بعض المفارقات يتكرر كقدر او كتقليد. من ذلك مثلا في الانتخابات المصرية، أن تتأهب لها أحزاب المعارضة بأقصى درجات التكاتف والعلاقة الجبهوية. ولا تلبث أن تتآكل بعد فتح باب الترشيح، لتشهد مع اقتراب موعد الاقتراع "حرباً باردة" يجري فيها تبادل إطلاق "الدانات السياسية" من العيار الثقيل فضلا عن الضربات تحت الحزام. حدث ذلك في انتخابات آيار مايو 1984، بعد مضي شهرين فقط على انعقاد "لجنة الدفاع عن الديموقراطية" للمعارضة التي التزمت فيها مواقف موحدة بلغت حد الاتفاق على قوائم مشتركة من المرشحين. وتكرر الشيء نفسه في انتخابات نيسان ابريل 1987، بعد مضي شهرين فقط ايضا على انعقاد "المؤتمر السياسي لأحزاب المعارضة" عندما وقف رؤساؤها على المنصة متشابكي الايدي، في أول وآخر صورة فريدة من نوعها، على رأس حشد جماهيري ضخم تحت شعار "التغيير الديموقراطي الشامل". ولما أوشك الناخبون على التوجه الى صناديق الانتخاب، تطايرت "دانات" الاتهام وتوزعت على من أُطلق عليهم "الكفرة الملحدون" و"الاقطاعيون الباشوات من أشباح الماضي" و"المتأسلمون مشجعو الإرهاب"، فضلا عن "ضربات" الطعن بتلقي الاموال من الخارج والتواطؤ مع الحزب الحاكم. اما سبب عدم تكرار "الحرب الباردة" بين المعارضة في انتخابات تشرين الثاني نوفمبر 1990، أن غالبية أحزابها ما عدا حزب التجمع قاطعتها. فكيف يبدو الوضع هذه المرة قبل ايام من موعد الانتخابات؟ لقد بلغ اجمالي عدد المرشحين حتى إغلاق باب الترشيح 4277 مرشحاً يتنافسون على 444 مقعدا نيابيا. تقدم منهم عن الحزب الوطني الحاكم، رسميا، 339 مرشحا. وبلغ عدد المرشحين المنشقين عليه لأنه لم يدرجهم على قوائمه الرسمية نحو 1350 مرشحا تحت صيغة مستقلين. والمرجح أن تعود إليه غالبية الفائزين منهم. اما قوى المعارضة الرئيسية، فبلغ اجمالي مرشحيها نحو ألف مرشح، موزعين كالآتي: الوفد 182 الاخوان 150 العمل 120 الاحرار 61 الناصري 44 التجمع 40. إضافة إلى نحو مئة مرشح عن الاحزاب الصغيرة المعارضة. ونحو مئة من المنشقين، بعضهم عن حزب العمل منذ 1989 وبعضهم عن الحزب الناصري، إضافة إلى نحو 20 مرشحا ينتمون الى تنظيمات شيوعية لم يسمح لها بإنشاء أحزاب سياسية. وكانت أحزاب المعارضة بدأت التأهب للانتخابات مبكراً، فتوصلت بعد اجتماعات عدة الى توقيع "مذكرة رؤساء الاحزاب حول ضمانات الانتخابات" التي رفعتها في حزيران يونيو 1995 إلى رئيس الجمهورية، مطالبة فيها بتوفير مجموعة من الضمانات لاجراء انتخابات حرة ونزيهة وتأكيد الفصل بين الحزب الحاكم والدولة وايقاف العمل بقانون الطوارئ مع قرار دعوة الناخبين الى الانتخابات. ووقع المذكرة رؤساء أحزاب الوفد والتجمع والعمل والاحرار والناصري ومصر والخضر، وممثل عن كل من الاخوان والشيوعيين. والملاحظ أن صحف المعارضة نشرت نص المذكرة في ايلول سبتمبر 1995، فيما فسره البعض بتعويض عدم الاتفاق على "ميثاق