تحديات "الصناعة والتعدين" على طاولة الخريف بهيئة الصحفيين السعوديين بمكة اليوم    ارتفاع أسعار الذهب إلى 2719.19 دولارا للأوقية    القيادة تهنئ رئيس جمهورية سورينام بذكرى استقلال بلاده    استمرار هطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    مدينة الأمير عبدالله بن جلوي الرياضية تستضيف ختام منافسات الدرفت    البريد السعودي يصدر طابعاً بريدياً بمناسبة اليوم العالمي للطفل    أمير الشرقية يفتتح أعمال مؤتمر الفن الإسلامي بنسخته الثانية في مركز "إثراء"    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    الاتحاد يخطف صدارة «روشن»    دربي حائل يسرق الأضواء.. والفيصلي يقابل الصفا    تهديدات قانونية تلاحق نتنياهو.. ومحاكمة في قضية الرشوة    لبنان: اشتداد قصف الجنوب.. وتسارع العملية البرية في الخيام    مذكرة تفاهم بين إمارة القصيم ومحمية تركي بن عبدالله    بركان دوكونو في إندونيسيا يقذف عمود رماد يصل إلى 3000 متر    «التراث» تفتتح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض    المنتدى السعودي للإعلام يفتح باب التسجيل في جائزته السنوية    جامعة الملك عبدالعزيز تحقق المركز ال32 عالميًا    «العقاري»: إيداع 1.19 مليار ريال لمستفيدي «سكني» في نوفمبر    16.8 % ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية في الربع الثالث    «التعليم»: السماح بنقل معلمي العقود المكانية داخل نطاق الإدارات    لندن تتصدر حوادث سرقات الهواتف المحمولة عالمياً    صفعة لتاريخ عمرو دياب.. معجب في مواجهة الهضبة «من يكسب» ؟    «الإحصاء» قرعت جرس الإنذار: 40 % ارتفاع معدلات السمنة.. و«طبيب أسرة» يحذر    5 فوائد رائعة لشاي الماتشا    في الجولة الخامسة من دوري أبطال آسيا للنخبة.. الأهلي ضيفًا على العين.. والنصر على الغرافة    في الجولة 11 من دوري يلو.. ديربي ساخن في حائل.. والنجمة يواجه الحزم    السجل العقاري: بدء تسجيل 227,778 قطعة في الشرقية    السودان.. في زمن النسيان    لبنان.. بين فيليب حبيب وهوكشتاين !    مصر: انهيار صخري ينهي حياة 5 بمحافظة الوادي الجديد    «واتساب» يغير طريقة إظهار شريط التفاعلات    اقتراحات لمرور جدة حول حالات الازدحام الخانقة    أمير نجران: القيادة حريصة على الاهتمام بقطاع التعليم    أمر ملكي بتعيين 125 عضواً بمرتبة مُلازم بالنيابة العامة    ترحيب عربي بقرار المحكمة الجنائية الصادر باعتقال نتنياهو    تحت رعاية سمو ولي العهد .. المملكة تستضيف مؤتمر الاستثمار العالمي.. تسخير التحول الرقمي والنمو المستدام بتوسيع فرص الاستثمار    محافظ جدة يطلع على خطط خدمة الاستثمار التعديني    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    نهاية الطفرة الصينية !    أسبوع الحرف اليدوية    مايك تايسون، وشجاعة السعي وراء ما تؤمن بأنه صحيح    ال«ثريد» من جديد    الأهل والأقارب أولاً    اطلعوا على مراحل طباعة المصحف الشريف.. ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة يزورون المواقع التاريخية    أمير المنطقة الشرقية يرعى ملتقى "الممارسات الوقفية 2024"    «كل البيعة خربانة»    مشاكل اللاعب السعودي!!    انطلق بلا قيود    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين ونيابة عنه.. أمير الرياض يفتتح فعاليات المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة    مسؤولة سويدية تخاف من الموز    السلفية والسلفية المعاصرة    دمتم مترابطين مثل الجسد الواحد    شفاعة ⁧‫أمير الحدود الشمالية‬⁩ تُثمر عن عتق رقبة مواطن من القصاص    أمير الرياض يكلف الغملاس محافظا للمزاحمية    اكثر من مائة رياضيا يتنافسون في بطولة بادل بجازان    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الوسط" تزور عاصمة تعيش خارج العصر ... تكاد تلفظ أنفاسها . نداء أخير من ساراييفو : طوق الحصار يضيق الخناق ... وصمت دولي مشين !
