طوت لندن اخيراً صفحة مهرجانها السينمائي التاسع والثلاثين بعد 17 يوماً حافلة بالأفلام الاوروبية والآسيوية والأميركية والافريقية... والعربية. "الوسط" حضرت عروض المهرجان وحاولت قراءة ابرزها في التحقيق الآتي: صفق المشاهدون فيما توهجت الصالة بالضوء وأخذت الستارة تخفي شيئاً فشيئاً الشاشة الكبيرة حيث ارتسمت طيلة ثلاث ساعات مشاهد فيلم "كازينو"، شريط الختام في مهرجان لندن السينمائي التاسع والثلاثين. هكذا ودعت العاصمة البريطانية فنانين جاؤوها من انحاء العالم كله للمساهمة في صنع التظاهرة السينمائية التي تُنظم سنوياً. انفض الجمع وهدأت ضجة ملأت المكان على مدى 17 يوماً، وآن الأوان لمراجعة صور علقت في البال بعدما استل "النقاد" يراعاتهم للاحتفاء بالمناسبة وفرغوا من تدبيج مقالات تفوح منها رائحة الترجمة الرديئة! والمناخ النقدي المعتل مسؤول عن بعض علل السينما العربية التي تمثلت في المهرجان بفيلمين مصريين: "صبايا وبنات" للمخرج يسري نصرالله، و "ليلة ساخنة" الذي وقعه الراحل عاطف الطيب. الشريط الأول يتناول جوهر العلاقات بين شباب المجتمع المصري وبناته والهموم والأسئلة التي تشغل كل منهما على حدة. تتسع حدود الواقع الذي تلتقطه القصة ليمثل، رمزياً، مجتمعاً عربياً - لا مصرياً فحسب - يحاصره التشدد والعبث فيما تلوح بشائر الجديد التي يضيئها بحميمية وبساطة الفيلم الذي خصته "الوسط" انظر العدد 199 بقراءة وافية. لا بأس، اذن، ان نلتفت على عجل الى شريط عاطف الطيب. يعرض "ليلة ساخنة" وقائع ليلة عيد رأس السنة المشحون بمفاجآت غريبة يعيشها سائق التاكسي الطيب نور الشريف مع الفتاة حورية لبلبة على شوارع القاهرة، محاصراً بأحاسيس شتى من خطر وخوف والفة حميمة... ولا ننسى الابتسامات والدموع التي تنهمر خلال مطاردات لا تحبس الأنفاس او غناء لا يشنف الآذان وحواراً يقصيك عن الحكاية المكتظة بالميلودراما فتغرق في لجة الحيرة باحثاً عن اجابات، لأسئلة من قبيل كيف وقّع الدكتور رفيق الصبان، صاحب الصوت المتميز، هذا السيناريو العادي للغاية؟ فالحوار يشكو من استئثار حرفي بالواقع: الحديث يتبع سابقه في تسلسل رتيب ما يضيف الخناق على المشاهد ويحرمه من اعمال خياله في ما يرى. ويمعن السرد باستثمار عناصر ميلودرامية تتناثر على شكل كلمات ورصاص ووجوه دامية وأطفال بريئين... وهذه العناصر تبدو بمثابة الحشو الذي يمكن الاستغناء عنه لولا الرغبة الشديدة باستمالة شباك التذاكر. شقيقة البطلة، مثلاً، لم تكد تنطق بكلمات قليلة، حتى ان استبدالها بصورتها لم يكن ليحدث اي تأثير على سير الاحداث وما تطمح الى قوله. وحضور نور الشريف لم ينقذ الموقف خصوصاً ان أداء شريكته في البطولة لبلبة كان عادياً، في أحسن الاحوال. فهي لعبت برتابة دور الفتاة المغلوبة على أمرها التي تضطرها الحاجة الى بيع جسدها. وقلما تبدلت معالم وجهها وطريقة القائها تبدلاً حاداً ينبي بارتفاع نبض الحالة النفسية في المشهد او بانتقال مفاجئ من موقف الى نقيضه. بدت الفنانة المخضرمة ممثلة تفتقر الى العفوية التي تمتع نور الشريف بقسط وافر منها. والعفوية ذاتها غابت عن مشاهد كثيرة، منها الشجار الذي نشب بين السائق والمراهقين الذين حاولوا التحرش بحورية خارج الملهى. اطالة مشهد الشجار في وقت كانت لقطة قصيرة تفي بالمطلوب، تدل الى الفرق الشاسع بين شريط عاطف الطيب وفيلم المخرج سبايك لي "كلوكرز" بائع المخدرات على مدار الساعة او شريط مارتن سكورسيزي "كازينو". العنف في الفيلمين الاميركيين حاضر في أقسى تجلياته، الا انه مفصل على قياس السرد فلا ضربة زائدة ولا رصاصة تنطلق من دون هدف فني، مع ان الصراع الدامي هو لبنة اساسية في المعمار الفني لكل من الفيلمين. العنف يرسم حدود عالم المافيا والجريمة المعششة في أوكار القمار في لاس فيغاس، حيث تدور أحداث "كازينو"، والحبكة قصيرة على رغم طول الفيلم 3 ساعات اذ تبدو بعض مشاهده نسخ موضوعة بتصرف عن بعضها البعض. يتزوج البطلان روبرت دي نيرو وشارون ستون جينجر في كازينو "طنجة" الذي يديره دي نيرو. غير ان العروس لا تكف عن الاتصال بصديقها السابق متجاهلة تهديدات زوجها ومتنكرة للحب والأموال التي أغدقها عليها. ثم تحاول التخلص منه بعدما تخونه مع نيكي جوبسكي المجرم القاسي القلب الذي خاصم صديقه السابق دي نيرو وأخذ ينافسه على النفوذ والثروة. قد يكون الشريط دليلاً على ان الموازنة الهائلة والتأثيرات الخاصة الباهظة التي أدمنتها هوليوود من شأنها ان تجعل العمل مثيراً لا بل مذهلاً، لكن الاثارة المفرطة لا تعني الجودة والابتكار ابداً. فالفيلم لا يسبر العالم الداخلي للبطلين جيداً بل يكتفي بملامسة سطح شخصية الزوجة خصوصاً، مع ان البعد السيكولوجي في دراما تقوم على الخيانة والحب أمر بالغ الأهمية. والعنف لا هوية ثابتة له في الفيلم، فهو مرعب تارة لا يقوى المشاهد على رؤية بعض أمثلته، ويكاد يكون "مضحكاً" لا يخلو من "الطرافة" في حين آخر. الحياة "السوداء" المخرج الأميركي سبايك لي نجا من مطب استغلال مناظر القتل كمصدر للاثارة وحدها في فيلمه الجديد "كلوكرز" الذي يقارب هو الآخر عالم تسود فيه الجريمة. اذ يعالج الشريط مشكلة اجتماعية بالغة التعقيد: المخدرات وأثرها المدمر على الفرد والعائلة. وصاحب فيلم "مالكوم اكس" الذي دأب على اثارة الجدل منذ باكورته - مخرجاً وممثلاً - في 1986، لم يزل على عهده منشغلاً بحياة الأفارقة الاميركيين ابناء جلدته السود. وهو لا يعتذر عن الحاحه على هذا الهم الذي جرّ عليه غير مرة تهمة "العنصرية المعكوسة" لا بل استغرب في مؤتمر صحافي في لندن ان احداً "لم يسأل فيلليني: لماذا عالجت في أفلامك كلها طريقة الحياة الايطالية ... او لم يقل لوودي ألن: لماذا تدور افلامك كلها حول نمط الحياة البيضاء في نيويورك؟". غير ان حرص سبايك لي على سبر هموم الاميركيين السود لم يمنعه من ابراز الخراب الذي تلحقه المخدرات بحياة مواطنيه من ذوي البشرة البيضاء. وهؤلاء يظهرون في الفيلم من خلال رجال الشرطة الذين يعاملون المراهقين الزنوج بصلف وقسوة واضحين. الا ان المحقق الابيض روكو كلين هارفي كيتل ليس شخصية بسيطة مرسومة بالأبيض والاسود، بل هو كبائع المخدرات الاسود سترايك ديلوري ليندو رجل تنتابه نوازع متباينة تتراوح بين الخير والشر. والاثنان يصنعان معاً الحبكة الرئيسية للفيلم التي تبدأ بمقتل بائع مخدرات يعترف شقيق سترايك - رب العائلة الطيب - باغتياله من دون ان يقنع المحقق كلين الذي يلاحق سترايك بدأب عجيب ظناً منه انه المجرم الحقيقي. وعدا تقديم المحقق وبائع المخدرات كشخصيتين معقدتين، في الفيلم علامات اخرى تدل الى محاولة المخرج تجديد نمط افلام المخدرات وخرق قواعدها التقليدية. فالفنان، الذي يعلن استنكافه المطلق عن صناعة افلام جل غايتها الامتاع وحده، اعطى المرأة دوراً ايجابياً فهي الأم او الزوجة التي تتصدى بشجاعة وموضوعية لتجارة الموت. وهو ايضاً انهى الفيلم نهاية تنطوي على الامل الذي تفتقر اليه افلام المخدرات عادة. والمخرج الشاب تعاون على انجاز الشريط مع مواهب جديدة لعل ابرزها الممثل ديلوري ليندو ومدير