يبدو أن أسيوط خلعت أخيراً ثوب الحداد الذي ارتدته لسنوات عدة في التسعينات بسبب أحداث العنف المتبادل بين الشرطة والجماعات الإسلامية المتطرفة، فالشرارة الأولى لتلك الأحداث انطلقت من أسيوط، ووقع كثير منها في أحيائها وقراها حتى أصبحت تسمى "مدينة العنف". وبعد أن توقفت أعمال العنف في اسيوط أصبح من الطبيعي أن يقرأ الناس عن عمليات التنمية فيها في ضوء موقعها المتميز على خريطة الاستثمار. وأغرب أخبار اسيوط في الفترة الأخيرة، هو خبر إضراب الجزارين القصابين فيها احتجاجاً على قرار محافظها رجائي الطحلاوي منعهم من بيع مخلفات الذبائح التي يطلق عليها في مصر اسم "الكوارع". وبعيداً عن معركة "الكوارع"، التي لم تنته فصولها، يقول الدكتور الطحلاوي: "معركتي الآن هي مع التنمية وواجبي يحتم عليّ أن يجد كل شاب في اسيوط فرصة عمل مناسبة وشقة يبدأ فيها حياته، أما الإرهاب فلم يعد له وجود في اسيوط، والدليل على ذلك أن المحافظة لم تشهد أي عمليات عنف ذات بال خلال العامين الأخيرين". وكان الطحلاوي في ذروة أحداث العنف التي شهدتها أسيوط في السنوات الماضية، يشغل منصب رئيس جامعة اسيوط، وهو الآن يولي اهتماماً ملحوظاً لزراعة أراضي الوادي الاسيوطي وتوزيعها على الشباب. وفي مقدم أولوياته أيضاً الحفاظ على البيئة، وفي هذا الإطار تأتي "معركة الكوارع"، التي يقول عنها الطحلاوي: "إن عدم موافقة الجزارين على قراري سينتهي مع مرور الوقت بعد أن يتعود الناس على عدم تلويث البيئة"، مشيراً الى أنه يقود بنفسه حملات نظافة للشوارع في مختلف مدن المحافظة وقراها من وقت إلى آخر. ومن جهته يؤكد مدير أمن أسيوط اللواء نبيل العربي أنه تم اقتلاع جذور تنظيم "الجماعة الإسلامية"، مشيراً الى أنه لم يعد موجوداً في اسيوط سوى بعض العناصر الفارة وهي عناصر قيادية قليلة العدد من الصعب أن تنفذ عمليات عنف. ويقول اللواء نبيل العربي: إنه تتم الآن حملات يومية على المدن والقرى والزراعات والجبال والمغارات لضبط تلك العناصر الفارة التي انقطعت العلاقة بينها وبين مصادر التمويل الذي يلزم لتنفيذ عمليات العنف. ويشير الى أن القضاء على الإرهاب شجع المستثمرين على إقامة الكثير من المشاريع في المحافظة. ويعتبر رئيس المجلس الشعبي المحلي في اسيوط وأمين الحزب الوطني الحاكم فيها محمد عبدالمحسن صالح من أهم الشخصيات التي لعبت دوراً بارزاً خلال أزمة التسعينات، وساهم بصفته "قائد الشعبيين" في اسيوط في القضاء على الإرهاب. ويقول عبدالمحسن صالح لپ"الحياة": منذ أن بدأت أحداث العنف في التصاعد في أسيوط العام 1992 كانت له اتصالات واسعة مع قيادات تنظيم "الجماعة الإسلامية" في محاولة لحقن الدماء، ونجح فعلاً في إعلان خروج عدد من "الجماعة" عنها ونبذهم للفكر الإرهابي ومنهم القيادي خالد سعد عبد المالك "أمير" التنظيم في ديروط آنذاك. ثلاثة أجنحة يتكوّم تنظيم "الجماعة الإسلامية" في اسيوط من ثلاثة أجنحة: الجناح العسكري، وجناحا الدعوة والتربية. وظهر الجناح العسكري في مطلع التسعينات عقب مقتل الدكتور علاء محيي الدين عاشور، الناطق باسم "الجماعة الإسلامية" في القاهرة، في آب اغسطس 1990. وتم تكوين الجناح العسكري في اسيوط في كانون الثاني يناير العام 1990. وقام عدد من أعضاء هذا الجناح بمحاولة اغتيال وزير الداخلية اللواء زكي بدر آنذاك، وتم إحباط العملية وضبط مرتكبيها. مع مرور الوقت وتفاقم عمليات العنف والقبض على قيادات "الجماعة" في اسيوط، استقل الجناح العسكري وأصبح قادته يصدرون الفتاوى ويقومون بتنفيذها من دون التشاور مع جناح الدعوة. وأدى ذلك الى حدوث "إنقلاب عسكري" داخل "الجماعة الإسلامية" في اسيوط منذ العام 1992، فأصبح "العسكر" هم الذين يتولون الإمارة ويصدرون التعليمات ويقومون