نشر في الحياة يوم 16 - 08 - 1993

تواجه ساراييفو اياماً عصيبة بعدما احكمت قوات صرب البوسنة الطوق عليها، عندما احتلت جبلي ايغمان وبيلاشنيتسا الاستراتيجيين المطلين على العاصمة المحاصرة منذ 16 شهراً، وقطعت طريق الامداد العسكري الوحيد اليها. بعد تلويح الولايات المتحدة وحليفاتها الاطلسيات باحتمال شن غارات جوية لفك الحصار عن المدينة واعلان الرئيس البوسني المسلم علي عزت بيكوفيتش مقاطعته محادثات السلام في جنيف وافق زعماء الصرب على البدء بسحب قواتهم من قمتي الجبلين وتسليمهما الى قوة الحماية الدولية.
لكن مصير ساراييفو وهي على ابواب الشتاء سيبقى معلقاً في انتظار رد حاسم من المجتمع الدولي والغرب على مناورات الصرب واصرارهم على مواصلة سياسة الاحتلال و"التطهير العرقي".
مندوب "الوسط" زار المدنية في الأيام الاخيرة بعدما تفاقمت محنتها، وعاد بصور مأسوية.
"ان خيرة ابنائنا الشجعان والمثقفين والوطنيين غيبتهم المدافع الصربية تحت الارض، فماذا يجدي الحديث الآن عن السلام؟"
بهذه العبارة استقبل مواطن بوسني "الوسط" عندما دخلت ساراييفو مجدداً، بعدما تقدمت القوات الصربية الى جبلي ايغمان وبيلاشنيتسا الاستراتيجيين المطلين على جنوب غربي المدينة الصامدة الصابرة.
شيء ما تغير في نفوس الناس، لا يمكن رصده او تحديده، ولكن في الامكان رؤية اثاره على وجوههم المتعبة وأجسادهم الهزيلة... وفي آرائهم وأفكارهم. وسرعان ما تكتشف ان العبارة التي وردت لم تكن كلمات عابرة انفعالية بقدر ما هي اشارة الى وجود تيار قوي يعارض وبشدة اي افكار تدعو الى التقسيم حسب خطة اللورد اوين اتقاء لشر استمرار الحرب، "فالحرب وقعت والضحايا سقطت ولا يمكن ان يحدث أسوأ مما حدث، واذا كانت الحرب تعني هلاكنا اليوم فان سلام زعيم الصرب رادوفان كاراجيتش يعني هلاكنا غداً"، كما قال بوسني لپ"الوسط".
ويشمل هذا التيار اولئك الذين فقدوا اقرباء لهم في الحرب، او ذبح ابناؤهم او تعرضت نساؤهم للاغتصاب، او سجنوا في معسكرات الاعتقال وشردوا من ديارهم، تضاف اليهم فصائل نامية من المقاتلين الشبان الذين يحملون افكاراً عقائدية "عن حرب اثارتها وتذكيها البواعث الدينية، والا لماذا فعلوا بنا ما لم يفعلوه مع الكروات؟ ولماذا بقيت أوروبا صامتة هذا الصمت المشين؟..." قال احدهم.
رفض بوسني للتقسيم
ويمكن اعتبار ايوب غانيتش نائب الرئيس البوسني عضو مجلس الرئاسة عنصراً مهماً في هذا التيار، وهو يعلن دوماً رفضه اي صورة من صور التقسيم، ومما يقول: "بقبول كونفيديرالية البوسنة - الهرسك يصبح المسلمون محاصرين في منطقة صغيرة توطئة للقضاء عليهم لاحقاً قضاء نهائياً. ان فيديرالية البوسنة تمثل الحد الادنى الذي لا يمكن ان نتجاوزه ولا نستطيع تقديم تنازلات اكثر، وهو الحل الوحيد الذي يمكننا الموافقة عليه..."، وذلك على رغم اعترافه بالاضطرار الى المشاركة في محادثات جنيف في شأن التقسيم.
