في أيام النقاهة طالعتني الصحف بنبأ وفاة صديق عزيز ومثقف كبير هو لطف الله سليمان. لم أعاصر لطف الله أيام الحرب العالمية الساخنة، وأيام الغارات على القاهرة حين تحلّقت مجموعات صغيرة من المثقفين اليساريين هنا وهناك، في الأحياء الشعبية وأحياء القاهرة القديمة. كان معظم هؤلاء من أبناء الذوات وقراء اللغات والعارفين بالفنون الحديثة كالسوريالية والرمزية والتعبيرية، وكان من بينهم الفنان رمسيس يونان والروائي العبقري المنسي عادل كامل والسينمائي القدير كامل التلمساني والاديب المهاجر جورج حنين والاديب المهاجر أيضاً ألبير قصيري و... لطف الله سليمان. ولكني صاحبت لطف الله في الخمسينات وكان يملك مكتبة لبيع الكتب في شارع عبدالخالق ثروت في القاهرة، وداراً للنشر اسمها "دار النديم" كان شعارها الحصيرة ومصباح البترول الريفي. نشرت هذه الدار القصص الاولى للأستاذ لطفي الخولي ومؤلَّف محمد عودة البارز "الصين الشعبية"، كما تعاقدت معي على نشر اول مسرحية لي وهي "سقوط فرعون". غير أن الظروف شاءت غير ذلك، إذ أغلقت "دار النديم" بالضبة والمفتاح خلال الحملة على الشيوعيين عام 1959. تعرفت الى بائع الكتب لطف الله سليمان في الخمسينات وأنا في مطلع حياتي الفنية، ظمآن لمتابعة ما يجري في عالم المسرح في الغرب، فعششتُ كالطيور في مكتبته العامرة. وكان لطف الله يزودني قوائم الاصدارات المسرحية الانكليزية والاميركية والفرنسية، ثم يستورد ما يروق لي منها فيكون عندي بعد اسبوع او اثنين. هكذا كان له فضل مساعدتي على الاحاطة بهذا الفن، والاطلاع على الدراسات والنصوص المسرحية وهي ساخنة. وقد لعب لطف الله سليمان هذا الدور مع مئات المثقفين في كل المجالات، وساعدهم على الاتصال بدنيا ما بعد الحرب. ولما تعثر الاستيراد بسبب صعوبات تحويل العملة بعد حرب 1956، وجّهني لطف الله الى هيئة اليونسكو التي كانت قامت بإصدار "ولار اليونسكو" الذي يباع في كل بلد من البلاد بعملتها المحلية، ولا يتداول الا في شراء الكتب الثقافية: فكنت اشتري دولارات اليونسكو شهرياً، ثم ادفعها اليه نظير ما يستورده لي من الكتب. وعندما شنت الحكومة حملتها على الشيوعيين وأهل اليسار، صادرت محتويات مكتبة لطف الله سليمان واعتقلت الرجل، ولم تسمح لزوجته بادارة المكتبة او بيع ما فيها من كتب ثقافية رفيعة! صحيح أن خسارة المثقفين كانت فادحة بإغلاق هذه المكتبة النادرة، إلا أن خسارة لطف الله وأسرته كانت افدح... ودفع ثمناً باهظاً لاسيما في الاعتقال... حيت التقينا ثانية.. لطف الله وأنا، في ذلك المعتقل الصحراوي الرهيب عام 1959... في المعتقل لم يكن مسموحاً لأحد بالاحتفاظ بورقة أو قلم، بكتاب أو صورة. وكان الحصول على صحيفة أو صفحة مطبوعة، من المغامرات غير المضمونة النتائج... ولم يكن مسموحاً لنا، ايام الهدوء النسبي، الا بتلقي بعض الأدوية من الاهل، فكيف استطاعت مدام لطف الله سليمان بالله عليك ان تهرّب له صورتها في قعر غطاء مرطبان كبسولات التيرامايسين؟... وكيف استطاع هو أن يحتفظ بالصورة سرّاً لشهور متصلة، فلا يراها في قعر الغطاء ويعجب من أمرها الا اقرب الاصدقاء؟! لكن مدام لطف الله كانت تدّخر للمباحث العامة وادارة سجن الواحات الخارجية مفاجأة اخرى. فمع ان الزيارة للمعتقلين كانت ممنوعة منعا قاطعاً، استقلت قطار الصعيد الى محطة كفرطشت، ثم استقلت من المحطة قطار الواحات، ووصلت قبل الظهر الى محطة السجن وطرقت الباب. احتار القائد والضباط في كيفية التصرّف، وتكلموا كثيرا عن الاوامر والنواهي فيما راحت تتكلم هي عن حقوق الانسان وحقوق المسجون السياسي، ولفت الجدال انظار المعتقلين والعساكر، ولكن الاوامر ازاحت الفضوليين الى الوراء... على رغم صياح السيدة الفاضلة واحتجاجها وتهديدها الضباط ان لديها واسطة كبيرة جدا وانهم سيعرفون شغلهم! وكان الضباط يحاولون تهدئتها ويضحكون في سرّهم من هذه المرأة التي تدّعي ان لطف الله له واسطة كبيرة جدا. أي واسطة وهو معتقل بقرار جمهوري وملقى به في ذلك الوادي السحيق بلا امل في النجاة؟ ذلك كان المسعى الوحيد من نوعه في ايام ذلك المعتقل، والمواجهة الفريدة من نوعها بين مدام لطف الله سليمان وبين وزارة الداخلية، بهيلمانها وعسكرها وسلطانها! وعلى رغم أن مسعاها لم يحقق النتيجة المرجوّة، أي أن اللقاء لم يتمّ بين لطف الله سليمان وزائرته، فقد شاهدنا بأعيننا ما كانت تعنيه السيدة الفاضلة بالواسطة الكبيرة التي لم تسعف لطف الله سليمان في حينها، ولم تنقذه من ذلك السجن اللعين... مع العلم أنه استفاد منها بعد خمسة عشر شهراً، حين تمّ الافراج عنه افراجا مبكراً، قياساً الى المدة الطويلة التي قضاها بعض رفاقه في هذه الصحراء القاحلة. لم تكن واسطة لطف الله سليمان الا الرئيس احمد بن بلا نفسه. وكان بن بلا معتقلا في فرنسا والمفاوضات تجري بين مصر وفرنسا وجبهة تحرير الجزائر للافراج عن زعيمها ضمن اتفاقيات التسوية واستقلال الجزائر. وقبل الاستقلال أفرج عن بن بلا وجاء الى مصر حيث استقبل استقبالا رسمياً وشعبياً حافلاً. وسأل بن بلا عن أصدقائه المصريين، وعلى رأسهم لطف الله سليمان ولطفي الخولي والمحامي علي الشلقاني... ولشدّ ما كان استغرابه حين علم أنهم معتقلون، فتوسط للافراج عنهم، وسفّرهم معه الى الجزائر حيث لازموه طوال فترة رئاسته، وعاصروا مرحلة بناء الدولة المستقلة. ووقع انقلاب الرئيس هواري بومدين، فعاد من عاد الى القاهرة، بينما هاجر لطف الله سليمان الى باريس. وكان لطف الله وعدد كبير من المثقفين المصريين، قدموا في الخمسينات خدمات للثورة الجزائرية - كما فعل كثير من المثقفين العرب - وذلك باتصالهم بالمثقفين الفرنسيين المؤمنين بالحرية، وبتنظيم حملات التضامن مع المجاهدين من أجل الاستقلال. * كاتب مسرحي مصري