على الرغم من النقد الذي أثاره "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي"، لا مفر من الاعتراف بأن هذه التظاهرة حققت، في دورتها الخامسة، بعض ما تصبو اليه من نجاح. فلحظات قليلة من المتعة المسرحية الصرفة، قد تكفي أحياناً لتحويل مثل هذه المناسبات الى لقاء استثنائي يذكره الجمهور وأهل المهنة طويلاً. وخشبات القاهرة لم تبخل هذه السنة بالمفاجآت: تشيكوف العراقي جواد الاسدي بتصرف، حسن ونعيمة كما رآهما المصري حسن الجريتلي، وأخيراً الكوميديا السوداء التي وقعها التونسي الفاضل الجعايبي وصراع عجائزه المستميت مع الزمن الهارب. يحمل العائد من القاهرة في دفاتره من الملاحظات ما يكفي لتدبيج دراسة كاملة عن أحوال المسرح العربي. ذلك أن كل هذه العروض التي تتجاور، تتعاقب وتتواجه أحياناً، تختزن بالضرورة ما يكفي من المعطيات والعناصر للوقوف على أحوال الحركة المسرحية، وتقصي إضافاتها واستنباط ملامحها المستقبلية. هذه الملامح عملنا على رصدها ومساءلتها، بعيداً عن منطق المسابقة الرسمية ونتائجها، متابعين خطاً خفياً يربط بين بعض الاعمال والتجارب، بما يجمعها وما يفرقها... في استعراضه "سقوط إيكاروس" يتابع الكوريغراف اللبناني وليد عوني المقيم في القاهرة، حيث أسس "فرقة الرقص المسرحي الحديث"، رحلته في تقصي الحدود الفاصلة بين المسرح والرقص، بين الادب والاستعراض وبين الواقع والاسطورة. هذه المرة، يجسد تلميذ موريس بيجار أسطورة إيكار ابن بندار الحالم بالطيران، وقد أذابت الشمس جناحيه الشمعيين، فتحطمت أحلامه على صخرة الواقع. هل هو المثقف في نهايات هذا القرن؟ هل يعبر عوني على طريقته عن سقوط الايديولوجيات؟ اللافت في تجربته توسل الرقص كعنصر درامي، والجسد كآداة للسرد... مما ينتج عنه عالم غرائبي، غارق في المؤثرات البصرية المبالغة أحياناً؟، مسرف في شاعريته وقراءته المجازية للواقع. وليد عوني يتكلم راقصاً، وكبطله يتمرد على الاسطورة، إذ يحلق عالياً بدل أن يتهاوى: لوهلة نخال أن الحلم لا يزال ممكناً. صورة أخرى للمثقف، يمكن استقراؤها من مسرحية "دكتور فاوستوس" جائزة أفضل تقنية مسرحية التي قدمتها "فرقة مسرح سان جوزيف فيتكيفيتش" الآتية من بولونيا. تعيدنا هذه التجربة الى "المسرح المختبر" كما أسس له المسرحي البولوني جرزي غروتوفسكي. فالجمهور الذي يقصد العرض، سيدخل في طقس مأسوي، يكون فيه طرفاً. كل مشاهد شريك في هذا القداس الاسود، وشاهد على تعاقد الدكتور فاوستوس مع ميفيستو، فقد باعه نفسه مقابل سلطة واهية على العالم. إنه "مسرح الاسرار" كما يمارسه المخرج أندريه دسوك، أو كما يعيد اكتشافه بعد سنوات على تجارب غروتوفسكي التي تعتبر مفترق طرق حاسم في تاريخ المسرح الحديث. واكتشاف غروتوفسكي في مصر - ولو متأخراً - لا يمكن له الا أن يكون بادرة ايجابية تستحق التحية وتدعو الى التفاؤل!. المسرحية تبدأ خارج القاعة، على "برولوغ" افتتاحي يضعنا في مناخ الاحتفال الجنائزي ويبسط لنا عناصر الصراع. ثم يدخل المشاهدون الى العالم الآخر، عالم الطقوس المظلمة، ويتحلقون