الوفاق الوطني" الذي تفاوضت عليه احزاب المعارضة وأودع "الثلاجة". على صعيد جبهة اليسار، فإن إجراء الانتخابات بعد المواجهة المسلحة بين الحكومة والجماعات الإسلامية المتطرفة من جهة، وتصاعد المواجهة السياسية بين الحزب الحاكم وجماعة الاخوان المحظورة من جهة ثانية، ودخول الحزب الناصري الانتخابات للمرة الاولى كحزب مشهر، كل ذلك من المفترض أن يتيح فرصا أوسع لليسار. وفي هذا السياق عقد حزبا التجمع والناصري اجتماعات للتنسيق وضمان اكبر مساحة من "عدم الاشتباك" في الدوائر التي أمكن عدم التنافس فيها. ومع هذا بقيت ثلاث دوائر مفتوحة لتنافسهما على مقعد العمال في كل من امبابة والمحلة وكفر الدوار. وعلى تخوم اليسار والليبرالية، توقع التجمع ان يبادله الوفد المجاملة، حين قرر الأول عدم المنافسة في بعض الدوائر عابدين - الوايلي - الظاهر - درين ودائرة قصر النيل التي سببت مشاكل تنظيمية للتجمع بإعلان أمينه فيها الانسحاب من الحزب احتجاجا. وهي الدائرة التي اخلى فيها التجمع المقعد لياسين سراج الدين باعتباره "الاقرب الى قمة رئاسة الوفد". لكن الوفد "جامل" الاخوان والعمل، في دوائر كل من المأمون الهضيبي الدقي وسيف الاسلام حسن البنا الدرب الاحمر وابراهيم شكري شربين وعدد اخر غيرها، إما بعدم ترشيح منافس اصلاً، او بتقديم مرشح لا يمر. وعلى عكس ذلك، رُشح منافس يستند الى عصبية كبيرة امام خالد محيي الدين رئيس حزب التجمع في دائرة كفر شكر الشهيرة، ومرشح آخر ذو وزن امام ضياء الدين داود رئيس الحزب الناصري في دمياط. بل وفي احدى دوائر الاسكندرية حيث يرشح التجمع شيخ طريقة صوفية وعضو المجلس الاسلامي الاعلى هو الشيخ زين السماك فئات، رشح الوفد شخصية مسيحية امامه حيث توجد نسبة من الاصوات القبطية، الامر الذي دفع البعض الى استنتاج ان الوفد يبدو وكأنه يفضل جبهة على أخرى. ففي كثير من الاحيان يجمع بين الوفد والاخوان خصومة كل منهما مع ثورة يوليو التي يرفع الناصري والتجمع، بل والوطني، شعارات لها، كل حسب طريقته. ولكن عندما تُطرح قضية تطبيق الشريعة، يجد الوفد نفسه اقرب الى الاحزاب الاخرى ضد الاخوان. أما على جبهة تيار الاسلام السياسي العمل والاخوان فعلى رغم انكماش خطوط التحالف واختلافها بينهما عن انتخابات 1987 تمكنا من تبادل اخلاء المقاعد في معظم دوائر مرشحيهما في اطار التنسيق. ومع ذلك بقيت ثلاث دوائر مفتوحة للتنافس، ابرزها دائرة المحلة في محافظة الغربية التي ترددت اخبار عن تعاون مرشح الاخوان فيها مع مرشحين آخرين ضد ناجي الشهابي مرشح العمل وعضو قيادته. ولوحظ في الدوائر التي تضم مرشحين منهما معا بالتنسيق، انه لا توجد لهما لافتات موحدة. بل ولوحظ في بعضها تركيز العمل على طرح شعار "الاسلام هو الحل" اكثر من الاخوان. والملاحظ ان بوادر الاشتباك وتصاعد حرارة "الحرب الباردة"، بدأت مبكرة هذه المرة بمجرد انتهاء موعد التقدم للترشيح، قبل