ويؤيده في ذلك تيار من المثقفين مثل كمال كورسباهيتشي رئيس تحرير جريدة "اسلوبوجيينا" اليومية الذي قال لپ"الوسط" ان كاراجيتش لن يتنازل ابداً عن الجمهورية الصربية في البوسنة، واذا وافق على فكرة الفيديرالية فهذا معناه ان الاوضاع تسير الى التقسيم. واعتبر ان خلافات شديدة ستقع بين المسلمين في حال الموافقة على التقسيم، مضيفاً: "سنستمر في معارضة هذا المشروع اياً كان موقف الحكومة ومجلس الرئاسة".
الا ان وزيراً بوسنياً رفض كشف هويته قال لپ"الوسط" ان قبول مجلس رئاسة البوسنة - الهرسك اولاً لشكل الفيديرالية ثم اضطراره الى التفاوض على صيغة "الاتحاد" الذي يعني فعلياً التقسيم مردهما الى ان "الغرب يضغط علينا بقوة ويهددنا بسوء العاقبة في حال الرفض، ثم ليس لنا الا خيار الحرب او خيار الموافقة على التقسيم، وفي الحالتين فان خطراً كبيراً يهدد مستقبل المسلمين في المنطقة، وسينحصر الوجود الاسلامي في المنطقة مستقبلاً بالشكل الثقافي او الديني وليس السياسي".
التحول الى المعركة الديبلوماسية
في مواجهة ذلك يرى فريق آخر ان على المسلمين القبول بالامر الواقع والانتقال الى المعركة الديبلوماسية ومحاولة الحصول على اقصى حد ممكن من المكاسب عبر الموافقة على الكونفيديرالية، وان المرحلة المقبلة يجب ان تتجه الى الحفاظ على من بقي من المسلمين حياً "يجب ألا تخدعنا النجاحات المرحلية التي يحققها الجيش البوسني في وسط البوسنة" امام الكروات.
وقال مفيد محيا مدير هيئة الاذاعة والتلفزيون واحدى الشخصيات المقربة من الرئيس علي عزت بيكوفيتش ان "لا مجال للسؤال عن البوسنة التي نريدها، لكن السؤال الآن عما في وسعنا ان نحققه في الظروف الحالية". وأضاف لپ"الوسط" ان القيادة السياسية للبوسنة - الهرسك وجدت نفسها وحيدة، فالمجموعة الغربية تتبنى سياسة الاعتراف بالامر الواقع "فيما البلدان الاسلامية التي كنا نتكل عليها كثيراً يبدو ان معظمها تحت السيطرة التامة للغرب". ورأى "ان الاستمرار في الحرب يهدد بفناء المسلمين في هذه المنطقة نهائياً، وأعتقد بأن الوقت لا يعمل لمصلحتنا فنحن نعاني من قلة الذخيرة والماء والطعام، ووفق قوانين الطبيعة فنحن الى فناء وسنفقد روح مقاومتنا".
خيار البندقية
الا ان الزيارة التي قامت بها "الوسط" لخط النار الأول عند منطقة غورني بيوسكو الواقعة شمال ساراييفو والتي تتمركز فيها الفرقة التاسعة للجيش البوسني في مواجهة احد مراكز المدفعية الصربية الحصينة التي تصب حممها على المدينة دلت على غير ذلك. ذلك ان روح المقاومة عند المقاتلين البوسنيين تتصاعد على رغم سوء الاحوال وقلة الامكانات وشح الغذاء والذخيرة.
كان الجنود يرتدون ملابسهم الرثة الا ان وجوههم كانت تحمل فيضاً من الحيوية والتصميم على القتال: "نحن نرفض التقسيم ونرفض الكونفيديرالية، ونرفض ان نلقي السلاح فليس هناك ما يمكن ان نخسره بعد" قال احدهم لپ"الوسط" التي التقت في هذه المنطقة الجبلية مجموعة من المقاتلين الذين تتفاوت اعمارهم بين شباب في الثامنة عشرة وشيوخ اقتربوا من الخمسين يحملون اسلحة يعود بعضها الى عهود خلت ويختبئون في خنادقهم المتواضعة من سيل من المطر.
