"مات الخمسة لأنهم فرنسيون، ماتوا لأنهم فرنسا". بهذه العبارة علق رئيس الوزراء الفرنسي ادوار بالادور على اغتيال خمسة من مواطنيه في العاصمة الجزائرية. وهو كان يقصد قبل كل شيء ان فرنسا مستهدفة في ما يجري هناك. هبّت رياح الصيف الجزائري الحار على فرنسا. وسارع وزير الداخلية شارل باسكوا الى اتخاذ سلسلة من الاجراءات الأمنية ردت عليها أطراف جزائرية مسلحة بلغة التهديد. وفي خضم هذا الجدل الساخن تأكدت ملامح المأزق الكبير. السلطة الجزائرية قادرة على توجيه ضربات الى الجماعات المسلحة لكنها غير قادرة على فرض حل أمني. مسلحو جبهة الانقاذ ورفاقهم قادرون على تصعيد العنف لكنهم غير قادرين على فرض سلطتهم. وقدرة الطرفين على مواصلة الصدام أكبر من قدرتهما على التحاور والتوصل الى تسوية. ووسط هذا المأزق يسفك الدم الجزائري وتتصاعد الخسائر الاقتصادية ويبدو الكلام على معتدلين ومتشددين في كل من المعسكرين أشبه بكلام متأخر. وفرنسا تبدو هي الأخرى في مأزق. حجم روابطها مع الجزائر يمنعها من الاستقالة من مصير الجزائر خصوصاً وان انهيار النظام الحالي ينذر باطلاق موجة كبيرة من الهجرة. ولأنها لا تصدق كثيراً قصة المعتدلين والمتشددين داخل "الانقاذ" تجد باريس نفسها في موقف الداعم لسلطة هي وريثة القرار الذي قضى بالغاء نتائج الانتخابات التشريعية. ولم تعد فرنسا تحتاج الى أدلة على ان لهذا الموقف ذيوله وثمنه. حرارة الصيف الجزائري جددت أيضاً الجدل داخل المعسكر الغربي ووجّه باسكوا انتقادات الى الولاياتالمتحدة وألمانيا وبريطانيا تضمنت اتهامات بالتهاون مع فئات تمارس الارهاب. وأمام هذا التدهور المتسارع لم يجد الرئيس الجزائري الأمين زروال أمامه غير الدعوة الى جولة جديدة من الحوار وبهدف "التوصل قريباً الى المسار الانتخابي". لكن هذا الحوار يدور مع غير المحاربين ونجاحه لا يعني وقف المواجهة… هذا اذا نجح خصوصاً وان الجولات السابقة رسخت المأزق ولم ترسم سبل تخطيه. عادت الاجراءات الامنية الى شوارع المدن الفرنسية. انتشار كثيف لقوات الشرطة. حواجز طيارة. تدقيق في الهويات. اعتقالات. اقامة جبرية. طرد. ملاحقة. حملة سياسية عنيفة على "المتعاطفين" مع التيارات الاصولية. انها الاجواء التي سادت في 1986، أيام حملة التفجيرات الشهيرة، تطل برأسها بعد التهديدات التي أطلقها "الجيش الاسلامي للانقاذ" بالر على فرنسا فوق أراضيها بعد اعتقال عدد من مناصري "الجبهة الاسلامية للانقاذ" بالرغم من انها اعلنت عدم مسؤوليتها عن الهجوم الذي أودى بحياة الفرنسيين الخمسة في الجزائر. يتعامل المسؤولون الفرنسيون مع التهديدات بجدية. وإذا كان ثمة مبالغة في الامر فذلك عائد الى ان وزير الداخلية شارل باسكوا صاحب "مزاج أمني" خاص وانه يريد الاستفادة من ترسانة القوانين التي دافع عنها منذ عودة اليمين الى السلطة: تقييد اللجوء السياسي، مكافحة الهجرة السرية، "منع" الهجرة العلنية، حق التدقيق في بطاقات الهوية، تحويل قرار الابعاد الى الشرطة وليس القضاء. وتدل استطلاعات الرأي العام كلها ان الغرض من هذه القوانين يلقى هوى خاصاً عند الفرنسيين الذين يعيشون أزمة اجتماعية حادة تدفع بهم الى تحميل "الاجنبي" تبعات القسم الأكبر منها. لقد كانت الضربة قاسية فعلاً. وقد صاغ رئيس الوزراء ادوار بالادور المعادلة على الشكل التالي: "لقد مات الخمسة لأنهم فرنسيون. ماتوا لأنهم فرنسا"! هذا هو الشعور السائد في باريس. ان فرنسا هي المستهدفة، لذلك بادر وزيرا الخارجية والدفاع آلان جوبيه وفرنسوا ليوتار الى التوجه الى الجزائر بسرعة لأن البديل من ذلك كان اعلان الانسحاب الشامل من هناك وعدم الاكتفاء بسلسلة التدابير الاحترازية المتخذة لحماية من تبقى في مدن الجزائر. تدرج الموقف الفرنسي تبرر العملية رد الفعل الفرنسي، غير هذا الاخير لا يصبح مفهوماً الا عند ملاحظة التدرج في مواقف باريس حيال ما يجري في الجزائر منذ سنوات. فبعد الترحيب بالانفتاح والديموقراطية لم يكن ممكناً تأييد قطع "المسار الانتخابي" بحجة ان الاسلاميين قد ينتصرون فيه لذلك كان الرئيس فرنسوا ميتران يعبّر عن الرغبة في العودة السريعة الى اجراء الانتخابات. وعلى هذا الأساس جرى الترحيب بوصول محمد بوضياف الى الرئاسة وتركز الرهان على ان السلطة، بعد إضعاف "جبهة التحرير الوطني" ستنجح في إيجاد محور تواجه بواسطته "الجبهة الاسلامية للانقاذ" في صناديق الاقتراع. وحتى عندما كانت فرنسا تدعو الى الحوار فانها كانت توجّه طلبها الى الحكم بصفته تمنياً يستحسن التجاوب معه ليس الا. غير ان فرنسا تخلّت عن هذه السياسة منذ أشهر لتتحول نحو دعم غير مشروط للسلطة الجزائرية و"الحوارات الشكلية" التي تجريها مع قوى لا تتمتع بأي ثقل شعبي. وتجسد هذا التحول في نجاح الضغوط الفرنسية ضمن المجموعة الأوروبية وفي اطار "نادي باريس" من اجل منح الجزائر تسهيلات اقتصادية تتراوح بين جدولة الديون وبين فتح اعتمادات مصرفية جديدة. وباستمرار كان الموقف الرسمي يحظى بتعاطف شعبي خاصة عندما يبدو مهتماً بقطع الطريق على وصول الاسلاميين الى السلطة او مشاركتهم فيها. وفي حين نشأت جمعيات عديدة لتدافع عن "المثقفين الجزائريين" وعما يتعرضون له جرى الصمت عن تجاوزات السلطة الجزائرية ولم يهتم احد بتغطية عمليات القمع التي تطال مدنيين والتي يفترض فيها ان تحيي في الذاكرة الفرنسية صوراً مؤلمة. ملف الجالية الجزائرية لا شك في ان تاريخ العلاقة بين البلدين ألقى بثقله على المواقف السياسية: الامتناع عن قول رأي يصبح تخلياً والتعبير عن موقف يتحول الى تدخل مرفوض. ويزداد الوضع حساسية من أن معركة الاسلاميين في الجزائر تخاض، حسب مصطلحاتهم، ضد "حزب فرنسا" الذي يريد فرض العلمانية في وجه الدين وإحلال الفرنسية محل العربية والعودة الى تهديد "الثوابت الوطنية". ويزداد الامر تعقيداً مع وجود حوالي عشرة آلاف فرنسي في الجزائر اصبحوا الآن أقل من ألف وعشرات الآلاف من حملة الجنسية المزدوجة ومن الترابط الاقتصادي والتجاري الوثيق بين البلدين. غير ان واحدة من القضايا المهمة هي أن اكثر من مليون جزائري يعيشون في فرنسا. صحيح ان معظم هؤلاء غير متأثرين بالدعاية الأصولية وان مؤسسات فرنسية تتعاون مع القبائليين بينهم، غير ان انتشار العدوى على نطاق واسع يبقى وارداً وهو قد يتحول الى "خطر" في حال اصاب الجاليات المغاربية الاخرى ومعها المجموعات الاسلامية الآسيوية والتركية. سعت فرنسا الى مداراة هذا الهم بتشديد الرقابة البوليسية وبتشجيع انشاء معاهد لتخريج الوعّاظ واستعانت بخبرات مغربية في هذا المجال. غير ان انعقاد ازمة الهجرة على ازمة البطالة على ازمة المدن وضواحي البؤس انتج مزيجاً متفجراً تجسد في العنف الذي رافق تظاهرات مطلبية وهو عنف كان في وسعه الامتداد في حال نفخ الاصوليون في ناره. لقد نجحت سياسة "الضبط" الفرنسية الى حد ما وبدت الازمة المعروفة بپ"ازمة الحجاب" زوبعة في فنجان غير ان هذا لا يحل معضلات سياسية كبرى واجهت السلوك الفرنسي. فمنذ 1990 وخطاب "لابول" الشهير الذي ألقاه ميتران في القمة التي جمعته الى القادة الافارقة والسياسة الرسمية الفرنسية تربط تطور العلاقات الاقتصادية والمساعدات بمدى التقدم الذي تحققه دول القارة السمراء في مجالات الديموقراطية والتعددية وحقوق الانسان. فشلت هذه السياسة في الجزائر حيث كاد الاسلاميون يصلون الى السلطة عبر الاقتراع الحر فتراجعت فرنسا عن سياستها من غير ان تسحبها رسمياً وكانت حجتها في ذلك ان المطلوب دعم القمع الحالي خوفاً من قمع محتمل وانه لا يجوز السماح لأعداء الديموقراطية باستخدامها من اجل الغائها. لم تقنع هذه الحجة اسلاميي الجزائر الذين اعتبروا، مرة اخرى، ان "الغرب يكيل بمكيالين" وان فرنسا هي قائدة هذا "الاعتداء" عليهم. ولما تكاثرت الاعتداءات على الاجانب، والفرنسيين منهم تحديداً، وبدا ان السلطة الجزائرية في خطر، برز في فرنسا خوف جديد: ان يؤدي قيام سلطة اسلامية على الضفة الجنوبية من المتوسط الى اطلاق موجة هجرة في اتجاه الشمال تنسف السياسة التي يضعها اليمين موضع التطبيق. حسابات باريس هذه الاعتبارات كلها تتدخل في صياغة الموقف الفرنسي حيال احداث الجزائر وهو موقف يقوم على الاعتبارات التالية: أولاً: اذا كان الوضع الحالي سيئاً فإن وصول الاسلاميين الى السلطة هو الأسوأ. وترفض باريس، في هذا المجال، التمييز بين "معتدلين" و"متطرفين" وتتذكر الى أين قاد هذا التمييز، في الحال الايرانية، وكيف كاد الرئيس الاميركي رونالد ريغان يدفع ثمنه غالياً. وعلى هذا الأساس لا تتورع باريس عن اعتقال "معتدلين" اسلاميين من أنصار "الانقاذ" بعد عملية يقوم بها "المتطرفون" من أتباع "الجماعة الاسلامية المسلحة". ثانياً: ان فرنسا مستهدفة اكثر من غيرها من القوى الغربية وعلى هذا الأساس لا يجب تقييد اليدين في انتظار موقف أوروبي أو غربي عام. ثمة سياسة مستقلة في أفريقيا كما في رواندا مثلا وعلى الآخرين الاقتداء بالسلوك الفرنسي وليس العكس. ثالثاً: ان الأزمة في الجزائر اقتصادية - اجتماعية اساساً وعليه يمكن الرهان على ان اراحة الوضع لهذه الناحية كفيلة بإنهاء المشكلة. رابعاً: بالاضافة الى هذه العوامل تتميز فرنسا بأنها تعتبر ان الخطر ليس في استلام الاصوليين الحكم فقط بل، أيضاً، في مباشرة الحوار معهم. وينهض هذا التشخيص للوضع على دراسة وضعها فريق مختص وجرى الاخذ بها. وقد توصلت هذه الدراسة الى القول بأن ثمة كتلة قوية ومتماسكة في الجزائر موجودة ضمن الجيش والاجهزة والمؤسسات "الحديثة" ومستندة الى قاعدة جغرافية - سكانية قبائلية وان هذه الاقلية المسلحة والجاهزة والممتلكة لميليشيات عازمة وقادرة على تفجير الوضع في الجزائر، وعلى نطاق واسع، بمجرد بدء الحوار مع الاسلاميين وتوفر مؤشرات على ان السلطة متجهة نحو تطبيع العلاقات مع المعتدلين بينهم وصولاً الى ايجاد صيغة اشراكهم في الحكم. ولا يتورع مسؤولون فرنسيون عن القول بأن الدعوة الى الحوار هي، في العمق، دعوة الى الحرب الأهلية وباب العنف الحالي سيبدو "لعب اطفال" امام العنف اللاحق والذي تستطيع الاقلية المشار اليها تفجيره. لذلك، يضيف هؤلاء، لا حل أمام هذا الانسداد في الوضع الا دعم السلطة الحالية ومساعدتها والكف عن دفعها نحو "فتح الحوار". غير ان المفارقة كامنة في ان الفرنسيين، والمتشددين بينهم، والمقربين من وزير الداخلية تحديدا لا يتورعون عن فتح الحوار مع الاسلاميين المعتدلين. ويعرف المعنيون بالوضع الجزائري ان ثمة محاضر اجتماع بين مبعوثي شارل باسكوا وبين الشيخ رابح كبير وان هذه المحاضر وصلت الى الشيخ عباسي مدني في سجنه وان السلطات الجزائرية اكتشفتها بمحض الصدفة. باسكوا والحسابات الانتخابية ان اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الفرنسية يدخل تعقيداً جديداً على السياسة المتبعة حيال الجزائر. لقد بات شبه محسوم ان الرئيس الجديد سيكون من اليمين الا اذا حصلت تطورات دراماتيكية غير منظورة ولا محسوبة. اكثر من ذلك سيكون الرئيس الجديد واحداً من اثنين: ادوار بالادور أو جاك شيراك. شارل باسكوا لا يلغي نفسه من السباق وهو يمكنه، في ظرف أمني دقيق، ان يبرز "كمنقذ". ولكن في أسوأ الاحوال بالنسبة اليه، فانه سيكون الناخب الكبير ضمن الاسرة الديغولية والصوت الذي يرجح احد الاثنين، ولذلك فانه لا يعارض ازمة محدودة تضعه في الصدارة وتزيد من قدرته على لعب هذا الدور. وقد لوحظ، في الأيام الأخيرة، انه تجاوز صلاحياته كوزير للداخلية وهو امر يقوم به منذ فترة للاعتداء على صلاحيات وزير الخارجية وذلك عبر لوم الولاياتالمتحدة والمانيا ثم بريطانيا على السياسة المتبعة حيال الاصوليين الجزائريين ولم يمتنع عن التصريح علناً بأنه طلب من وزارة الخارجية التحرك لاثارة هذا الموضوع عبر الطرق الديبلوماسية. سجال غربي وإذا كان باسكوا أثار، في هذا المجال، ازمة سياسية داخلية فانه كشف، في الوقت نفسه، عن "خصوصية" الموقف الفرنسي. لقد وصف احد المراقبين موقف باسكوا بأنه يعادل "وضع الولاياتالمتحدة وألمانيا وبريطانيا على لائحة الدول الداعمة للارهاب"، وفعل ذلك علناً بطريقة أدت الى سجال عنيف بين العواصم المعنية. تذرعت الولاياتالمتحدة بأن قوانينها تمنعها من حظر النشاط السياسي لأنور هدام. وأكدت بريطانيا وألمانيا ان منح اللجوء السياسي لا يعني التسامح مع حق "تنظيم نشاطات ارهابية". غير ان هذا السجال يخفي تعارضاً في النظر الى الأزمة الجزائرية والحلول المطروحة لها. فرنسا تعتبر، حتى الآن على الأقل، ان لا بديل من الوضع القائم. العواصم الاخرى تتحدث عن نقص في التمثيل. وعن ضرورة توسيع قاعدة السلطة والمشاركة فيها وذلك عبر الحوار مع الاسلاميين المعتدلين النابذين للعنف. وتبدو ايطاليا الاكثر تطرفاً اذ ان وزير خارجيتها يتهم السلطة الجزائرية بپ"فقدان اي شرعية". والواضح ان هذه المواقف لا تكلف اصحابها شيئاً فالسلطة الجزائرية في وضع يصعب عليها معه محاسبة احد ثم ان احتمالات التغيير لا تصيب واشنطن او لندن او بون بأي ضرر وذلك لحسن العلاقات مع بعض الاسلاميين، أولا، ولعدم توقع هجرة في هذا الاتجاه، ثانياً، وحدها فرنسا هي الواقعة بين المطرقة والسندان، الخائفة على نفوذها في افريقيا، المرتبكة في علاقاتها مع شمال القارة، الساعية الى اقفال أبوابها دون تدفق جديد للهاربين، والمدركة ان الحل الوحيد الذي تملكه "وضع البيض كله في سلة واحدة" وهو أسوأ الحلول وذلك، بالضبط، لأنه... الوحيد!