التصوير مالك حسن سيد اللذان يساهمان للمرة الأولى في صناعة فيلم طويل. حياة السود الطافحة بالألم وتعاطيهم الصعب مع أصحاب البشرة البيضاء هي ايضاً الموضوع المركزي في فيلم "ابك ايتها البلاد الحبيبة" الذي وقعه مخرج شاب آخر هو الجنوب افريقي داريل جيمس روود 33 عاماً. والشريط، الذي اقتبست قصته عن رواية آلان باتون أديب جنوب افريقيا الابيض المناهض للعنصرية، يسجل رحلة كاهن اسود جيمس ايرل جونز أواخر الاربعينات من قريته الى جوهانسبرغ بحثاً عن عائلته. وهناك يلتقي جاره الاقطاعي الابيض ريتشارد هاريس الذي أتى الى العاصمة اثر مقتل ابنه الوحيد على يد لص هو ولد الكاهن الاسود مع ان المغدور كان متعاطفاً الى أبعد الحدود مع الأفارقة اهل البلاد الذين عوملوا باجحاف على رغم ان التمييز العنصري لم يكن بعد قد تحول الى مجموعة من القوانين الرسمية النافذة. في هذا المناخ ارتفع وقتذاك الخوف حاجزاً بين الطرفين استطاع الكاهن والاقطاعي تخطيه بعدما فقدا ولديهما - احدهما قُتل والآخر أُعدم عقاباً له على جريمته - وجيمس ايرل جونز خطف بادائه البارع شخصية الكاهن البسيط الضوء من الممثل الايرلندي المخضرم ريتشارد هاريس الذي تمكن ايضاً من تجسيد المشاعر المتناقضة التي انتابت الأب ودفعته الى التخلي عن قسوته التي بقيت مضمرة. وبخلاف الرجلين اللذين فجعا بولديهما في "ابك ايتها البلاد الحبيبة"، قطبا النزاع لا يتصالحان في الشريط الفرنسي "الحقد" الذي وقعه المخرج الشاب ماثيو كازوفيتس ولعب ادواره الرئيسية فينسنت كاسيل اليهودي فنيز وهوبرت كونري الاسود هوبرت وسعيد تغماوي العربي سعيد. عبر هؤلاء الثلاثة يقدم المخرج مشاهد كالحة تمثل حياة الشباب الفرنسي الذي يتفرغ للعنف والجريمة والمخدرات بسبب حرمانه من فرصة عمل. والشباب الذين يعيشون على الهامش بفعل اصولهم "الاجنبية"، ناهيك عن بطالتهم، ينهمكون في مواجهة مستمرة مع رجال الشرطة. الهوة بين الجانبين واسعة ولا سبيل الى ردمها، ورجال الشرطة هم الذين يتحملون القسط الاكبر من المسؤولية، على رغم ان الفيلم - المصور بالأبيض والأسود - لا يقدم الشرطة كنماذج شريرة بل يضيء جوانب طيبة لدى بعضهم. الذين يتحركون مثل باقي الشخصيات بحرية وعفوية. والافلام الفرنسية التي عرضت في المهرجان كثيرة، لعل من أهمها "خيال على السطح" الذي وقعه جان بول راينو صاحب "سيرانو دي بيرجراك". وعدا فيلم "خلف الغيوم" انتاج فرنسي - ايطالي - الماني الذي عاد معه المخرج مايكل انجلو انطونيوني بعد غياب دام اكثر من عشر سنوات عن الشاشة الكبيرة، استقطب شريط "البؤساء" الذي اقتبسه المخرج كلود ليلوش عن رواية فيكتور هوغو وتقمص شخصياته الاساسية جان بول بلموندو وآني جيرارد وميشال بوجناح... نتاج بريطاني الأفلام البريطانية هي الاخرى كثيرة ازدحم بها برنامج المهرجان. وبين هذه التشكيلة الواسعة جديد كينيث براناه الاخراجي "في منتصف الشتاء الكئيب" الكوميدي الذي أدت احد ادواره جون كولينز، و "طفل سايغون" حيث لعب جون هارت دور رجل شرير يتاجر بالأطفال الصغار. ووقع الفيلم الويلزي "صناعة الخرائط" المخرج انداف ايملين الذي اشتهر بعد انجازه "الرحيل عن لنين" الفائز باحدى جوائز مهرجان لندن السينمائي في 1993. والفيلم يشبه قصيدة طويلة تنضح بالنوستالجيا وتغرق مفرداتها في عالم طفولة تغشاه الأحلام السرية والتمزق العائلية والعلاقة المتوترة الصعبة غالباً مع الكبار. الفيلم الويلزي الآخر "حياة الشارع" يختلف كثيراً عن سابقه، فلا طبيعة المنطقة الخلابة تشكل خلفية للأحداث