من الجهات الاربع حول حلبة مصارعة. الدكتور فاوست هنا، مرتمياً الى طاولته مع كتبه وأسئلته وسأمه من البحث عن الحقيقة. والاحداث ستكر بطيئة، رتيبة، على إيقاع نغمة تتكرر، تعلو وتهبط، وترفدها بداية نشيد تراجيدي في اللحظات الحاسمة للصراع... الى أن تدق الساعة قلب الليل، فيستسلم فاوست نهائياً الى جلاده. ويخرج المرء من العرض وهو يستعيد التجارب العربية التي استوحت هذا النوع من المسرح أو تأثرت به. "الزاروب" اخراج فؤاد عوض مسرحية من نوع مختلف تماماً، تقوم على التغريب وتعتمد عنصر السرد والحكاية. مجموعة من الصور لمدينة عكا الفلسطينية تشكل الديكور الوحيد، فضلاً عن المنضدة والكرسي والرخامة تمثل بيتاً هدمه المحتل الاسرائيلي الذي يطمس الذاكرة. الممثلة - الراوية ساميا بكري تحيّينا: نحن في سهرية، متحلقون حولها نسمع الحكايات. تروي سهام بكري كمن يقاوم. تحكي ضد النسيان! تستعرض من الذاكرة قصصاً، وأحداثاً وأماكن، وشخصيات تتعاقب على تأديتها بأصوات وحركات وإيقاعات ولهجات مختلفة. وتحضر الاغنيات والامثال الشعبية والمواويل والقصائد، الاعياد والافراح التي ترمز الى الزمن السعيد، لتجعل من السهرية احتفالاً مشهدياً متكاملاً، يذكر الى حد بعيد بأجواء "مسرح الحكواتي" المقدسي في سنوات ازدهاره، وبتجربة روجيه عساف ورفاقه في لبنان "الجرس"... "ماكبث" كاريكاتوري وموليير الخيبة أما المخرج المصري صالح سعد، فيقع في الفخ النموذجي للمهرجان، إذ يسيء فهم "التجريب" ويتعامل مع الخشبة بركاكة وسهولة تستفزان المشاهد. فعرضه "ماكبث" تحول الى كاريكاتور للنص الشكسبيري يستغني عن النص مكتفياً بالصوت والايماء! التعبير الجسدي عنده يغرق في الفوضى والمجانية، وتتعاقب مشاهد "ماكبث" المفترضة، مع دوران الممثلين والممثلات بملابس توحي بحفلة تنكرية للصغار. وعلى المتفرّج أن يمضي في لعبة اختبار لثقافته المسرحية: هذا مشهد الساحرات، وذاك مشهد قتل دانكن، أو تلك مواجهة الليدي وزوجها، الخ... بينما تطغى موسيقى ال "نيو أيدج" على كل شيء، وتبدو الحركات المضخمة التي تقترب أحياناً من ال "بريك دانس"، تمريناً سيّئاً في محترف لاعداد الممثل. الخيبة الاخرى في المهرجان، جاءت من لبنان مع مسرحية موليير "مريض الوهم" التي تحولت مع ايلي لحود الى كوميديا تلفزيونية رخيصة، أو الى عرض للتلامذة في نهاية العام الدراسي. تتكلم الشخصيات بلهجة "ستيريوتيب" مستحضرة كليشيهات القرية اللبنانية، بينما تنعدم أي رؤيا اخراجية ويغيب كل اجتهاد لقراءة نص موليير واعطائه مذاقاً خاصاً ومعنى. يكتفي لحود، التلميذ الاسبق لأنطوان فيتاز !، بتحريك الممثلين وبدفعهم الى حركات مضخمة، خالطاً بين الكوميديا والتهريج. ويقوم العرض على تصور سينوغرافي مسطح، وعلى ديكور بليد: صورة تشريحية لأعضاء الجسم البشري في الوسط، وخيوط عنكبوت في كل مكان! كما يعكس استعمال الاضاءة وادارة الممثلين، نظرة مشوّهة الى المسرح. فهل أن "مريض الوهم" عنوان المرحلة الراهنة في المسرح اللبناني؟ هل يعكس العرض الحالة الثقافية العامة في بيروت، حيث انسحب المبدعون الكبار الى جراحهم وخيباتهم، تاركين الساحة لأنصاف المبدعين وممثلي الثقافة الريفية البليدة؟... الاسدي: مسرح القسوة مع المخرج العراقي جواد الاسدي، المقيم بين دمشق وعمان، ندخل عنوة الى قلب الطقس المسرحي الذي ألفناه منذ عرضه "خيوط من فضة". في "تقاسيم على العنبر" جائزة أفضل إخراج يستوحي الاسدي عالم أنطون تشيكوف، إنطلاقاً من قصة "العنبر رقم 6"، لينسج عليها تنويعاته وهواجسه. في مصح للامراض العقلية، يتواجه الدكتور أندريه و"مريضه الحميم" إيفان... ينسج المخرج مشاهده ليسلط الضوء على الصراع بين الشخصيات، بينها وبين الوجود، بين الواقع والمطلق، بين العقل والحقيقة. ما هو الجنون، وما الحدود الفاصلة بينه وبين الصواب؟ يسأل جواد الاسدي، من خلال كتابته الاخراجية وطريقة اداراته للمثل. وهل هناك مكان أمثل من خشبة المسرح، لطرح مثل هذه الاسئلة؟ بيتر بروك في آخر أعماله "الرجل الذي..." يطرح السؤال بشكل جذري ومرعب إنطلاقاً من تجارب عالم الطبيب الانكليزي أوليفر ساكس. أندريه فايز قزق بمشاغله الفلسفية والميتافيزيقية يتحاور مع مريضه إيفان غسان مسعود الممثل البارز الناقم على كل شيء، المتمرد على العالم وقوانينه حتّى فقدان المنطق. يستوحي الاسدي أيضاً "طائر النورس"، ويزرع نصه بمونولوغات لشكسبير، تضيف الى اللعبة مستوى ثان للقراءة والتأويل. هناك أيضاً ميخايلوفا غالية علي، الممثلة البارزة التي وقعت فريسة أسئلتها وهواجسها وعذاباتها الداخلية، وهي تعتزم اعتزال الخشبة. الاستقالة الاستسلام؟ كآخر وسيلة ممكنة للاحتجاج. الانسحاب من حلبة الصراع، في حين ما زالت تتحين فيه داريوشكا التابعة سوسن أبو عفار، ممتازة من زاويتها الهامشية فرصة لدخول تلك الحلبة! ومن المواجهات الثنائية بين تلك الشخصيات التي تسحقها الحياة، تستمد لعبة العنف والقسوة التي يجيدها الاسدي بامتياز قوتها وزخمها. لكن المخرج يكسر هذه المرّة حدّة طقسه الفاجع، القائم على تصميم دقيق للاضاءة كعنصر سينوغرافي ونفسي يقطّع المساحة ويحاصر الشخصيات. فالمَشاهد القاسية تتجاور مع مشاهد هذيانية تقول الحزن واللامعقول بطريقة أخرى: انها مشاهد "المجانين"، في لهوهم وعبثهم واحتجاجهم المكبوت. ويأتي الكمان العزيز على قلب الاسدي ليوقّع كل هذا الحزن الكربلائي؟ ويدفع المأساة الى الذروة. لكن الحوار الفلسفي يطول أحياناً في "تقاسيم..."، وذلك على حساب التطور الدرامي. ويحتل الرمز السياسي المباشر الاعتقال القسري، المخابرات، تهمة "شتم الشعب الروسي"... مكانه من الحبكة، فيعطي تفسيراً ملموساً للعقاب. وينتهي هذا الطقس الذي يجمع فيه الاسدي بين "قسوة" أنطونان آرتو و"احتفالية" أريان منوشكين، بجنون الطبيب، وتساويه بمريضه، في عالم لا يتسع للمنطق، بينما تواصل الممثلة انهيارها واستسلامها. الجريتلي: الذاكرة الشعبية المفاجأة المصرية جاءت من عرض خارج المسابقة، هو "غزير الليل" الذي قدمته فرقة "مسرح الورشة" من اخراج حسن الجريتلي. لكن مفهوم "الاخراج" هنا يبدو نسبياً جدّاً وعلى درجة من الخصوصية. فهذه الفرقة