نشرنا في الأمس حلقة أولى من التحقيق حول الصحافة واغتيال الصحافيين في الجزائر. هنا حلقة ثانية. وضعت في السنوات الأخيرة في الجزائر دراسات وأبحاث تقصّت جوانب من ظاهرة الاغتيال قدمها عدد من الباحثين الجامعيين الشباب، منهم سعدوني أحمد، وداوود موسى، ومزياني علاوة، وجازية سليماني، التي أشرنا إلى دراستها آنفاً. لكن هذه الدراسات لم تر النور، وظلت، على تفاوت قيمتها، حبيسة أرشيف الجامعة. وباستثناء البحث الذي قدمته سليماني، فإن الدراسات والتقارير والأبحاث التي تناولت ظاهرة الاغتيال تبقى جزئية ومحدودة القدرة على الكشف عن الأبعاد المختلفة لهذه الظاهرة، من خلال النماذج والأمثلة التي تناولتها هذه الدراسات. على أن الدراسة التي قدمتها سليماني، وهي أيضاً ما تزال مخطوطة، تتميز بشموليتها من حيث تناولها لظاهرة الاغتيال السياسي في الجزائر من جذورها المبكرة، وتقصيها الحالات التي تناولتها، حالة حالة، مصنفة هذه الحالات، ومستخرجة من هذا التصنيف الدلالة الخاصة لكل منها، والعناصر المشتركة في ما بينها كحالات وقعت في مناخ عام دموي ساد الجزائر في فترة زمنية محددة هي ما بين سنتي 1993 و 1995 وذلك من خلال التركيز على الذين اغتيلوا من الصحافيين، والعاملين منهم في التلفزيون على نحو خاص. وبالعودة إلى هذه الدراسة نكتشف أن تسعة صحافيين تلفزيونيين اغتيلوا في الفترة المذكورة، ونجد أن التلفزة العمومية التي كان منتظراً منها ان تلعب دوراً متوازناً لصالح المجتمع وقواه السياسية المختلفة في إطار من التعددية المفترضة بعد العام 1989، تذهب بإيعاز مباشر من السلطة، وفي ظل غياب تشريعات قانونية تمنع من ذلك، إلى الحفاظ على دورها القديم في فترة الحزب الواحد، الذي كانت تقوم به بدءاً من سنة 1962 سنة الاستقلال مستغلة هذه الوسيلة واسعة الانتشار لنشر أفكار ضد معارضيها. ولم تنفع كل الاحتجاجات التي اطلقها زعماء المعارضة وقادة الأحزاب والهيئات غير الحكومية المطالبة بتبديل هذا الوضع الشاذ بحيث يتاح لهم التعبير عن أنفسهم، وعن اختلافهم، وعمن يمثلون من فئات المجتمع، بحيث تنسجم التلفزة الوطنية في الجزائر مع مناخ التعددية وما يفترضه من ديموقراطية في عمل الإعلام. الذين تتبعوا ظاهرة الاغتيال في الجزائر، والتي بدأت بالوقائع الملتبسة لمصرع الرئيس الراحل محمد بوضياف بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ العنف السياسي في الجزائر في 29 حزيران يونيو 1992، أثناء إلقائه خطاباً في قصر الثقافة في عنابة، يرون أن بداية عاصفة ومثيرة كهذه لفعل الاغتيال السياسي في البلاد كان لا بد ان تبلغ ما بلغته لاحقاً من غموض والتباس مع كثير من حالات القتل التي وقعت، والتي كان يُطرح إثرها السؤال: لماذا يُغتال فلان، ولا يُغتال فلان الآخر، والذي كان اغتياله مُنتظراً أكثر؟ مع كل حالة اغتيال جديدة كانت علامات الاستفهام حول هوية القاتل والدلالات المحتملة للقتل تتكاثر، إلى أن باتت الأسئلة لا تُطرح إلا مرفقة بعلامات التعجب! انظر هذا البؤس! تقول جازية سليماني، التي التقيتها مرات عدة، في الجزائر العاصمة وطرحت عليها بعض الأسئلة حول ظروف اعداد الدراسة المذكورة، انه على رغم عدم توافر الأرقام الرسمية للاغتيالات في الجزائر، فإن عدد الصحافيين الذين طالهم الاغتيال في الفترة ما بين 1993 - 1995 يُقدر بحوالى 33 صحافياً. وهذا جعل العاملين في المهنة يفضلون الهجرة على البقاء داخل الجزائر. وتشير التقديرات إلى هجرة اكثر من 150 صحافياً وصحافية، وإلى هجر المهنة من قبل العشرات غيرهم، وامتهان