لم تبدأ المعركة "الشاملة والحاسمة" بانتهاء الهدنة هذا الشهر، كما كان يعتقد البعض، وربما لن تبدأ، ليس لأن المتحاربين في البوسنة راغبون في السلام، ولكن لأن ليس بوسعهم ذلك. فالجيش البوسني الذي نجح في تكوين نفسه بنفسه، وإدارة معظم مصانع السلاح في بلاده والتي تصل الى أربعين في المئة من مجموع كل المنشآت العسكرية الصناعية في كل يوغوسلافيا السابقة، ما زالت تنقصه الأسلحة الثقيلة والذخائر التي تكفي لادارة معركة شاملة تبلغ خطوط مواجهتها 1400 كيلومتر. وعلى الجانب الآخر فإن الصرب وعلى رغم ترسانتهم من العتاد والذخيرة يعانون من نقص حاد في المشاة وفي تدني روحهم المعنوية، بعد أن طالت المعركة أكثر مما كانت تعد به قيادتهم قبل ثلاث سنوات، وأصبح من المشكوك فيه امكان تحقيق "الحلم القومي" في "صربيا واحدة" تضم كل الصرب. والمشاة هم بطبيعة الحال الذين يتقدمون ويبسطون سيطرتهم على المواقع ويحسمون المعركة في النهاية، خصوصاً ان سيل المتطوعين الصرب الذي كان يتدفق من الراديكاليين والمتطرفين توقف. واستبدل البوسنيون مبدأ المواجهة الشاملة والتقدم لتحرير المدن المحتلة باستراتيجية حرب الاستنزاف التي تعمد الى إشعال مناطق متعددة ومتباعدة من خطوط المواجهة، الأمر الذي يربك القيادة الصربية ويحول دون معرفتها في أي منطقة يمكن أن يبدأ الهجوم. ويعتقد العسكريون البوسنيون بأنهم يعيشون مرحلة تهيئة الأرض للمعركة الفاصلة باتباعهم سياسة الخطوة خطوة، أو مبدأ قضم الأراضي، حيث تعمد القيادة البوسنية الى شن هجمات محددة على مواقع استراتيجية مهمة تكون في الغالب مرتفعات استراتيجية أو طرق امدادات، وتلجأ الى عنصر المفاجأة حيث تشن هجماتها في أوقات غير مناسبة أو غير متوقعة، كما حدث في مرتفعات فيلاشيتش في وسط البوسنة، أو مرتفعات ترسكافيتسا جنوب ساراييفو والتي كانت درجات الحرارة فيها قد هبطت الى ثلاثين درجة تحت الصفر. وروى العقيد شريف باتكوفيتش قائد الكتيبة السابعة التي شاركت في الهجوم ل "الوسط" كيف ان الجنود البوسنيين كانوا يربطون أنفسهم في حبل طويل أثناء تقدمهم خوفاً من فقدان الطريق، وكيف ان الثلوج كانت تتساقط بكثافة تحول دون الرؤية على بعد امتار قليلة، "ولكن مع توقف الثلوج فوجئ الجنود الصرب المختبئون في مواقعهم بأننا أصبحنا على بعد أمتار قليلة منهم، وقد شلتهم المفاجأة وكانت سبباً كبيراً من أسباب النصر". وقال الجنرال عارف باشليتش نائب وزير الدفاع البوسني ل "الوسط" ان معظم الجنود البوسنيين الذين سقطوا في معركة فيلاشيتش لم يقتلهم الجنود الصرب ولكن تجمدوا من البرد، وهاجم باشليتش بشدة الذين ينتقدون عمليات الجيش البوسني الهجومية الأخيرة نافياً سقوط اعداد كبيرة من الجنود البوسنيين كما يشاع، مضيفاً أنه من المستحيل في أي معركة تجنب وقوع خسائر في الأرواح. جيش نظامي وفي الواقع شهد الجيش البوسني تغييرات مهمة فتحول خلال ثلاث سنوات من مجموعات من الفدائيين تدافع عن بعض المدن أو القرى الى جيش نظامي يتمتع بدرجة كبيرة من الانضباط، خصوصاً بعدما تم التخلص من بعض الميليشيات الخاصة، وخلال الجولة التي قامت بها "الوسط" في مناطق شمال ووسط البلاد بدت هذه التغييرات واضحة، فالمقاتل البوسني الذي كان يحارب من دون زيه العسكري أصبح الآن مجهزاً بطريقة مناسبة، كما بات واضحاً ان لدى الجيش البوسني كميات لا بأس بها من الأسلحة الثقيلة والمدفعية التي غنمها من الميليشيات الصربية والكرواتية خلال سنوات الحرب، كما انتجت الحرب كوادر عسكرية أنهت تدريباتها وتحصيلها العلمي في مراكز التدريب العسكري التي انتشرت في مناطق عدة، وهيأ مشروع الدولة الفيديرالية بين المسلمين والكروات الفرصة أمام المسلمين لاستيراد كميات كبيرة من السلاح عبر الطرق التي يتحكم فيها الكروات والذين يحصلون بدورهم على عمولات مرتفعة للسماح بمرور هذه الصفقات. ويتردد ان طيارين مرتزقة يعملون على طائرات خفيفة ذات محرك واحد يساهمون في نقل السلاح من خارج البلاد. على الصعيد الاجتماعي نشطت هيئات رعاية أسر الشهداء والجرحى والمعاقين للحفاظ على الروح المعنوية للجنود البوسنيين الذين يعتقدون بأنه لا مفر أمامهم سوى الحرب على رغم ويلاتها. وقال ضابط في منطقة برتشكو مشيراً الى مقاتل يدعى ميرزا: "لقد جرح هذا الجندي مرتين واستئصلت اجزاء من معدته لكنه في كل مرة يصر على العودة الى الخط الأول للقتال، وهو ليس صورة فردية، فجرائم الدمار والاغتصاب التي لحقت بالبلاد تحولت الى قوة دافعة لدى المقاتلين البوسنيين". القرار السياسي وفي منطقة برتشكو نفسها قال منصور جاكيتش قائد القوات البوسنية هناك ان جميع الظروف باتت مهيأة تماماً لوحداته العسكرية للقيام بعملية يتوقع أن تكون قريبة لقطع الممر الشمالي الذي تمر عبره كل امدادات صربيا الى ميليشيات صرب البوسنة وميليشيات صرب كرواتيا، وقال انه في انتظار الفرصة المواتية والقرار السياسي، ويبدو أن الميليشيات الصربية ارادت ان تجهض هذا الهجوم بهجوم آخر بدأ بعد أيام من زيارة "الوسط" لهذه المنطقة، غير أن معلومات الجيش البوسني تفيد بصد الهجوم وتحقيق تقدم في الهجوم المعاكس. وحسب المعلومات التي حصلت عليها "الوسط" فإن القيادة العسكرية البوسنية تتهيأ لعملية قريبة لفك الحصار عند ساراييفو، وبدا ذلك واضحاً من تصريحات القيادات السياسية، خصوصاً الرئيس البوسني علي عزت بيغوفيتش الذي انتقد صمت القوات الدولية على قصف العاصمة، وهدد بأن تقوم قواته بتطهير المنطقة المحيطة بساراييفو من الأسلحة الثقيلة وقال الجنرال مصطفى خيرالله عضو هيئة الأركان في الجيش البوسني ل "الوسط" ان الظروف العسكرية مهيأة تماماً لهذه العملية، "ويمكنني القول اننا نتمتع بالقدرة النوعية للقيام بعملية عسكرية لفك الحصار عند ساراييفو، لكن ذلك يعتمد على القرار السياسي وعلى القوات الدولية التي ستجبرنا في النهاية على القيام بهذه المهمة". وسألت "الوسط" نائب الرئيس البوسني أيوب غانتش عن هذا الأمر، فاكتفى بالقول: "ليس بمقدورنا ان ننتظر شتاء رابعاً تحت الحصار، خصوصاً بعد أن أغلق مطار ساراييفو منفذنا الوحيد الى العالم". وحسب تصريحات الناطق باسم المفوضية العليا للاجئين فإن مجاعة حقيقية تهدد سكان العاصمة بعد أن أجبر الصرب القوات الدولية على اغلاق مطارها قبل خمسة أسابيع رافضين اعطاء أي ضمانات لسلامة الطائرات التي تنقل المواد الاغاثية. عملية كرواتية أما على الصعيد الكرواتي فإن القيادة السياسية في زغرب تقف عاجزة عن اتخاذ قرار المواجهة الشاملة مع الصرب لاعتبارات عدة، لكنها تستطيع المغامرة بعمليات عسكرية محدودة، كالتي بدأت في مطلع الشهر الجاري ونجحت فيه القوات الكرواتية في تحرير منطقة غرب سلافونيا وفتح الطريق الرئيسي الذي يربط العاصمة بشرق البلاد. واختارت القيادة الكرواتية موعدها بدقة شديدة، ففيما كانت الأنظار تتجه الى البوسنة عقب نهاية الهدنة في 30 الشهر الماضي، تمت العملية الكرواتية بسرعة ونجاح كبيرين من دون أن تتدخل صربيا، الأمر الذي أثار اشاعات عن وجود اتفاق سري بين الرئيسين الصربي والكرواتي في شأن هذه العملية المحدودة، خصوصاً أن السكان الصرب الذين غادروا المناطق التي حررها الجيش الكرواتي تم نقلهم بواسطة القوات الدولية الى الأراضي البوسنية المحتلة، الأمر الذي أزعج كثيراً القيادة البوسنية التي سارعت الى توجيه رسائل احتجاج الى الأممالمتحدة لم تلق كالعادة أي رد فعل. الأمر الوحيد الذي أثر ايجاباً على الأوضاع العسكرية في البوسنة نتيجة الحرب الكرواتية هو ما ذكره ل "الوسط" الجنرال يوفان ديفياك نائب القائد العام للجيش البوسني، من أن المعارك في منطقة بيهاتش هدأت بعد أن اضطرت ميليشيات صرب كرواتيا الى الانسحاب الى الأراضي التي تحتلها في كرواتيا وهي التي كانت تقدم عوناً فعالاً الى ميليشيات صرب البوسنة في منطقة بيهاتش. وحتى تتهيأ كل العوامل لأن يخبو تماماً خيار السلام وتفرض الحرب نفسها سنوات أخرى على المنطقة، عاد الحديث عن سحب القوات الدولية من البوسنة بعد تعرضها للاعتداءات الصربية ليفتح فصلاً جديداً من الحرب يتوقع أن يكون أشمل وأعنف.