بتنفيذها. بل أصبح للجناح العسكري جهاز إعلامي مستقل يقوم بإصدار بيانات عن عمليات "الجماعة" في اسيوط ويحيط جناح الدعوة سراً بالعملية لتقديم المبررات لها بعد أن يكون تم الإعلان عنها، وبعدها اصبحت المواجهة علنية بين الجناح العسكري ورجال الأمن. ضرب السياحة كان تنظيم "الجماعة الإسلامية" في اسيوط أول من بدأ استهداف السياحة، فشهدت المحافظة ست عمليات، أهمها الحادث الثاني في 21 من شهر تشرين الأول أكتوبر 1992 عندما اطلق مسلحون الرصاص على باص سياحي في ديروط، ما أدى لمقتل السائحة البريطانية شارون هيل وإصابة آخرين. كما شهدت المحافظة 5 عمليات أخرى ضد السياحة، منها ثلاث عمليات ضد باصات، وإطلاق الرصاص على باخرتين سياحيتين، ولم تقع خسائر في الأرواح أو إصابات في الحوادث الخمسة باستثناء الثاني الذي قتلت فيه السيدة البريطانية. ولم تستمر المعركة ضد السياحة طويلاً في اسيوط، إذ شهد أيلول سبتمبر 1993 حادثين ضد البواخر السياحية لم تسفر عن وقوع مصابين أو ضحايا أو حتى حدوث ضرر لهما في الوقت الذي توقفت فيه العمليات ضد الباصات السياحية بسبب تكثيف الحملات وزيادة الإجراءات الأمنية. ومن بين ما اسفر عنه ذلك مقتل القيادي أحمد زكي الشريف في معركة حي فريال في اسيوط في آذار مارس 1993. وكان الشريف يعتبر المسؤول الأول عن عمليات ضرب السياحة في اسيوط، إذ توقفت بعد مقتله تماماً. وتمت العمليات التي وقعت ضد السياحة بإطلاق الرصاص من بنادق آلية من الجانب الغربي من النيل من مسافة تتراوح ما بين 150 - 300 متر وهو الحد الأقصى المؤثر للأسلحة. ولما كان طول النيل في اسيوط 120 كيلو متراً يمر عبر 9 مراكز إدارية منها 4 في الناحية الشرقية، وهي أبنوب والفتح وساحل سليم والبداري، و5 على الجانب الغربي هي ديروط ومنفلوط والقوصية واسيوط وابو تيج، كان من الصعب حماية البواخر والباصات في هذه المساحات الشاسعة. وتؤكد الدراسات أن ظاهرة الإرهاب في اسيوط هي حركة اجتماعية وسياسية تتخذ من الإسلام واجهة لها. وبرز فيها العديد من المفكرين لحركة الإسلام السياسي على رغم بعدها عن القاهرة مسافة 375 كيلو متراً جنوب العاصمة مثل سيد قطب وشكري مصطفى، وكانت دائماً تنطلق منها الشرارة الأولى للإرهاب، إذ انفجر في آيار مايو 1992 في اسيوط وامتد جنوباً الى سوهاج وقنا واسوان، وشمالاً الى المنيا وبني سويف والفيوم والجيزة والقاهرة. يقول استاذ الاقتصاد في كلية التجارة في جامعة اسيوط الدكتور محمد ابراهيم منصور، في دراسة له، إن نصيب الفرد في اسيوط من الاستثمارات الإجمالية المخصصة للمحافظة يقل عن المتوسط القومي العام للفرد في مصر بنسبة 130 في المئة. وإذا كان عدد سكان اسيوط حالياً 7،4 في المئة من إجمالي سكان مصر، فإن حصة المحافظة من الاستثمارات القومية لا تتجاوز 2 في المئة فقط وهو ما بدأت تفطن إليه الحكومة في السنوات الأخيرة حين بدأت في زيادة النسبة للقضاء على الإرهاب تماماً. ويقول الدكتور منصور: إن نصيب الفرد من الاستثمارات الزراعية 17/1 من المتوسط القومي العام أيضاً، اذ يبلغ في اسيوط 87،1 جنيه للفرد، بينما في أي مكان آخر في مصر 07،32 جنيه. ولم تتجاوز نسبة الناتج الصناعي في اسيوط 4،0 في المئة، وتحتل المركز قبل الأخير بين محافظات مصر في الناتج الصناعي القومي، وكذلك في مجال المواصلات يحصل الفرد في اسيوط على ثُمن نصيب الفرد في أي مكان آخر من الاستثمارات في قطاع المواصلات، وثُلث نصيب الفرد في مجال الاسكان. وكذلك يصل دخل الفرد في اسيوط الى 670 جنيهاً سنوياً، بينما في محافظات أخرى في مصر يصل الى 990 جنيهاً. ملف الإرهاب إذا فتحنا ملف الإرهاب في اسيوط خلال التسعينات نجد أن الأحداث تصاعدت، وكانت البداية الحقيقية لها في ديروط شمال اسيوط وتحديداً في