وتضم المجموعة جنوداً صرباً وكرواتيين يدافعون عن الوطن الذي جمعهم فيه شركاء وجيراناً. ويمثل اعضاء المجموعة تيارات سياسية مختلفة التقوا جميعاً على حتمية خيار البندقية، وهي اللغة التي لا يفهم الصرب غيرها.
وأي زائر لخطوط المواجهة البوسنية مع الصرب يخرج بنتيجة واحدة هي ان الحسابات العلمية ليس لها الا ان تؤكد ان اسقاط ساراييفو امر تستطيعه الميليشيات الصربية التي تتزود ترسانة ضخمة من الاسلحة، الا ان سقوط المدينة لم يحصل، والمحاولات الصربية على مدى ستة عشر شهراً باءت بالفشل!
ميزان القوى
وتفيد التقديرات العسكرية ان القوة الصربية فوق اراضي البوسنة - الهرسك تتشكل من حوالي 130 الف جندي ومتطوع، وحوالى 300 دبابة واكثر من 200 عربة مدرعة ونحو 500 - 600 مدفع. اما الميليشيات الكرواتية الانفصالية والمعروفة باسم "مجلس الدفاع الكرواتي" التي نقضت اخيراً تحالفها مع المسلمين لتشارك القوات الصربية في عمليات دك المدن البوسنية فتتألف من حوالي 40 الف مقاتل، وتملك 40 دبابة وعدداً من الآليات والطائرات المروحية.
الا ان هذه الارقام لا تشير الى القوة الحقيقية على الارض، فالحدود المفتوحة بين صرب البوسنة وصربيا من جهة وكروات البوسنة وكرواتيا من جهة اخرى تمنح الفرصة للطرفين للتزود المباشر باي حاجات من العتاد او البشر يمتلكها الجيشان الصربي او الكرواتي.
وفي مواجهة هاتين القوتين، ومع بدء الهجمات العدوانية قبل 16 شهراً، بدأ المسلمون بتشكيل جيش البوسنة - الهرسك وفق معطيات متواضعة جداً، فيما حال المجتمع الدولي دون امتلاكهم حتى الاسلحة الدفاعية اللازمة لمقاومة العدوان. ولأن الارادة تصنع المستحيل استعان البوسنيون بالبنادق التي يعود بعضها الى الحرب العالمية الثانية، وأخرجوا بضعة مدافع كانت تضمها المتاحف الحربية لتعتلي قمم الجبال.
وفي ظل نقص السلاح والذخائر وحتى الطعام يعتبر المراقبون العسكريون ان صمود الجيش البوسني على محاور عدة حتى الآن انجازاً عسكرياً ملحوظاً. وتفيد المعلومات المتوافرة ان الجيش البوسني يضم 100 الف مقاتل وحوالى 60 دبابة و30 عربة مدرعة وعدداً لا بأس به من مدافع الهاون. كما ان المسلمين يتحكمون بنسبة كبيرة من المنشآت الحربية في البوسنة - الهرسك والتي تمثل 40 في المئة من مجموع المنشآت الحربية في كل يوغوسلافيا السابقة، لكنها تفتقر الى المواد الخام.
وأبلغ مصدر عسكري بوسني "الوسط" ان الجيش تمكن في الفترة الاخيرة غنم كميات كبيرة من السلاح خلال المعارك التي خاضها الى حد مكنه من تشكيل وحدات جديدة، ما ترك آثاراً ايجابية في تنظيم صفوف الجيش على رغم الحاجة الشديدة الى الاسلحة الثقيلة. وأضاف ان الوحدات البوسنية كانت تخوض احياناً معارك للحصول على السلاح وليس لتحرير الأراضي، "ولدينا الامكانات لتصنيع بعض الاسلحة الخفيفة والذخائر بكميات صغيرة، لكن الحظر المفروض على مواد التصنيع ونقص المواد الخام يحول دون زيادة الانتاج".
مدينة خارج العصر
تبدو الاوضاع الحياتية في ساراييفو في حال هي الاسوأ منذ اندلاع الحرب. وينتاب زائر المدينة شعور كأنه خارج حدود العصر، فكل شيء معطل او مدمر او مفقود. الكهرباء والمياه وخطوط الهاتف والوقود وكل ما يوفر حياة مدنية عادية. الا ان الناس، على رغم ذلك تكيفوا في صورة مدهشة مع الواقع اليومي الأليم.
ففي اسواق ساراييفو تجد تجارة رائجة هي بيع الاخشاب لاستخدامها في طهي الطعام اذا توافر. فيما يزرع الاهالي ما امكن زراعته في اقفاص خاصة او في الحدائق الصغيرة المواجهة لبوابات منازلهم، وهكذا حلت الطماطم والجرجير محل الزهور. اما ينابيع المياه او مراكز توزيع المياه في سيارات محافظة المدينة، فتقف امامها طوابير من عائلات بأكملها متسلحة بكل ما لديها من زجاجات وأوان فارغة لحمل اكبر قدر ممكن من المياه، فلا احد يعلم ماذا يمكن ان يحدث غداً. وفي هذه الطوابير ذاتها هلكت اسر وعائلات وهي تقف في انتظار دورها عندما تسقط قنبلة صربية لتوقع مذبحة.
وزاد من سوء الاحوال اقدام الميليشيات الصربية على منع دخول شاحنات الوقود الى المدينة، وهو يستخدم في ادارة المولدات الكهربائية اللازمة لغرف العمليات في المستشفيات.
وكذلك توقفت مفوضية اللاجئين، اثناء فترة زيارة "الوسط" ساراييفو عن توزيع مواد الاغاثة لنفادها من جهة ولقلة الوقود اللازم لشاحنات النقل لجلب المواد الغذائية من المطار من جهة اخرى.
وأصدرت وزارة الصحة بيانات تحذير من انتشار الامراض المعدية من جراء قلة المياه وتلوثها وانعدام الرعاية الصحية والمواد الطبية والادوية الواقية من امراض الصيف.
وسادت المستشفيات ومراكز العلاج حال من الخوف للنقص الشديد في المياه والطاقة، فضلاً عن نقص المواد الطبية. واذا كان اجراء العمليات الجراحية يتم احياناً على ضوء الشموع، فما الذي يمكن عمله للمرضى الذين تساعدهم آلات على الحياة مثل مرضى الكلي والرئة الاصطناعية والاوكسيجين؟
الاطفال يدفعون الثمن
واذا كان التاريخ يسجل ان الاطفال كانوا دائماً ضحايا الحروب، فان الاوضاع في البوسنة - الهرسك تبدو كأن الهدف الذي تتفق عليه اطراف عدة هو وأد جيل جديد يمكن ان يخلف آباءه وأجداده ويبقى مزروعاً في قلب اوروبا حاملاً هويته الاسلامية.
فالاحصاءات الاولية التي صدرت حتى الان عن الجهات البوسنية الرسمية وغير الرسمية تشير الى حقائق مخيفة. فهي تذكر مثلاً ان 25 في المئة من مجموع ما يزيد على 230 الف قتيل سقطوا في البوسنة - الهرسك حتى الآن هم من الاطفال، وان اكثر من 40 الف طفل اصابتهم القذائف الصربية بجروح، وأقعدت نسبة كبيرة منهم.
وعلى سبيل المثال، ففي ساراييفو وحدها قتل 3 آلاف طفل، ويعيش فيها الآن حوالي 80 الف طفل تعرض 40 في المئة منهم لرصاص القناصة الصرب.
اما في شرق البوسنة فمات جوعاً ما يزيد على الفي طفل غير اعداد اخرى لم تحص ماتت في الجبال الوعرة في فصل الشتاء وهي تحاول يائسة الفرار من السكين الصربي.
وقال الدكتور مصطفى غانيتش وزير الصحة البوسني لپ"الوسط" التي التقته في مكتبه في ساراييفو: "ان المعلومات التي لدينا مخيفة خصوصاً ان 80 في المئة من ضحايا هذه الحرب هم من المدنيين. وفي معلومات منظمة الصحة العالمية ان عدد القتلى حتى نهاية الشهر السادس من هذا العام يزيد على 230 الفاً. ومعلوماتنا تفيد ان هذا العدد اكثر من ذلك، فقد بلغ 250 الفاً استناداً الى احصاءات من بعض المناطق في البوسنة وليس على مستوى الجمهورية كلها. كما ان عدداً مماثلاً تعرض للاصابة بينهم 70 الفاً اصيبوا بعاهات دائمة ومنهم حوالى 4 آلاف فقدوا احد اطرافهم".