المحترفة التي تعمل بامكاناتها الخاصة، وسط تجاهل أهل المسرح ومقاطعة الاجهزة الرسمية تشق طريقها، عملاً بعد آخر، مؤسِّسةً لمنحى جمالي وتقاليد مسرحية مغايرة. بعد "أوبو" ألفريد جاري الذي قدم في قراءة متميزة بعنوان "داير داير"، واصل أعضاء "الورشة" العمل على عناصر الاحتفال الشعبي والفرجة التي تجد جذورها في تربة الثقافة المحلية. وهذا البحث الجماعي شمل كل أعضاء الفرقة: سيد رجب، سيد الرومي، رمضان خاطر، فانيا أكسرجيان، محمد سعيد، والشاعر أحمد عقل والمغني زين حمود ومديحة سيد. أما مجموعة العمل الاساسية، فتتكوّن من المخرج والكاتبين خالد ونجيب جويلي والباحث محمد سعيد وآخرين... انطلقت الفرقة في بحثها من الشغل على تقنيات "الحكي"، ومن تجميع الحكايات الشعبية أو ارتجال حكايات من الواقع المعيوش، حتّى أصبح ل "الورشة" ريبرتوار من القصص تدور بها على المناطق وتقدمها لمشاهدين عاديين لا يطالهم فنّ المسرح بالضرورة. وكان البحث في المادة الشفوية، يتزامن دائماً مع التجارب المتعلقة بفن الممثل وطرق الاداء وامكاناته المختلفة. "رحلة الاعداد هذه - يقول الجريتلي - شهدت تحوّل أكثر من ممثل. تغير تعاطي الجميع مع أدوات فنّهم. كل ممثل تعلّم وعلّمَنا". وبين الحواديت التي قاموا بجمعها وتأديتها، هناك قصة استأثرت باهتمام ممثلي "الورشة" بشكل خاص. انها قصة حسن ونعيمه. حسن المغنّي الفاتن الذي يذهب لاحياء مناسبة في بني مزار في المنيه، فتقع نعيمه في غرامه. لكن هذا الحب الممنوع لا مفرّ من أن يأخذ أبعاداً تراجيدية، فابن عم نعيمه وخطيبها بالمرصاد لن يسكن له جفن حتّى يقتل حسن ويعيده الى حبيبته مقطعاً. والحكاية ما زال الناس يتناقلونها الى اليوم في الحارات والقرى. قابلت جماعة "الورشة" شهوداً على أحداثها أو أطراف مباشرين فيها، وحكت ما جمعته على مسامعهم، فتكون العرض بالتدريج واستحال عملاً فنياً. وحسن مواويله معروفة في مصر. دخل الجريتلي ورفاقه من الموال الى الذاكرة: "الموال الشعبي صفّى وحكى ونقل مسائل نحن أعجز عن ادراكها وابتكارها". وسافروا في المخيلة الشعبية، بحثاً عن حقائق أزلية تلتقي بالتراث الفرعوني إيزيس وأوزيريس كما تعود بنا الى التراجيديا الاغريقية القديمة. من كل ذلك ولد عرض مسرحي أبعد ما يكون عن التوثيق السطحي. احتفال مشهدي يختار جماليات السرد والفرجة، ويتفادى كل فخاخ الفولكلور والكليشيهات التي باتت ملازمة لكثير من التجارب العربية المتمحورة حول أسلوب المداح، والحكواتي. هل تعلن هذه التجربة القطيعة مع الاشكال المسرحية الغربية؟ "كلا، على الاطلاق!"، يجيب الجريتلي وقد تحلق حوله الكاتب نجيب جويلي والممثل العامل سيد رجب. فهم على ادراك تام لكونهم يخوضون في تجربة مسرحية قبل كل شيء. يتعلمون من تراثهم بحثاً عن جوهر الفعل المسرحي، عن قيم كونية ثابتة وحقائق شاملة. لا مكان هنا لأي تمييز سطحي بين مسرح شرقي وآخر غربي: "التراث المسرحي العالمي ملكنا، ونحن نبحث عن الطريق الصحيح لملاقاته". مأساة حسن ونعيمة عن الحب والخيبة، عن الحزن والفشل، لا بد من