اعمال أخرى أقل خطراً. وإلى ما تذكره جازية في دراستها، فإنا اكثر من 1000 من الصحافيين الجزائريين ينتمون إلى شتى قطاعات العمل الإعلامي، وينتمون إلى مختلف أجيال المهنة، شردوا من بيوتهم ومساكنهم وفارقوا عائلاتهم، وتجرعوا هوان الخوف والرعب، وعاشوا نهارات وليالي القلق الشديد من جراء التهديد بالاغتيال الذي تلقوه من جهات معلومة وأخرى ظلت مجهولة. وقد تحول هؤلاء مع مرور الوقت إلى نزلاء في فنادق حددتها لهم الدولة في العاصمة الجزائرية وضواحيها، منها فندقا "المنار" في منطقة "سيدي فرج" على الساحل و"مازفراق" في منطقة زالدة، فضلاً عن مجمع "موريتي" حيث يقيم هؤلاء في ما يشبه معسكراً سكنياً تحرسه الدبابات. وعلى رغم جمال منطقة سيدي فرج التي تعتبر من أكثر خلجان الجزائر شهرة، إلا أن هذا الجمال يكاد يكون، بالنسبة إليهم صورة من صور الجحيم، كما عبّر لي غير صحافي وكاتب ممن التقيتهم هناك. فهم يقضون أوقاتهم في ظروف سكنية سيئة، وأوضاع مادية غالباً ما تكون قاسية، في ظل حالة حصار يعيشونها متخفين عن الأنظار، بعيداً عمن كانوا يعرفونهم من الناس، الأمر الذي جعلهم يغتربون عن محيطهم الإنساني الملهم لهم في نشاطهم الفكري والعقلي. إضافة إلى هذا البؤس، فإن هؤلاء الصحافيين الذين طالما اعتدّوا بأشخاصهم وأسمائهم، إنما يكتبون، اليوم، تحت اسماء أخرى غير أسمائهم. وقد قال لي احدهم بأسى: "أنظر إلى أحوالنا، أما نشبه جنوداً بائسين عند هذه الدولة التي ليس لدينا الحد الأدنى من الرضى عنها، والتي يمكن ببساطة ان نُقتل بسببها، هذا إذا لم نُقتل على يديها!" هنا يضحك محدثي كمن ألقى نكتة. إنه لا يكف عن التدخين بعصبية بالغة شأنه في ذلك شأن سائر الصحافيين الجزائريين، الذين لو شاركوا في مسابقة لكانوا الصحافيين الأكثر تدخيناً للسجائر في العالم. ويضيف: أتظنني أمزح؟! وأسأله: متى كانت آخر مرة زرت فيها بيتك؟ فيجيبني "ج" الذي اشترط مراراً ان لا اذكر حتى الحرف الأول من اسمه، إن كنت فعلاً ارغب في الاحتفاظ بصداقته، وها انا استبدله فعلاً بحرف آخر: آخر مرة كنت في بيتي الكائن في البليدة منذ سنتين. زوجتي تزورني هنا، كذلك أخوتي، أحياناً، لكن أمي لا تفعل. الحمد لله ان ليس عندي أولاد. أرقام تفيدنا دراسة جازية سليماني في معرفة بعض الاتجاهات السياسية للصحافيين المغتالين، وانتماءاتهم اللغوية، فهم حسب أحد جداول الدراسة نشرت في "الحياة" أمس، ينقسمون إلى 42 في المئة ممن يكتبون باللغة الفرنسية، و36 في المئة ممن يكتبون باللغة العربية، أما مزدوجو اللغة فهم يشكلون نسبة 18 في المئة، ونسبة 3 في المئة منهم بلغة الصم والبكم. أما نوع الإنتماء السياسي والإيديولوجي فهو على النحو التالي: 6 في المئة اتجاه إسلامي، 18 في المئة اتجاه يساري، 30 في المئة اتجاه ليبيرالي، 45 في المئة انتماءات أخرى غير معلنة. وقد استخلصت هذه النسب من عدد إجمالي يبلغ 33 صحافياً اغتيلوا فقط في الفترة الممتدة من 1993 إلى 1995. وأعمار هؤلاء تترواح ما بين أقل من 30 سنة وحتى سن ال 60. وتبلغ نسبة المتزوجين منهم 81 في المئة مقابل 18 في المئة من العزاب. وقد وقع اغتيال هؤلاء في المناطق التي تعتبر الأكثر شعبية من جهة، والأكثر تعرضاً لحوادث العنف والإرهاب، كمناطق باب الواد وجسر قسنطينة وحسين داي والحراش والكاليتوس في العاصمة وبوفاريك والبليدة والأربعاء، في ضواحي العاصمة. علماً أن هذه المناطق شهدت من جانب آخر حوادث تفجير واسعة النطاق استهدفت، على مدار سنوات الأزمة الجزائرية، تجمعات سكانية ومراكز اقتصادية وأخرى