الثأر، أقدم تصرف مارسه الانسان باليد ربما قبل أن ينطق به الفم، وعلى الرغم من أن القرن الحادي والعشرين يدق الأبواب، إلا أن الثأر لا يزال سيد الموقف في كثير من قرى مصر، لا سيما في الصعيد حيث اكتسب الثأر معاني سياسية جديدة ارتبطت بالتطرف الديني والسياسي، مثلما ارتبطت على مر العصور بالبعد الاجتماعي. في منتصف آذار مارس الماضي بقيت قرية مير في دائرة مركز القوصية، محافظة أسيوط، أسيرة لسيطرة "الثأر" ثلاثة أيام كاملة، دارت فيها معارك بالبنادق الآلية، والمسدسات بين أغلب عائلاتها، ولقي مزارعان مصرعهما وأصيب ثلاثة آخرون، واعتبر 6 رجال في عداد المفقودين، وبُحث عنهم طويلاً وسط المزارع. ولولا تدخل قوات الشرطة، بقيادة اللواء مجدي البسيوني مساعد وزير الداخلية لأمن أسيوط، لوقعت مذبحة بشرية بين عائلتي موسى وخير، وانضمت الى الأخيرة عائلة "الجمل" وعائلات أخرى. وقائع معركة قرية مير الأخيرة هي في الواقع نفس وقائع معارك أخرى دارت في قرى الصعيد، وامتدت الى محافظة الجيزة، وهي ثاني محافظة فيما يعرف بالقاهرة الكبرى. وهي أساساً خلاف عابر يتحول الى خصومة ثأرية. وفي مير بدأت المشكلة في آب اغسطس 1994، بقتل شيخ خفراء القرية، الذي ينتمي الى عائلة موسى بسبب خلاف على قطعة أرض، مع عائلة خير، ورغم أن الشرطة تدخلت، وأصدر القضاء حكمه، فإن الثأر الكامن في الأعماق كان له قرار آخر. بعد 9 أشهر من حادثة مصرع شيخ الخفراء، تربص أفراد من عائلة موسى بمجموعة من أفراد عائلة خير أثناء تشييع جنازة احدى السيدات من آل خير. وقتلوا 5 أشخاص، وأصابوا 9 بجروح. وتبين لاحقاً أن القتلى ينتمون الى عائلات أخرى. وتفاقم الوضع بعدما أدلى بعض أهالي القرية بالشهادة ضد المتهمين من عائلة موسى. وتربص لهم على الأثر ثلاثة أفراد، قتلوا أحدهم وأصابوا آخر. فتفجر الخلاف على نطاق واسع بين عائلات القرية، واندلعت معارك ثأرية متلاحقة. هذه الوقائع - مع اختلاف التفاصيل - جرت في منطقة البدرشين 10 كيلومترات من القاهرة قبل 5 أعوام بين عائلتي خضر وعزام. وهي وقائع بقيت متداولة على الألسن في مصر أسابيع عدة. وكانت معاركها قد تجددت إثر مصرع عميد الشرطة سيد عزام، وعمه، وزوجته، ووالد زوجته، في مسلسل الثأر مع عائلة خضر الذي أسفر عن وقوع 9 قتلى، و14 جريحاً، كان من بينهم محافظ الجيزة السابق عبدالفتاح عزام. وإذا بحثنا عن السبب الظاهر في أوراق التحقيق للثأر بين هاتين العائلتين سنجده قليل الأهمية، وكان سهلاً تجاوزه، لولا ضغينة الثأر نفسها. وتاريخ الثأر بين عائلتي خضر وعزام يعود الى بداية الستينات، عندما وقع حادث سيارة كان يقودها أحد أفراد عائلة عزام، إذ اصطدم بمحل لبيع الفاكهة والخضروات يملكه أحد أفراد عائلة خضر، ونشبت مشاجرة صفع خلالها صاحب المحل العزامي على وجهه، وهو ما اعتبره آل عزام اهانة لا تغتفر، ولا يمحوها إلا الدم. ومنذ ذلك الحين وحتى 1990 سقط عدد كبير من القتلى من العائلتين، بينهم مسؤولون في الحكومة والشرطة. ولم يتوقف الصراع إلا بعد جلسة صلح رأسها الشيخ جاد الحق علي جاد الحق شيخ الأزهر، ونحرت اثرها الذبائح وأقيمت الأفراح، واتفق الطرفان على شروط جزائية قاسية لمن يخل بالصلح. لا عزاء للرجال والغريب في مسلسل الثأر كما يبدو من النزاع بين عائلتي خضر وعزام - وحسبما يقول أحد ضباط الشرطة - أن الجناة يختارون مواقع مماثلة لأخذ ثأرهم. فإذا قتل لأسرتهم شخص في الطريق العام، أو في الأسواق، فإن الانتقام لمقتله يكون في موقع مماثل. ومن يقتل في وضح النهار، أو ليلاً فإن عائلته ترد بعملية قتل في وقت مماثل. أما عدد الضحايا في كل حادثة، والمكانة الاجتماعية للقتيل، فالميزان الثأري لا يغفلهما. علماً بأن العائلات لا تقبل الدية في قتلاها. لكنها قد تقبلها إذا اقتصر الأمر على مشاجرة أو اصابة طفيفة. ويقول الدكتور نصار عبدالله وهو استاذ جامعي من عائلة النواصر في البداري في أسيوط "ان الذين يعتقدون في الثأر يغرسونه في نفوس الجميع، باعتباره واجباً على أي فرد في العائلة، مثقفاً كان أو أمياً، رجلاً أو امرأة، حتى الطفل يظل الثأر في عنقه حتى يكبر. وبعض العائلات لا تقيم مأتماً بعد تشييع قتيلها حتى تأخذ بثأره. كما أن اللجوء الى الشرطة أو المحاكم لدى بعض العائلات يعتبر عيباً كبيراً. وفي كثير من الأحيان لا يدلي أهل القتيل بمعلومات عن قاتله، وربما يضللون الشرطة، لأنهم يسعون الى الثأر بأنفسهم". وما قاله الدكتور نصار نلمسه - عملياً - اذا توغلنا في صعيد مصر، إذ لا يزال أهالي مركز البداري يذكرون وقائع صراع الثأر الذي ذهب ضحيته عشرات من عائلات زليتم - كرنيف، ومهران - الزواتين، وبيت موسى - المواجر، والشويخ - خير الدين. ومن قبلهما دارت رحى صراع دامٍ مماثل بين عائلتي النواصر والزناتي. فتش عن السبب وفي سوهاج تنتشر جرائم الثأر في مدن وقرى جهينة، والمراغة، وبرديس، وطهطا مسقط رأس رفاعة الطهطاوي. وقد تعود جذور الصراع بين العائلات الصعيدية الى خمسة أجيال على الأقل. كما ان بدايات الصراع والمعارك التي تستخدم فيها البنادق الآلية قد تعزى الى أسباب تافهة، قد لا يتوقف لديها المرء في مجتمع متقدم. وترى الباحثة هدى نصار، في دراسة سوسيولوجية عن الثأر، "ان الشجار بين الصبية الصغار يؤدي أحياناً الى معارك يدفع ثمنها الكبار، وبعض جرائم الثأر بدأت بسبب مواشٍ تتوغل في حقول احدى العائلات بحثاً عن البرسيم، وربما بسبب خلاف تجاري بسيط يتطور الى مشاجرة ثم يقع المحظور عندما تمتد اليد الى السلاح، وتبدأ رحلة العذاب". ويرى اللواء منصور العيسوي، وهو من كبار ضباط وزارة الداخلية، ان مشكلة الثأر تظهر في المجتمعات الريفية، ولا وجود لها في المجتمعات الصناعية رغم وجود عائلات كبيرة، إذ أن هذه العائلات الأخيرة تحتكم في خلافاتها الى القانون، والعرف، ولا تلجأ الى السلاح. والجديد في قضية الثأر اكتسابها أبعاداً سياسية في الآونة الأخيرة من خلال المعارك بين أجهزة الأمن والمتطرفين في الصعيد. وليس صدفة ان تنطلق الرصاصة الأولى بين الشرطة والمتطرفين في صنبو - أكبر قرى ديروط - في معركة راح ضحيتها 14 قبطياً، و3 مسلمين، قبل 4 أعوام. ولم يكن الحادث - في بدايته - طائفياً، وانما بدأ خلافاً بين تاجرين مسلم وقبطي، على سعر منزل. وتطور حتى اتخذ بُعداً سياسياً بدخول الشرطة طرفاً ثالثاً. وامتد الصراع الى 43 قرية، هي عدد القرى المحيطة بمركز