وأضاف الدكتور مصطفى: "ان الاطفال يشكلون 25 في المئة من الضحايا، وهي نسبة مرتفعة جداً نتيجة قصف العدو الاحياء السكنية والمرافق الحيوية مباشرة. وعلى سبيل المثال فان حوالى 40 في المئة من المؤسسات الصحية والمشافي دمرت. كما ان عدداً كبيراً من الاطباء والممرضات سقط ضحية هذا العدوان. وهناك عدد كبير من الاطباء قتل وهو يمارس واجبه في غرف العمليات، ولذلك نعاني الآن نقصاً في الكوادر الطبية، خصوصاً اذا ذكرنا ان عدداً كبيراً من الاطباء الصرب ترك مؤسساته الصحية وانضم الى الميليشيات الصربية.
ان معلوماتنا تفيد ان هناك 13975 طفلاً جريحاً في بعض المناطق التابعة لساراييفو والخاضعة للاحتلال الصربي".
معسكرات الاعتقال
ولم تقف مأساة الاطفال عند حد القتل والاصابة على ما فيها من شدة وفظاعة، فقد زج بالآلاف منهم من دون رحمة في معسكرات الاعتقال ليروا بأم اعينهم ما لا يمكن ان يستوعبه حتى آباؤهم.
وفقدت صغيرات حياتهن او اصبن بصدمة عصبية عندما تعرضن لجرائم الاغتصاب الهمجية التي طاولت حوالي خمسين الف شابة وأمرأة مسلمة. كما ان حالاً من الهلع تسود اولياء امور الاطفال الذين اخرجهم بعض المؤسسات في بداية الحرب الى اوروبا، وقد انقطعت الاتصالات بهم. ويتنقل هؤلاء الآباء بين مؤسسات الاغاثة الاوروبية بحثاً عن اي معلومة قد تساعد في الوصول الى عنوان اطفالهم.
وأصيب احد الآباء بصدمة عصبية عندما تلقى رسالة من ابنته البالغة من العمر اربعة عشر عاماً والعنوان الموجود على الرسالة يفيد انها ارسلت من مانيلا عاصمة الفيليبين. وتزامن ذلك مع شائعات تتردد عن نشاط شبكات المافيا في تجارة الاطفال والايقاع بحبائل المراهقين في الاعمال المنافية للآداب.
وأحجمت الامهات في ساراييفو عن الحمل خوفاً على مصير القادم المجهول، وارتفعت نسبة الاجهاض حتى ان عشر نساء يومياً يجهضن في ساراييفو، وانخفض عدد المواليد الذي كان مستشفاها الرئيسي تستقبله سنوياً من عشرة آلاف الى الفين.
وفي مستشفى كوسوفو التقت "الوسط" مجموعة من الاطفال الجرحى: كم هو مؤلم ان تتحول احلام الطفل عن لعبة جميلة الى طلب المساعدة لشراء قدم اصطناعية كما ذكر الطفل اديس آداميتش ابن الاعوام الستة.
ويتذكر الدكتور لوماس في قسم جراحة الاطفال فصل الشتاء الماضي، يقول: "كان قارصاً وتعرض مستشفانا للقصف اربع مرات، ولم تكن لدينا اي تدفئة في جو تصل درجة الحرارة فيه الى عشرين درجة تحت الصفر، والكهرباء مقطوعة، وكنا نهرع بالاطفال الجرحى والمصابين الى الملاجئ الباردة والمظلمة عندما يشتد القصف".
وأضاف: "ان اصعب يوم مررنا به كان ليلة 9 ايار مايو الماضي عندما حاولت القوات البوسنية فك الحصار عن ساراييفو فتعرضت المدينة لقصف عنيف وأجرينا في ذلك اليوم اكثر من ثمانين عملية جراحية. لا اتخيل اننا مقدمون على فصل شتاء... انني اتذكر اصابع الاطفال المتجمدة من البرد ونحن نحاول ان نغرس فيها الحقن الطبية"...
مأساة ساراييفو لا تنتهي، ومثلها كل المدن البوسنية. لكن المجتمع الدولي يبدو مصمماً على عدم سماع ندائها الاخير قبل ان تلفظ آخر انفاسها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.