سادت ردود فعل نتائج الانتخابات المصرية درجة من الانفلات، جعلت من الصعب الإمساك بمفاتيح تحليلها، خصوصاً ان غبار المعركة الانتخابية لا يزال كثيفاً، وهي معركة فتحت جراحاً ساخنة لدى الاحزاب، يحتاج تضميدها الى بعض الوقت. فاز الحزب الوطني الحاكم بغالبية برلمانية ساحقة. وضمرت مقاعد المعارضة البرلمانية الحزبية الى نحو 15 مقعداً بعدما كانت 58 مقعداً في برلمان 1984، و98 مقعداً في برلمان 1987. لكنها بمعيار آخر - غير دقيق بسبب مقاطعة معظم المعارضة للانتخابات - زادت على برلمان 1990 بنحو 9 نواب. والواضح حتى الآن ان الفوز بغالبية ساحقة لن يعفي الحزب الوطني الحاكم من مواجهة تحديات جدية ومشكلات شائكة. وسيقرر اسلوب تعامله معها، مدى القدرة على احتواء الموقف الذي باتت تستشعر دقته اوساط ذات وزن فيه. فأحزاب المعارضة التي دخلت البرلمان او لم تدخل، التقت عند شجب النتائج. فهي عند حزب الوفد "أسوأ انتخابات في تاريخ مصر". وعند بقية المعارضة محصلة "للتزوير والبلطجة". وهو ما نفته الجهات الرسمية ووصفته بأنه تغطية من المعارضة لفشلها. والمؤكد ان نتائج الانتخابات ستطلق عملية مراجعة بين مختلف الاحزاب والقوى السياسية، خصوصاً الحزب الحاكم. واذا صح ان حل مشكلة ما يستتبعه ظهور مشكلة جديدة تتطلب حلاً بدورها، فإن هذا ينطبق على مشكلات تتحكم في مجمل التطورات المقبلة. ولعل اسرعها مباشرة المأزق الذي قد ينجم عن تنفيذ - او عدم تنفيذ - احكام محكمة القضاء الاداري التي صدرت قبل ساعات من اجراء الجولة الثانية للانتخابات، وقضت بوقف قرار وزير الداخلية باعلان نتائج انتخابات الجولة الاولى في نحو 26 دائرة انتخابية. كما قضت باعادة الانتخابات في هذه الدوائر، وقد قدمت الحكومة استشكالات امام القضاء لوقف تنفيذ هذه الاحكام. واذا كان صحيحاً ان الانتخابات عادة ما تشهد مثل هذه الدعاوى والاجراءات القانونية وانها تمتد لبعض الوقت وتعرض نتائجها على البرلمان نفسه للبت فيها، فالصحيح ايضاً ان سرعة ظهور المشكلة وبهذا الحجم ستضيف مادة جديدة تدعم بها المعارضة شكوكها. وأولى المشكلات وأخطرها، ان ضمور المعارضة النيابية يؤثر على الوضع الحزبي والسياسي العام. فهو يسبب حرجاً بالغاً لأحزاب المعارضة امام قواعدها وأمام الرأي العام، أياً كانت المبررات. وهو ايضاً لن يؤدي الى تغليب قوة على اخرى، ولا اتجاه على آخر، وانما يؤدي الى تقليص قوة الجميع. وهنا لا يصبح الخطر الرئيسي هو محدودية او عدم محدودية المعارضة او الديموقراطية، بل تآكل مجمل الشرعية الحزبية. فعدم قدرة احزاب المعارضة على الحفاظ على دورها وكيانها يخلق جواً من عدم الاستقرار يزيد من المشاكل الامنية ويروج لمقولات تنادي بإفلاس الاحزاب والديموقراطية معاً. ويزيد من حساسية الامر انه لم يصدر حتى الآن عن الحزب الحاكم او صحافته، ما يفيد بأنه يضع يده على ابعاد ما قد ينجم عن ضمور المعارضة وبالتالي تقليص الحياة