ديروط الذي شهد حمامات دم عدة، آخرها معركة الثأر بين عائلتي الكيلانية وبيت سليم، حصت عدداً من الرؤوس الكبيرة في العائلتين. وهو صراع قديم اندلع قبل 15 عاماً، واتخذ طابع الاغتيال على طريقة آل كابوني الشهيرة في نيويورك. وقال أحمد سليم عضو اللجنة المركزية للحزب الناصري في أسيوط ل "الوسط" "إن بعض عائلات المتطرفين تساند ذويها ضد الشرطة بمنطق الثأر، وهم يجهلون حتى الأفكار التي يتبناها أولادهم، لكنهم يتخذون مواقف عدائية من رجال الأمن إذا اعتقل أحد أفراد العائلة لسبب سياسي. اما إذا أصيب أو قتل في معركة، فإن الثأر هو ردهم الوحيد، وهذا الأسلوب يعكس مدى تخلف أفكار هذه العائلات وحرصها على غرس عادة الثأر في نفوس أجيالها حتى إذا أدى ذلك الى الاصطدام مع الجهة المكلفة مراعاة تنفيذ القانون". ويضيف سليم ان ذلك يؤكده دخول عائلات بأسرها، من منطقة ديروط، دائرة التطرف لتعزيز أبنائها وليس عن قناعة بفكر المتطرفين. وربما لذلك برز في محافظة أسيوط كبار قادة الارهاب، مثل ناجح ابراهيم، وجمال زكي الآبي، وجمال هريدي واخوته، ومحمد سليم، ومحمود زهران، ورفعت زيدان، وعرفة درويش. وكانت الشرطة تفاجأ بوابل من النيران إذا حاولت القبض على أحد المتطرفين، ليتضح لها لاحقاً ان أقارب المتطرف يعززونه ببنادقهم في مواجهة الشرطة، من منطلق عشائري محض. كما يساعدون المتطرفين على التخفي وسط حقول الذرة والقصب المنتشرة في المنطقة. ويعتقد اللواء العيسوي "ان تنمية الوازع الديني عند الشباب يمكن ان تحميهم من خطر التطرف والثأر في آن معاً". ويشير الى دور المؤسسات الدينية، وقوافل الدعوة في شرح طبيعة الدين الحنيف، بالتركيز على أن القصاص من اختصاص الأجهزة المسؤولة وليس الأفراد. شرعية العشيرة ويفسر الدكتور أحمد الساعاتي خبير علم الاجتماع ظاهرة الثأر في صعيد مصر أنها "صورة لما يحدث في سائر المجتمعات ذات الطابع القبلي عموماً، وأياً كان الموقع التاريخي أو الجغرافي لهذه المجتمعات، فإن العشيرة أو العائلة وربما القبيلة تقوم بدور حيوي في حياة أفرادها، في حين يتراجع دور السلطة المركزية. والمواطن في صعيد مصر يجد - حتى الآن - في عشيرته وعائلته من أسباب الحماية والأمن الاجتماعي ما يجعله يزدري بمؤسسات الدولة، وعلى الرغم مما تقدمه تلك المؤسسات من خدمات حيوية". ويرى الدكتور الساعاتي "ان من شأن خطة تنموية طموحة لنشر الصناعة في الصعيد أن تبدل العادات، والمعتقدات، والتقاليد غير السوية، وتحقق التوازن الاجتماعي حتى تبدأ عملية فك الارتباط بين الفرد وسلطة العشيرة، ويندمج في مجتمع صناعي ذي سمات حضارية مختلفة". القصاص للحكومة أما الشيخ جاد الحق علي جاد الحق شيخ الأزهر، الذي شارك في إبرام الصلح بين عائلتي خضر وعزام فيؤكد "ان احكام الاسلام تحرم ما يجري بين المتخاصمين من أخذ الثأر بأنفسهم، حفاظاً على استقرار المجتمع، وأمن الناس. اذ كثيراً ما سقط قتلى ابرياء ليست لهم علاقة بحوادث القتل الأساسية. ومن مصلحة المجتمع أن تُترك هذه القضايا لجهات التحقيق، فهي قادرة بما تملك من أجهزة، ورجال محايدين، على معرفة الحقيقة، وتوقيع العقاب على الجانب، وإلا فإن الفوضى ستسود المجتمع".