أمنية واستراتيجية تابعة للدولة أوقعت في بعض الحالات بضع مئات من القتلى والجرحى. جذور هذا العنف إن انفجار العنف في الجزائر منذ مطلع التسعينات طرح على متابعي وقائعه والمعنيين به داخل الجزائر وخارجها اسئلة كثيرة، لعل أبرزها هو السؤال حول مصدر هذا العنف، وما إذا كانت له مرجعيته في التاريخ والمجتمع والثقافة. وقد تعددت الإجابات تعدد الاتجاهات والقراءات. ومع اتساع هذا العنف، وتعدد حلقاته، وتكاثر ضحاياه، وبروز ظاهرتي الأغتيال الفردي، وما تلاها من اغتيالات جماعية طالت المدنيين في صور إبادات جماعية، أتخذ السؤال أبعاداً مختلفة، ومستويات عدة، منها: أهو شيء جديد هذا القتل؟ وبكل أسف، فإن الجواب هو، كلا. وبالعودة إلى تاريخ الجزائر، وتاريخ الثورة الجزائرية، وتاريخ الظاهرة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر، يمكننا العثور بسهولة على أمثلة عدة وقع فيها الإرهاب، وحوادث الاغتيال الفردي والجماعي التي نفذها الاستعمار الفرنسي ومنظماته السرية وعملاؤه، وكذلك تلك التي نفذتها أطراف في الحركة الوطنية الجزائرية ضد أطراف أخرى، وفئات من داخل الحركة التحررية نفسها ضد فئات أخرى. ويمكننا هنا الاستنجاد بغير كتاب من كتب التأريخ الجزائري للثورة. على أنَّ الطاهر بن عيشة، وهو أحد أكثر المثقفين الجزائريين الأحرار شهرة ما زال حياً ويقيم هو الآخر في سيدي فرج إثر تهديده بالاغتيال، قدم شهادة له أعطاها للباحثة جازية سليماني، مفادها، حرفياً: "لما اندلعت الثورة سنة 1954 عملت فرنسا الإستعمارية على وقف الثورة، وكان من بين الوسائل التي استخدمتها سجن المثقفين وإغتيالهم. فاغتال الاستعماريون الشيخ العربي التبسي والدكتور بن رجب، كما أغتيل الصيدلي علاوة عباس والكاتب مولود فرعون من طرف المنظمة السرية OAS. وخلال الثورة الجزائرية حدثت تصفيات جسدية طالت بعض المثقفين، فقد تمت تصفية المحامي العيد عمراني سنة 1956، وقبله بقليل البشير شيحاني وكان هذا نائب مصطفى بن بولعيد، ومحمد منتوري، والمحامي علي شكري، وعبدالكريم هالي، وكان نائباً لعباس فرحات، والشاعر محمد السعيد الزاهري، الذي يعتبر أبا الصحافة الجزائرية وأول من كتب القصة القصيرة في الجزائر". ولا بأس ان نضيف إلى هذه الأسماء اسم الكاتب الصحافي الفرنسي دوبريه الذي اغتالته المنظمة نفسها بسبب نشره أخبار العمليات العسكرية الأولى للثورة الجزائرية. هنا، في هذا السياق تتهم الباحثة المؤرخين الجزائريين بمشاركة المؤرخين الفرنسيين في إخفاء الحقائق حول كثير من الجرائم السياسية التي ارتكبت بحق شخصيات جزائرية. وتعتقد من جهة أخرى بأن الثورة الجزائرية ابتليت بعدوى العنف والاغتيال بدوافع مختلفة من الخوف والحذر والشك والتسرع في إطلاق الأحكام وتنفيذها. وتضرب مثالاً على ذلك اغتيال الثائر عبان رمضان سنة 1957، لما اختلفت الآراء حوله، فذهب البعض إلى اعتباره بطلاً بينما اعتبره آخرون خائناً. وبعد عامين على اغتياله، ثارت ضجة كبيرة ما بين القاهرةوالجزائر عندما اغتيل في ظروف مشابهة الثائر عميرة علاوة في القاهرة على أيدي رجال الثائر المشهور بوصوف. وليست عمليات الاغتيال الفردي هذه التي وقعت في النصف الثاني من الخمسينات هي كل عناصر التشابه مع ما جرى ويجري منذ مطلع التسعينات في الجغرافيا نفسها. فهناك مذبحة جماعية وقعت في سنة 1959 تشبه كثيراً المذابح الذي تقع اليوم، ويذهب ضحيتها مدنيون أبرياء. ففي منطقة تقع ما بين الأوراس وبلاد القبائل كانت هناك قرية اسمها "ملوزة"، وفيها ارتكب قائد جزائري من جيش التحرير