصلة محادثاتهما على مستوى لجان الخبراء التي عقدت منذ سبتمبر أيلول 1992 وحتى مطلع العام الماضي 1994 سبع جولات بالتناوب في كل من الرياضوصنعاء، ولكن الاجتماعات توقفت عقب ذلك بناء على طلب الحكومة اليمنية بسبب انشغالها في الحرب في الجنوب. وعزا المسؤولون اليمنيون تأجيل زيارة الرئيس صالح الى حاجة الجانبين السعودي واليمني لإكمال الترتيبات اللازمة لانجاح القمة ليس على صعيد حل الخلافات الحدودية بين البلدين فحسب بل لدرس مجمل القضايا السياسية والاقتصادية بين صنعاءوالرياض اضافة الى "كل الأمور التي تهم الأمة العربية والاسلامية تعزيزاً لوحدة الصف والموقف وهو ما يحتاجه العرب اليوم اكثر من أي وقت مضى لمواجهة التحديات المفروضة عليهم" على حد تعبير الرئيس اليمني. وفهم المراقبون من هذا الحديث ان القمة حملت الى جانب القضايا الثنائية الهم العربي أملاً في تنقية الاجواء وإطفاء الحرائق العربية مستقبلاً. وتزايدت الآمال بأن تكون المصالحة السعودية - اليمنية انطلاقة مدروسة لمصالحات عربية - عربية خصوصاً اذا اعتبرت المصالحة بين البلدين الخطوة الأولى نحو المصالحة بين صنعاء والعواصم الخليجية الاخرى، ما يعطي مؤشراً قوياً الى امكان تجاوز التداعيات التي خلفتها حرب الخليج الثانية. ويعتقد المراقبون لمسار العلاقات السعودية - اليمنية ان تسوية الخلاف الحدودي بين البلدين بصورة نهائية يُعتبر أحد أهم ضمانات الاستقرار السياسي في المنطقة خصوصاً بعدما تمكنت القيادة السعودية من تسوية وترسيم حدودها مع جاراتها العربية والخليجية بموجب اتفاقات ومعاهدات رسمية، واضافة الى ذلك لعبت دوراً في تسوية المسائل الحدودية بين الدول الخليجية الاخرى. ولعل من محاسن الصدف، كما يقول مسؤول يمني، ان زيارة الرئيس صالح للسعودية جاءت بعد يومين فقط من احتفال صنعاء ومسقط باكتمال ترسيم الحدود الدولية بينهما 308 كم بصورة نهائية، وهي أيضاً تمت تحت شعار لا ضرر ولا ضرار، كما صرح بذلك محافظ مدينة المهرة حسن الأهدل الذي مثل الجانب اليمني في حفل الترسيم. يقول مراقب سياسي خليجي ان الاتفاق على ترسيم الحدود الجغرافية بين السعودية واليمن يمثل الأرضية الصحيحة والضمانة الأساسية "لترسيم المصالح السياسية والاقتصادية" بينهما وهذه مسألة حيوية ومهمة بالنسبة الى اليمنيين على وجه الخصوص. فالاسهامات السعودية في دعم المشاريع التنموية والبنى التحتية في اليمن معروفة وهي تشهد على أهمية العلاقة بين البلدين وهذا ما اكده الرئيس صالح قبيل وصوله الى جدة حيث قال "نثمن ما قدمته المملكة العربية السعودية الشقيقة من اسهامات بارزة لدعم مسيرة التنمية في بلادنا". ويكفي في هذه المرحلة ان تكون القمة "السعودية - اليمنية" حققت النتائج الآتية: 1 - اعادة العلاقات بين البلدين الى سابق عهدها حيث اتفق الزعيمان على "ازالة كل المعوقات والقيود التي شابت العلاقات في الفترة الماضية" وأعلن الرئيس صالح استئناف الحركة التجارية وتنقل المواطنين بين البلدين في وقت قريب. 2 - اعطاء دفعة قوية لعمل اللجان الحدودية والسياسية. 3 - تقديم نموذج يحتذى به في معالجة الخلافات السياسية والحدودية بين الدول. وأخيراً يكفي القمة انها برهنت للجميع ان الوفاق السعودي - اليمني هو خيار بمقدار ما هو قَدَر تفرضه اعتبارات الجغرافية وحقائق التاريخ.