الحزبية. لا شيء سوى حديث صحافي قديم أدلى به الرئيس حسني مبارك، وحذر فيه من ان فض الحياة الحزبية لن يؤدي إلا الى ما وصفه ب "البديل الخطير المخيف". ويزيد من سلبيات النتائج المحتملة لضمور المعارضة انه يأتي في وقت يشهد المجتمع المصري ظاهرة نهوض متعدد الجوانب لما يمكن تسميته "جماهير الطبقة الوسطى" التي صعدت من مطالبها في ادارة مشكلات المجتمع وحلها. ويدل على ذلك كشف حسابات السنوات الماضية. ولما كانت هذه الفئات تمثل صمام الأمان والاستقرار في المجتمع، فإن ضمان تمثيلها للأحزاب، يسد الطريق امام اي تطورات سلبية قد تؤدي الى ازمة مستحكمة ليست في مصلحة احد، سواء كان الحزب الحاكم او احزاب المعارضة التي تتمسك بالحل الديموقراطي. وهكذا، يصبح مطروحاً التساؤل عن مصير الاحزاب بعد نتائج الانتخابات التي لن تكون هينة على اي منها. اهمية هذا التساؤل بحقيقة ان عدد مرشحي الاحزاب مجتمعة لم يزد على 900 مرشح في مقابل اكثر من 3 آلاف مرشح من المستقلين، ما يعني ان حجم الحزبيين لا يمثل الا 30 في المئة من المرشحين، بعد 19 عاماً من تجربة التعدد الحزبي بدأت عام 1976. ضعف التوازن البرلماني والحاصل ان البرلمان الجديد، منوط به - حسب تصريح رئيس الوزراء - تشريع قوانين مهمة وحساسة، اجتماعياً واقتصادياً، بهدف استكمال برنامج الحكومة "للاصلاح الاقتصادي"، اي لمزيد من الملاءمة مع اقتصاديات السوق. ويزيد من حساسية الامر انه يتم في تفاعل مع ظروف مجتمعية معقدة ومتوترة تتجاوز الحسابات الحزبية الضيقة. فيما كان يقتضي درجة مناسبة من التوافق القومي من خلال الجدل البرلماني الذي يعبر عن مصالح وسياسات الاتجاهات الاجتماعية المختلفة التي تعبر عنها احزاب المعارضة. والأرجح ان ضعف تمثيل المعارضة في البرلمان سيقلل من فرص التوافق القومي البرلماني ومن ضبط توازن بعض التشريعات ونتائجها، مثلما يؤدي الى ضعف أداء العمل البرلماني للمعارضة المنوط بها مهمة رقابة الرأي الآخر، خصوصاً ان قيادات من احزاب المعارضة التي قاطعت انتخابات 1990، دخلت انتخابات عام 1995 بكل جهد وبدوافع كثيرة، من اهمها ما يمكن ان يدرج تحت عنوان تصحيح نتيجة المقاطعة السابقة. وليس سراً ان جزءاً من هذا التصحيح، كان سيطال اجنحة متشددة - هنا وهناك - اتخذت من ضعف تمثيل المعارضة في اهم منبر سياسي للتأثير البرلمان، مبرراً للجنوح نحو سياسات وممارسات متشددة كثيراً ما وصفها الحزب الحاكم ب "التجاوزات". وليس سراً ايضاً ان قيادات حزبية معارضة كانت اعدت لتغييرات في هذا الصدد، لكن نتائج الانتخابات قطعت عليها الطريق. وعلى رغم السخونة السياسية للانتخابات، تكشف بعض أرقام نتائجها انها لم تجذب الى صناديق الاقتراع إلا نصف عدد الناخبين وأن نسبة الحضور تدنت في المدن الكبرى الى نحو 12 في المئة فقط. وعلى الاحزاب ان تحدد ممن تتألف عناصر النصف الصامت بشكل عام والكتلة الكبيرة الصامتة في المدن، خصوصاً من هيئة الناخبين 21 مليوناً. وهي مشكلة لن يقع حلها على الحزب الوطني بمفرده بصفته حزب الغالبية حتى وإن حمّلته احزاب المعارضة المسؤولية الاولى عن امتناع الصامتين عن التصويت. فاذا كانت غالبية الصامتين من الاجيال الشابة، فإلى اي حد إذن يمكن تسييس هذه الكتلة؟ والى اي مدى تقبل او لا بلعبة الانتخابات؟ واذا كانت غالبيتها عازفة عن العمل السياسي، فذلك يطرح مدى فعالية الاحزاب؟ وربما يشكل هذا الحجم احتياطياً صامتاً لأي قوة لا تؤمن بالديموقراطية سبيلاً لحل مشكلات الجميع. والصعوبة الكبرى في هذه المشكلة ان الصامتين يصدرون "الفيتو" لا ضد حزب بعينه وإنما ضد جميع الاحزاب. إحباط الأقباط وليس سراً ان مراجع وأوساط المواطنين الاقباط لم يخفوا شعورهم بالاحباط، سواء من ضعف ترشيح الاحزاب لمرشحين اقباط او من النتائج النهائية، فمن جهة لم يدرج الحزب الوطني على قائمة مرشحيه اي شخصية قبطية، كما ان اجمالي ما رشحته احزاب المعارضة منهم لم يزد كثيراً على عشرة. وبلغ هذا الاحباط ذروته مع بعض الممارسات ذات الطابع الطائفي التي مارسها نفر قليل من مرشحي الوطني دائرة الظاهر والعمل والاخوان في شبرا. الامر الذي انعكس في تصريحات المراجع العليا لدوائر الاقباط. ولعل ابرزها ما نسبته صحيفة "الاهالي" الى البابا شنودة من تصريحات قال فيها "ان الدولة قادرة على وضع النظم الديموقراطية التي ينجح فيها الاقباط، كما وضعت من قبل نظاماً ينجح من خلاله العمال والفلاحون" اي ضمان تمثيلهم بنسبة 50 في المئة على الاقل في البرلمان. والأمر الذي قد يشي الى المطالبة بضمان تمثيل نسبي للأقباط، قوله ان "برلماناً بلا أقباط منتخبين يعد اساءة الى الوحدة الوطنية". ويثير ذلك كله، خشية ان ما رفض عام 1923 قد يطرح الآن في عام 1995. ويشار الى ان لجنة اعداد دستور 1923 كانت اقترحت تخصيص نسبة للأقباط في البرلمان، ولكن الحركة الوطنية رفضته، أقباطاً ومسلمين. تضميد جراح المعركة واللافت ان ثمة نغمة في الصحف غير الحزبية تقول بعد تأكيد "نزاهة الادارة والشرطة وسلامة الانتخابات" بأن "هناك تجاوزات حدثت بالفعل". ومع انها لا تقيم حجم هذه التجاوزات وتأثيرها على النتيجة النهائية، إلا انه يوجد بالفعل في بعض اوساط الحزب الوطني من يقول بأن هذه التجاوزات لم يكن من الممكن تداركها فحسب بل انه لم يكن هناك اي مبرر لوقوعها، لا سيما ان الحزب الوطني "كان سيحصل على الغالبية من واقع انه حزب الغالبية بالفعل". ولعل ذلك ما يبرر تفسير معلومات تفيد بأن هذه الاوساط تطالب باغلاق ملف الانتخابات تماماً والالتفات الى المستقبل مع عدم استفزاز الاحزاب التي لم تمثل في البرلمان، وأبدت رغبتها في ضرورة تضميد جراح المعركة عبر مجموعة من الاقتراحات. الا ان الجميع ينتظر رد فعل المعارضة وخططها، ليس فقط بالنسبة الى نتائج الانتخابات، بل بالنسبة الى استراتيجيتها المقبلة، وهي استراتيجية يتوقع كثيرون ان تقطع مع الماضي.