ولا الأسلوب مجازي مفعم بالدلالات النفسية التي لا يعبر عنها الشخوص بصراحة. شريط "حياة الشارع"، الذي كتب قصته وأخرجه كارل فرانسيس، هو اقرب الى "كلوكرز" و "الحقد"... وغيرهما من الافلام التي التزمت الواقعية نهجاً فنياً لمقاربة هموم الفقراء. وحياة هؤلاء الذين يسلط عليهم فرانسيس الضوء، تفيض بالقسوة والسخرية والمعاناة والحب... هذه كلها تتجسد في قصة البطلة جو هيلين ماكروري التي تنتصر على ذكريات طفولة شوهتها اعتداءات والد "وحش" وتتغلب على الاحساس التراجيدي بالفشل في زواج سابق اثمر عن طفلتها الوحيدة، وتتطلع الى المستقبل بأمل. اذ تجلس على مقعد الدراسة بقصد نهل المعرفة وتحسين مستواها المعيشي، كما تبدأ قصة حب مع شاب متزوج تملأ عليها حياتها. لكن فجأة تدرك انها حامل وتواجه الازمة تلو الاخرى، فأختها تفشل في محاولة الاقلاع عن تعاطي الهيروين وتُنقل امها الى المستشفى في وضع سيئ آخذ بالتدهور، ثم تكتشف ان حبيبها كيفن يخونها مع احدى زميلاتها في العمل. هذه "الكوارث" الصغيرة التي تتكدس على كتفي الفتاة لا تجردها من صلابتها فهي لا تنهار على رغم قسوة الحياة. الا انها تبادر الى قتل وليدتها الصغيرة لدى رؤيتها النور في منطقة منعزلة. وهي تعترف بجريمتها - التي حملها على ارتكابها ظلم الناس وظلم الظروف - أمام رجل شرطة يوقظ فيها شهامتها وصدقها البريء. الفيلم كغيره من اعمال كارل فرانسيس، يفتقر الى الاثارة. الا ان هذا لا يعيبه، ولعل ذلك نتيجة طبيعية لاصرار المخرج المتمرس على الاقتراب من الواقع قدر الممكن والتقاط نبض حياته ونسغها الدفين لا قشورها فحسب. وعدا الافلام الفرنسية والبريطانية حفل المهرجان بأحدث نتاج السينما الاوروبية من اشرطة المانية وايطالية واسبانية ويونانية... اهم الافلام الاخيرة المعروضة هو "تحديق أوليس" الذي اخرجه ثيو انجيلوبولوس حائز جائزة افضل مخرج في مهرجان "كان" الفرنسي لهذا العام، فيما لقي شريط المخرج الاسباني بيدرو المودوفار "وردة سرية" اهتماماً فاق ما حظيت به الأفلام الاسبانية الاخرى. وقصة الفيلم التي كتبها "المشاغب" المودوفار ايضاً تتناول حياة سيدة ذبل شبابها، بخلاف بطلة فيلم وودي الن "افروديت الجبارة" ومحور قصته. فصاحبة الدور الرئيسي في فيلم ألمودوفار ليو مارسيا باريديس تبدو اقرب الى الضعف وقد هدها فراق زوجها ثم قراره الانفصال عنها. خيانة الزوج مع أعز صديقاتها تمعن في شل قدرة ليو على تأليف القصص الرومانسية الرائجة التي توقعها باسم مستعار. لكن، من يدري ربما كان نجاح محاولات الصديق الصحافي بالتقرب منها فاتحة نتاج رومانسي خصب أعطت باكورته للفيلم عنوانه. يسبر الشريط العزلة الانسانية عبر شخصية ليو ويضيء خطوط التماس بين الواقع والخيال الأدبي اللذين لا يني احدهما يؤثر بالآخر. وهو يمثل مرحلة جديدة في حياة المخرج والمؤلف والممثل المودوفار ضبط فيها رغبته باثارة الجدل فتخلى بذلك عن احدى العلامات الفارقة التي ميزت نتاجه الابداعي. هذا التجديد في الادوات والموضوعات لم يجرد العمل من الرونق الاسلوبي المدهش والبريق الذي توهجت به معظم أفلام المودفار. وهو قال ل "الوسط" ان في الشريط شيئاً من السيرة الذاتية، فشخصية الأم مثلاً تحمل الكثير من صفات والدة المخرج، والقرية التي "تهرب" اليها ليو تكاد تكون ضيعة ألمودفار ذاتها. وأكد لنا اعجابه الشديد بالأديب الاميركي "بول بونر" قائلاً "كنت اود ان اصنع من قصته "وقت للصداقة" فيلماً طويلاً لكن النص قصير وعجزت عن ايجاد ممثلين قادرين على لعب الادوار الرئيسية".