نحو اسابيع ثلاثة من موعد الاقتراع. وردت جريدة حزب التجمع "الاهالي" على شعار "مهما تلف ومهما تدور القرآن اجدع دستور" الذي رفعه مرشح قيادة الاخوان سيف الاسلام حسن البنا فوق مقره الانتخابي. بعنوان على صفحتها الاولى "الابتذال في الدعاية المتأسلمة". وردا على ما وصفتهم جريدة العمل "الشعب" في صفحتها الاخيرة "بالكفرة"، شددت "الاهالي" على دور مشجعي الارهاب والمحرضين على القتل من جهة، وتساءلت عن مصادر "التمويل الباهظ" لحملة الأمين العام لحزب العمل الانتخابية في مدينة نصر. ومن جهتها بدأت قيادات حزب العمل تضمّن خطابها مفردات من نوع "المعارضة المستأنسة" وأيا كان امر الردود المتوقعة، فإن الطلقات الأولى في اشتباك أحزاب المعارضة انطلقت بالفعل ومن المتوقع أن تلتهب في الأيام المقبلة. مصادر الاشتباك تتنوع مصادر التهاب الاشتباك بين احزاب المعارضة. ويمكن رصد ابرزها في النقاط الآتية: 1- على رغم اعتراضات احزاب المعارضة على قواعد اللعبة الديموقراطية وتجربة التعددية الحزبية، كما وضعها الحزب الحاكم من جهة، وجهود المعارضة المتكررة التي لم تنجح حتى الآن في تغيير هذه القواعد من جهة ثانية، ولأسباب تتعلق بآليات العملية الانتخابية وثوابتها التي تسفر دائما عن غالبية كاسحة للحزب الحاكم أيا كان اسمه من جهة ثالثة، كل ذلك وضع احزاب المعارضة في حالة توحي بقبولها الضمني بقليل من الدور المؤثر في صنع القرار من خلال مجلس الشعب، الأمر الذي يعني، بلغة الأرقام، التصارع على سبعين الى تسعين مقعداً من مقاعد المجلس التي تبلغ 444 مقعدا. ومن تحصيل الحاصل ان يلتهب الصراع بينها ويأخذ اشكالا ساخنة حادة، في هذه المساحة النيابية المحشورة، في ما يعني في النهاية ان المنافسة الحقيقية بين احزاب المعارضة تدور على تحديد من منها سيتزعم المعارضة النيابية في مجلس الشعب. 2- لا يدور التنافس في الدرجة الأولى بين المعارضة على افضلية برامج وسياسات كل حزب منها او الحلول البديلة التي يطرحها، فالسياسة هي لعبة الاحزاب في ما بينها، اما المصالح والخدمات فهي لعبة الناخبين مع الاحزاب. وعليه يتصل تنافسها بمدى الوجود والعلاقة بالعصبيات العائلية والخدمات التي يتميز حزب او مرشح بتقديمها لناخبي الدائرة عن حزب او مرشح آخر، في ما يشكل انحسارا للطابع السياسي في التنافس الانتخابي، وتغليبا للمهارات والمبادرات الشخصية خصوصاً في ظل النظام الفردي للانتخابات. 3- على رغم تناقضات احزاب المعارضة مع حكومة الحزب الوطني، الا ان حرص الاخيرة على الخطوط المفتوحة مع المعارضة - بنسب متباينة - جعل احزاب المعارضة تعوّل عليها اكثر من تعويلها على الخطوط المفتوحة بين بعضها البعض، الامر الذي يدفع إلى عدم تراكم تراث من التقاليد والفعالية الحزبية. فما الذي ستكون عليه اشتباكات احزاب المعارضة في الايام والساعات الأخيرة التي غالبا ما تحمل معها كثيرا من المفاجآت.