قريتي منشية ناصر وصنبو، بخلاف بين عائلتين مسيحية ومسلمة أسفر عن مقتل واحد من الأولى واثنين من الثانية في 9 آذار مارس 1992. وسبب تلك المعركة ثأر قديم تمت تسويته بالصلح، لكن الخلافات ظلت مستمرة بين العائلتين. وكان ذلك بداية لتفجر الأحداث يوم 4 آيار مايو 1992، حين جرت معركة بين المسلمين والأقباط أسفرت عن مقتل 12 مسيحياً ومسلماً، وكشف الحادث عن مدى قوة "الجماعة الإسلامية" في اسيوط، اذ تم التعامل مع الحادث على أنه من أعمال العنف والفتنة الطائفية، وارتفع عدد الضحايا في اليوم التالي الى 15 قتيلاً بعد وفاة أحد المصابين في المستشفى والعثور على أحد أعضاء "الجماعة الإسلامية" غريقاً في ترعة الإبراهيمية أثناء محاولته الفرار. وظهر للمرة الأولى اسم القيادي جمال فرغلي هريدي الذي قاد المذبحة موقوف حالياً كأحد قيادات التنظيم في اسيوط. وجرى أول اشتباك بين الشرطة واعضاء "الجماعة" يوم الاثنين 1 حزيران يونيو 1992 في قرية صنبو في ديروط ما أدى الى مقتل أحد أعضاء "الجماعة" واصابة طفلة. وفي 19 حزيران 1992 ازداد اشتعال العنف في اسيوط، إذ حاول أعضاء الجماعة إقامة ندوة في مسجد "الرضوان" في قرية صنبو، لكن الشرطة تدخلت ووقعت معركة قتل على أثرها الشيخ عرفة درويش "أمير" الجماعة في القرية نفسها وكان يعتبر الرجل الثاني في "الجماعة الإسلامية" بعد الدكتور عمر عبدالرحمن، مرشدها الروحي، ولذلك قام أعضاء الجماعة بحرق 75 منزلاً ودكاناً، وصيدلية واحدة رداً على مقتل درويش. وفي يوم الأحد 23 آب اغسطس عام 1992 لقي 7 من أعضاء "الجماعة الإسلامية" مصرعهم في مواجهة مع الشرطة، حين كانوا بإحدى الشقق في منطقة منقباد في اسيوط، وهم محمود محمد الصغير ومصطفى حسن عبدالراضي وخالد حسن ملظم واحمد هاشم عبدالرحمن ومصطفى عليوة محمد ومحمد أحمد مختار ومصطفى رمزي أبو زيد. وفي يوم الثلثاء 6 تشرين الأول أكتوبر 1992 انفجرت عبوة ناسفة داخل قطار في ديروط ما أدى لمقتل 4 وإصابة 9 وقتل الجاني في الحادث، وكان أول انفجار لبدء عمليات العنف في مصر باستخدام تفجير العبوات الناسفة والذي بدأ في اسيوط في ذلك الوقت، ثم ألقى مجهول عبوة ناسفة على سيارة شرطة يوم الاثنين 9 تشرين الثاني نوفمبر 1992 في ديروط ما أدى لإصابة جندي يدعى شعبان عويس أحمد واحد المواطنين، وكانت هذه أيضاً بداية استخدام العبوات الناسفة في عمليات العنف في مصر بعد ذلك. وفي يوم الأربعاء 3 آذار مارس 1993 كان اغتيال أول ضابط شرطة هو المقدم مهران عبدالرحيم رئيس مكتب مباحث أمن الدولة في ديروط وابنه محمد 5 سنوات وكان ذلك إيذاناً أيضاً بمزيد من تفجر الأوضاع، خصوصاً أن الحادث وقع في قرية الدوير بالبداري، ما أكد وجود تخطيط واتصال بين أعضاء الجماعة في كل مدن وقرى اسيوط. وفي يوم الاثنين 15 آذار 1993 كانت التجربة الأولى للاستعانة بطائرتي هليوكوبتر في تمشيط الزراعات بالبداري لكن لم يتم القبض على أي عناصر "الطائرات تابعة للقوات المسلحة". وفي يوم الأربعاء 19 آذار 1993 أكبر مواجهة بين الشرطة وأعضاء الجماعة اسفرت عن مقتل 9 من قيادات الجماعة و3 من رجال الشرطة بحي فريال في اسيوط. وفي يوم الأحد 11 نيسان أبريل 1993 وقع مقتل اللواء محمد عبداللطيف الشيمي مساعد مدير أمن أسيوط في عملية إرهابية في مدينة أبو تيج، كما قتل حارسه وسائقه الخاص. وتشير التقارير الى أن أعمال العنف في اسيوط حصدت خلال التسعينات مئات الأشخاص من رجال الأمن والأهالي وأعضاء "الجماعة الإسلامية"، إذ قتل 60 من رجال الشرطة ما بين ضباط وجنود وأصيب 55 آخرون، كما قتل 50 من الأهالي وأصيب 65، وقتل 50 من "الجماعة الإسلامية" واصيب 15 آخرون. وهو ما أدى في النهاية الى القبض على قيادات التنظيم وأعضائه، ووقف عمليات العنف تماماً.