الوطني مذبحة مروعة ذهب ضحيتها كل الرجال الذين زادت اعمارهم عن 17 عاماً على مرأى من نسائهم وأطفالهم وبقية ذويهم، ثم احرقت القرية. كل هذا سببه خلاف بين هذا القائد وتوجهات بعض أبناء القرية الذين كانوا من أنصار مصالي الحاج الذي كان يعتبر ابا الوطنية الجزائرية. هذه المعلومة التي تذكرها سليماني وردت في مذكرات المجاهد المشهور الرائد سي الأخضر بورقعة المنشورة تحت عنوان: "شاهد على اغتيال الثورة". وذكر هذا الرائد في مذكراته ان الفرنسيين افادوا كثيراً من هذه المجزرة في توجيه دعاية مضادة للثورة. وصمة عار وإلى ما سلف، فإن الثورة الجزائرية التي قامت، بالضرورة، على أساس من العنف الموجه ضد عنف الاستعمار وعملائه، وضد كل ما يرمز إليه، لم تتمكن دائماً من التمييز بين ما هو هدف واضح المعالم وبين ما هو ظواهر في مجتمع مستلب من الكولونياليين، من دون ان يعني ذلك ان هذه او تلك من الظواهر هي بالضرورة مما يلحق بالاستعمار. في هذا السياق، تستشهد سليماني بما اورده علي الكنز في كتابه المعنون "حول الأزمة" الذي يضم دراسات حول الجزائر والعالم العربي، من ان المثقفين الجزائريين لم يكن حالهم جيداً مع الثورة، كما لم يكن لهم حضور أو تأثير فيها، حتى اصبح لفظ مثقف عبارة عن علامة للتمييز والسخرية من المثقفين، بل حتى "وصمة عار" يُنعت بها من يخون الجماهير، وذلك بسبب تأخر المثقفين عن الالتحاق بالعمل المسلح، الأمر الذي أدى إلى تصفيتهم جسدياً مثلما حدث في الولاية الثالثة حيث جرى ذبح المثقفين الثوريين الذين تأخروا عن مواكبة المسيرة، بطريقة يمكن وصفها بأنها وحشية، على أيدي رجال الثورة. الدروس المؤلمة بعد الاستقلال، شهدت الجزائر أحداثاً عدة سجلت حضوراً بليغاً لفكرة العنف بدل الحوار، فحضر الاغتيال السياسي من حيث غابت الديموقراطية. وسرعان ما بدأ الانشقاق وبرزت أعمال الإستئصال والاغتيال من جديد، فأزيحت الحكومة الموقتة وترأس أحمد بن بله رئاسة الدولة، وبدأت التصفيات بين المعارضين لها، فاغتيل العقيد الشاب شعباني القائد العسكري لمنطقة الصحراء بعد ان اعلن تمرده على بن بله سنة 1964. وفي السنة نفسها، اغتيل محمد خميستي الذي كان يشغل منصب اول وزير خارجية بعد الاستقلال في ظروف ستظل غامضة وذلك أمام قصر زيغود يوسف مقر المجلس الوطني التأسيس آنذاك. ووضع رئيس جميعة العلماء الشيخ بشير الإبراهيمي قيد الإقامة الجبرية حتى تاريخ وفاته سنة 1965. ولمّا قام العقيد هواري بومدين، وكان قائد الجيش ووزير الدفاع في عهد بن بله، بالانقلاب على الأخير، وقع آنذاك نوع من الاضطرا، والقمع والعنف واغتيل في عهده كما يذكر الرئيس بومدين للطفي الخولي في حوار معه أمين الخزينة محمد خيضر خلال وجوده في مدريد. وجاء في دراسة جازية سليماني أنه في العام 1967، بعد فشل محاولة انقلاب قادها العقيد الطاهر الزبيري استهدفت بومدين، جرى اغتيال كريم بلقاسم شنقاً بربطة عنقه في فندق انتركونتيننتال في مدينة فرانكفورت، في ظروف ستظل غامضة إلى اليوم. هذا عن العنف والاغتيال في الأمس الجزائري، وقصصه المثيرة، الغامضة والمكشوفة. لكن الجواب عن السؤال حول العنف الراهن، وحول الاغتيال الفردي والجماعي الذي يصل إلى درجة الإبادة، هو الجواب العصي، الذي لم يستطع أحد من قراء الأزمة الجزائرية تفكيكه، بمن فيهم المفكر الفرنسي غولكسمان الذي اعطى إجابة ناقصة، وربما مغرضة أيضاً، عندما حصر عمليات الاغتيال والقتل بطرف واحد، لا يمكن، في اي حال من الأحوال، ان يكون وحده الذي يقتل في الجزائر. * الحلقة المقبلة الاسلام المسلح