وضعها في اطار الانحسار الذي تلا ثورة 1919 في مصر، هذه الحالة العامة التي تجد في راهننا أكثر من مرجع ونقطة ارتكاز. أما الاحتفال، فيرتدي طابعاً تراجيدياً قوامه التقشف الظاهري: عناصر بصرية قليلة، سرير وباب وستائر، وفي العمق فرقة العازفين تواكب الحدث على طريقة الكورس الاغريقي. ينتقل العرض بين الحكي والتمثيل، بين التشخيص والاحتفال رقص العصا، التحطيب.... يخرج الممثلون الرواة بالملابس التقليدية وبالعصي، من الحكايات، تُقدّم لنا من وجهة نظر سعد، غريم حسن الذي حسده على كل شيء، وها هو لا يملك أن يستمر من خلال سيرته وذكراه! شخصيات "غزير الليل" ولدت من الموال، وتعيش في "الحواديت" بعضها حقيقي وبعضها تخيّله الاخوان جويلي، وفي لاوعي الجماعة. بعثها الجريتلي حية بيننا، كما يفعل محرك دمى خيال الظل مع ظلاله... عبر علاقة خاصة بالجمهور، أعادها الى ناسها. فهؤلاء هم في الحقيقة نسغ العرض وديناميته ومعنى وجوده. الجعايبي: كوميديا سوداء مسك الختام في "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي"، كان مسرحية "فاميليا" للفاضل الجعايبي التي سبق أن تناولناها بالنقد فوق هذه الصفحات. ويشكل هذا العمل المميز اضافة الى مسيرة الجعايبي والى الحركة المسرحية العربية بشكل عام. كل عمل جديد يقدمه هذا المسرحي التونسي الذي كان بين العناصر الفاعلة في "المسرح الجديد"، يأتي بقسطه من الاضافات والمفاجآت. وقد استغرب أكثر من ناقد ومتابع ألا تكون الجائزة الكبرى للمهرجان من نصيبه. ولكن من قال أن الجوائز الرسمية هي التي تحدد الاعمال الجيدة؟ كعادته يبني الجعايبي عالماً بلا أفق، فضاءً مغلقاً يحاصر الشخصيات ويدفعها الى العنف، الى التطرف. كأن لا مسرح في نظره من دون تلك الهستيريا الفردية والجماعية، وقود العرض وموضوعه الدائم، والمرآة التي تبدو وكأنها تعكس حالة اجتماعية وثقافية عامة. ماذا يحدث حين يأتي عنصر دخيل ليندسّ في العزلة المرَضية لثلاث أخوات في خريف العمر، هنّ هاجر ونازك وببونة؟ خاصة حين يكون الدخيل شرطياً مفترضاً، جاء للتحقيق في الوقائع الغريبة لاختفاء أختهن زهرة ... حبكة بوليسية مشوقة إذاً؟ يخيل للمشاهد ذلك، لكن هذا الاطار ليس بالنسبة الى المخرج المؤلف إلا مبرراً لنسج خيوط حكاية جديدة عن الموت والخوف والعزلة والفشل والمرارة والكبت والاخفاق... ما يعني الجعايبي هو هذا الصراع الدموي بين كائنات هشّة، ضعيفة، تبحث عن ملاذ وعن عزاء. صراع في عالم انقطع فيه التواصل، وانعدم فيه الامل. في مسرحه يبدو الانسان وحشاً مفترساً والواقع قاتماً الى أبعد حدود. فالمسرحي يقول يأسه الساخر، في كل لحظة من لحظات تلك الكوميديا السوداء - و"كوميديا" هو بالتحديد عنوان عمله السابق الذي دارت أحداثه في مصح للأمراض العقلية! هل هي مسرحية عن الشيخوخة؟ الجواب أيضاً بالنفي إذا أخذنا الشيخوخة بالمعنى الحصري للكلمة، بالمعنى المختبري أو الخيري - الاجتماعي. ما يهم الجعايبي هو البراكين الداخلية المكتومة، والجراح البشرية الخرساء التي لا اسم لها، والتي ليست الشيخوخة الا أحد تجلياتها. لذا فهو يسعى على الدوام الى التقاط أصداء الهدير الصاخب للأرواح المعذبة. من هنا أن تلك الكائنات، الشريرة بطبيعتها، الغريبة بملامحها الكاريكاتورية المضحكة المبكية التي تذكر في بعض اللحظات بعالم الفرنسي جيروم دوشان... تلك الشخصيات بحركاتها وتصرفاتها وعيوبها اللفظية والجسدية المضخمة، ليست في النهاية الا تجسيداً لعاهات وأمراض جماعية استوحاها بمبضعه من صميم المجتمع التونسي والعربي. كل من الاخوات الثلاث ستحاول على طريقتها أن تخفي عن الزائر الغريب حقيقتها، وأن تستدر شفقته وعطفه واعجابه. كل أخت في عالمها، وهواجسها، تظهر حقدها أو حنانها، طبعها الشرير أو وقفاتها الطفولية. الماضي هنا، والمستقبل طيف واه خرج ولن يعود. من عمل الى آخر تتصفّى كتابة الفاضل الجعايبي من الزوائد وتتجوهر. تزداد كثافة ووضوحاً وإيلاماً. فهو يقدم هذه المرة عملاً مذهلاً على الاضاءة. يخفي شخصياته في نصف ظلمة، ويقسم الفضاء الى مستويات مرتبطة بالحركة الدرامية وبحدة التوتر. كما يغلف الخشبة برؤية "تصويرية" تتلاقى مع أسلوب التوليف السينمائي الذي يلجأ اليه في تقطيع الزمان، واختصار السرد. وتحتل الموسيقى دوراً أساسياً في تصعيد طقسه الفجائعي، فالحدث يتطور على إيقاع موسيقى الاكورديون التصويرية هي الاخرى، كأنما يدعونا الى حفلة راقصة جنائزية. وتأتي موسيقى التانغو لتشحن العرض بطاقة تعبيرية جارفة لا يمكن للمشاهد أن يفلت من شباك كآبتها العارمة. ليست مسرحية بوليسيّة، ولا مسرحية عن الشيخوخة. "فاميليا" مسرحية ممثلين. كأن النص معزوفة مكتوبة للرباعي جليلة بكار، فاطمة بن سعيدان، صباح بوزويتة تقاسمن جائزة أفضل ممثلة، وكمال التواتي: فهؤلاء يتنفّسون الفضاء والوقت، بمهارة نادرة تدفع الى النشوة. ولا شك أن ادارة الممثلين من نقاط القوة لدى الجعايبي، ويظهر بوضوح الجهد الخارق الذي بذله كل ممثل في بناء شخصيته، والانتقال بالجسد من حالة الى أخرى، ومن حقيقة الى صورة وهمية لحقيقة مغايرة. لا نبالغ اذا قلنا إن الجعايبي قدم مع "فاميليا" عملاً نادراً من أبرز ما شهدته الخشبة العربية منذ سنوات طويلة. ونحن نجمع أوراقنا ونقفل عائدين من القاهرة، كنا نملك اثباتاً جديداً بأن المسرح العربي بألف خير، رغم العقبات والمزالق الكثيرة التي تهددنا في كل لحظة بالعودة الى نقطة الصفر من جديد. كلام الصور: 1- من "غزير الليل" مسرح الورشة/ مصر: الذاكرة الشعبية والهروب من فخ الفولكلور 2- التواتي، بوزويتة، بكار وبن سعيدان في "فاميليا" الجعايبي/ تونس: تحفة فنية 3- من "سقوط إيكاروس" وليد عوني/ مصر: الواقع والاسطورة 4- بول سليمان في "مريض الوهم" إيلي لحود/ لبنان: الخلط بين الكوميديا والتهريج السهل 5- ساحرات "ماكبث" صالح سعد/ مصر: الفهم الخاطئ للتجريب 6- "تقاسيم على العنبر" الاسدي/ سورية: أين الحدود الفاصلة بين الجنون والصواب؟ 7- أندريه فايز قزق وميخايلوفا غالية علي في "تقاسيم": شخصيات يسحقها الواقع 8- حسن ونعيمة عبر المواويل وتقنيات "الحكي" 9- ساميا بكري في "الزاروب" فلسطين: