هل ذهب بطل أحمد ابراهيم الفقيه إلى الغرب "للأخذ بثأره من المؤسسة الكولونيالية"؟ أم هو مجرّد مسكين، منشغل بنفسه عن الدنيا، وجد في الأرض الاجنبية مجالاً لتحقيق حريّته الصعبة؟ سؤال بين أسئلة أخرى يثيرها الكاتب الليبي الذي صدرت أخيراً الترجمة الانكليزية لروايته "حدائق الليل" عن دار "كوارتيت" البريطانية. في هذا اللقاء تسلّط "الوسط" الضوء على تجربة متميّزة، يؤمن صاحبها "بالمسؤولية الاخلاقية للكاتب لا بالدور الكبير للنص الأدبي". أحمد ابراهيم الفقيه صرف عمره الذي تجاوز نصف قرن، في دراسة الأدب وصناعته. بدأ وهو لم يبلغ العشرين بتعلم المسرح والموسيقى في مصر، ثم جاء إلى أدنبره لتحضير رسالة الدكتوراه في الأدب العربي، اتّخذت من القصة الليبية المعاصرة موضوعاً لها. بعد عودته إلى الوطن شغل منصب عميد "المعهد الوطني للمسرح والموسيقى"، كما عمل رئيس تحرير دوريات منها مجلة "الثقافة العربية" الصادرة في بيروت... بدأ يلهو بقلمه المترع بذكاء و"شهوة" تجريبية منذ سنوات المراهقة. نشر الفقيه، حائز أرفع الأوسمة الأدبية في بلاده وجائزة الابداع التي منحها اتحاد الكتاب اللبناني، عدداً من أعماله في الصحافة العربية، وأصدر مجموعات قصصية وروايات عدة، آخرها ثلاثية "حدائق الليل" التي ترجمت إلى الانكليزية أخيراً. تدور أحداث الرواية الأولى "سأمنحك مدينة أخرى" في أدنبره حيث يحضر البطل أطروحة دكتوراه عن "ألف ليلة وليلة"، قبل أن يعود إلى ليبيا في الرواية الثانية "هذه حدود مملكتي". وفي الجزء الثالث "نفق تضيئه امرأة" لا يبرح البطل لجة السحر والفانتازيا التي يغرق فيها. إلتقينا الأديب الليبي أثناء زيارة قام بها أخيراً إلى العاصمة البريطانية، حيث أثار صدور الترجمة الانكليزية ل "حدائق الليل" عن دار "كوارتيت" البريطانية ردود فعل متباينة. فالترجمة كما لاحظ بعض أهل الاختصاص، لم تأتِ عند مستوى النص الأصلي لرواية قوامها النضج الفني. البنية السردية ل "حدائق الليل"، نسجت خيوطها المتداخلة يد جمعت بين المراس والعفوية، فبدت الشخوص كائنات تتحرك بمعزل عن ارادة الكاتب، ذلك "السيد" المستبد. هذه العفوية التي تتجلى أيضاً في المشهدية الروائية، وفي اللغة "السحرية" بمناخاتها الفانتازية، بدت في الترجمة الانكليزية "مشلولة" فقدت نسغها الحقيقي. كيف رضي أحمد ابراهيم الفقيه الذي يتقن الانكليزية ولا يكف عن نثر عباراتها عند كل منعطف وزاوية أثناء الحوار؟ ما أن تطرح الموضوع، يوافق الكاتب من دون تردّد على أن "الترجمة لم تعطِ انطباعاً جيداً، بخلاف الرواية التي حظيت باستقبال ايجابي". لكن يبدو أن الأديب سلّم أمره إلى الله واقتنع أنه لم يكن بالامكان أحسن مما كان، فما يطلبه من الترجمة لا يسهل بلوغه على مترجم أجنبي لا يعرف لغة الضاد معرفة ابنائها، ويعجز عن الرسم بالكلمات في لغته الأم. اذ أن الفقيه كان يتمنى "أن تصل الترجمة إلى شعرية الرواية، فهذه تحس أنها مفقودة في النسخة الانكليزية. لكن التقاط ذلك يحتاج إلى مهارات خاصة وكفاءات عالية جداً قد لا تتوافر الا في شاعر ينكب على نقل النص الأصلي بتصرف، ويتعامل معه بحرية فلا يتردد بالاضافة هنا والتغيير هناك إذا لزم الأمر". أعلن ولائي وهويّتي وحيث "أخفق" المترجم الانكليزي نجح الفقيه. ففيما لم تسعف الأول ادواته الفنية لابتكار نص مترجم تتوافر له مواصفات عمل ابداعي "مستقلّ" بمغامرته ودلالاته وفضائه الداخلي، استطاع الأديب أن ينجز "ترجمة" ابداعية لنصوص سردية سابقة. غرف الفقيه بعض مادة روايته من "ألف ليلة وليلة"، وأعاد انتاجها انتاجاً جديداً. نلفت نظر الكاتب إلى هذه النقطة، فيتردّد قليلاً، يستوضح ما المقصود هنا بعبارة "ترجمة"، يتثبّت من أننا عنينا المبدع الخلاق وليس "المؤوّل والمفسر"، ثمّ يجيب: "طبعاً أخذت من "ألف ليلة وليلة" بعض مناخاتها، وروحها... أخذت منها الجرعة القادرة على أداء الوظيفة التي أردتها لها... وهذه عملية تتطلب الدقة البالغة، فزيادة الجرعة كنقصانها قد تؤذي المشروع". وهذه "الدقة البالغة" التي يتوقّف عندها أحمد ابراهيم الفقيه، تحكم طريقة تعامله مع النص التراثي. فهو عملياً يلتمس مساعدة الكتابات القديمة، ولا يخوض معها صراعاً أو منافسة تندلع جولاتها الحامية أحياناً بين المقتبس والنص الأصلي. فالكاتب لا يطمح "على الاطلاق" إلى تخطّي النص التراثي. "هذا ليس وارداً في ذهني - يقول - أعلن عن ولائي... وهويتي - قالها بالانكليزية - حين اتكأ على نص قديم، ولا أرى مانعاً من الافادة الفنية من أجواء ومناخات الأساطير القديمة في اطار هذه المرجعية الحضارية. ولماذا لا نوظف النص القديم حين يكون جميلاً وراهناً؟ أرى أنني امتداد له باعتباري أنتمي إلى شجرة العائلة ذاتها الضاربة الجذور، وافادتي منه تعطي نتاجي نكهة ولوناً عربيين". و"شجرة العائلة" عربية بالضرورة، اذ يكاد أحمد ابراهيم الفقيه يكون "يتيماً" في وطنه. فهو إلى جانب ابراهيم الكوني، بين قلّة نجحت في الوصول إلى جمهور عربي واسع. والشهرة التي يتمتع بها حالياً جاءت بتعبيره "محصلة كفاح طويل": "بدأت اتصالي بالقارئ العربي منذ بداياتي الاولى. وعندما صدرت باكورتي "البحر ولا ماء فيه" في أواسط الستينات، كان هناك اهتمام عربي بهذه المجموعة. وأعيد نشر بعض نصوصها في مطبوعات شتى منها مجلة "المعرفة" السورية التي اقتطفت قصة "الجارات" وقدمت لها تقدمة لطيفة جاء فيها "هذا نص من ليبيا التي لا نعرف كثيراً عن أدبها"... كنت محظوظاً إذاً باثارة اهتمام القراء والنقاد العرب في وقت مبكر. كما اشتغلت في مؤسسات مثل "المجلس القومي للثقافة العربية" وكنت رئيس تحرير مجلة "الثقافة العربية" الصادرة من بيروت في منتصف السبعينات، ما أسهم في توثيق علاقتي بالقارئ العربي بفضل اطلالتي المستمرة عليه". وهذه "الريادة" الليبية تجعل دور أحمد ابراهيم الفقيه "مزدوجاً"، تكمن صعوبته في محاولة التوفيق بين المحلي والعربي. إذ كيف يتوجه أديب ليبي في موقعه، إلى قارئه العربي بكتابات خلع عنها نكهة بيئتها الاولى؟ بيد أن أحمد ابراهيم الفقيه لا يرى تناقضاً في مهمته هذه، ويحسب أن طرفي المعادلة يكملان بعضهما بعضاً، إذ يمكن توليف المحلي الليبي بالعربي على نحو مثمر فنياً. لا بل "أعتقد ان التواصل مع القارئ العربي والانشغال باهتماماته انتشل اعمالي من الاستغراق في الهم المحلي. والنكهة العربية تكاد تكون غالبة على معظم كتاباتي التي تحاول تجنب القضايا العاجلة والمغرقة في محليتها، فيما لا تتجاهل العنصر المحلي الأصيل". وتجدر الاشارة إلى كون الأديب التزم هذه الثنائية حتى في مقالاته الصحافية، حيث يسعى إلى تسليط الضوء على هم عربي مشترك، يتصل على نحو كبير بالقطر الذي ينتمي اليه. والثنائية ذاتها لازمت كتابات الفقيه منذ صباه، من خلال قصص قصيرة انتظمتها ثيمات لا تزال تلح على أعماله الروائية. وعدا المناخ التصويري والنفسي، يجد القارئ في أغلب كتابات الأديب الليبي موضوعة الصراع بين الجديد والقديم. "إنّه صراع متأصّل في نفوسنا، نحن القرويين الذين عشنا في مجتمعات تقليدية، ثم انتقلنا إلى مجتمعات عصرية وقرأنا... واطلعنا. من الأسئلة التي شغلتني دوماً: ماذا يحصل بين هذه الجبلة التي جُبل عليها "الريفي" بحكم الموروث والطبيعة والتكوين القديم، والمكتسبات الانسانية والثقافية التي جاء بها التحصيل العلمي؟ نحن نعيش في عصر تغير سريع، وأنا - كجيلي كله - كنت شاهداً على تغييرات سريعة: من الجمل إلى الطائرة، ومن القنديل إلى المصباح الكهربائي ... هذه التحولات الخطيرة غيرت كثيراً من المفاهيم، بما فيها مفهوم الزمن نفسه، فكان لا بد أن تطغى على وعينا...". وليس الصراع بين القديم والحديث، الثيمة الوحيدة التي يتجلى فيها التداخل بين المحلي والعربي في أدب أحمد ابراهيم الفقيه. فنصّه حافل بتجليات شوق حميم إلى الماء والمرأة اللذين يشيع الحنين إليهما في الأرض العربية كلها. والفقيه رضع هذا الحب المزدوج في المهد. فهو من "قرية في جنوبطرابلس قريبة من الصحراء، ومحكومة بقيود المجتمعات التقليدية التي تمنع الاختلاط بين الرجال والنساء، وتعيش على الزراعة البعلية فتمضي عمرها بانتظار المطر وبشارته. لذا تجد في رواياتي احتفائية بالماء وتوق مقيم إلى الحصول على قطراته، واحتفاء لا ينتهي بالمرأة التي تمثل في أعمالي قوة ايجابية معادلة للبهجة، وللارتواء الانساني والحضاري". إذا كان الأدب في نظر الفقيه "رسالة خطيرة هي التعبير عن الوجدان المشترك أو المساهمة في صياغته"، فهل ينتظر الأديب الليبي من نصه أن يؤدي مهمات أخرى؟ وهل يمكن لهذا النص أساساً أن يثمر عن شيء؟ "لست من أصحاب الآمال الكبيرة - يجيب - ولا أوهام لدي بأن أغير في العقلية العربية، أو أقلب المعادلات بقصيدة أو قصة أو مسرحية. لكنّني آمل الوصول إلى قارئي، والمساهمة في اعطائه متعة انسانية عميقة. وإذا كان بوسع أدبي أن يساعد على تنويره فهذا يسعدني على رغم أنني لا أتعمد البحث عنه. وأنا أؤمن بالمسؤولية الاخلاقية للكاتب ... لكني لا أؤمن بالدور الكبير للنص الفني. جلّ مبتغاه ادخال شيء من الرضا والمتعة على الانسان، وهذه رسالة مهمة. وآمل أن يكون في أدبي العنصر الانساني القادر على مخاطبة انسان اليوم وانسان المستقبل، اذ أتوجه في كتاباتي إلى الرابطة المشتركة بين البشر التي تتجاوز القضايا السريعة الطارئة. والتاريخ يعلمنا أن ما يبقى من الاعمال الأدبية هو جانبها الانساني ...". صندوق للثقافة؟ ولعلّ هذه النظرة إلى وظيفة الأدب تجعل الترجمة ضرورة ملحّة، ومحطّة لا بدّ منها، بالنسبة إلى أحمد ابراهيم الفقيه. فهو يرى أن "قضية الكتابة في جوهرها هي عملية تواصل مع الناس والحياة، وكلما اتسعت دائرة الجمهور كلما حققت عملية التواصل هذه نجاحاً أكبر. وخروج العمل الأدبي عن نطاقه الضيق إلى القراء في العالم، لا مفرّ من أن يدفع مؤلفه إلى الفرح والرضا". فالخروج إلى العالم يجعل من هذا النص وجهاً حضارياً وابداعياً للوطن الليبي الذي قد يتخيله الاجنبي أرضاً عاقراً لا تنتج الأدب والفن. وهذه من مهمّات الأدب في رأي الفقيه الذي يتساءل "ما ضر لو أقام العرب صندوقاً مالياً صغيراً للثقافة؟ ما ضر لو صرفنا جزءاً زهيداً من دخلنا على مشروع لتقديم أنفسنا ثقافياً إلى الغرب، التصدّي لصورتنا المشوهة في أفلام الغرب ووسائل إعلامه؟ أعتقد أننا في أمسّ الحاجة إلى خطة كبيرة لتقديم ابداعاتنا. ولا يكفي أن تترجم الأعمال، بل لا بد من آلة اعلامية للترويج لها إذا أردنا ايصالها فعلاً إلى الجمهور الغربي ... جائزة نوبل التي نالها نجيب محفوظ كانت اعترافاً مرموقاً بالأدب العربي. لكن لماذا لم يتصدّر أي من أعماله المترجمة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً؟". هذا الطموح لاسماع القارئ الاجنبي صوت الثقافة العربية، يلقي ضوءاً جديداً على رواية "حدائق الليل". كما يوضح بعض ايماءاتها التي قد يحسبها القارئ اشارات إلى "الهوة" الفسيحة بين الشرق والغرب، مثل قول بطلها الدكتور خليل الايمان للغربيين: "ما تسمونه حرية جنسية وتعتبرونه اكتشافاً غربياً هو شيء اكتشفته مجتمعاتنا الشرقية في مطلع القرون الوسطى". وإذا تأمّلنا مليّاً في رواية أحمد ابراهيم الفقيه، سنكتشف أن ما تنطوي عليه من الجنس والعنف غايته الاتصال بالعالم الغربي، لا الانفصال عنه. داخل الغرب وخارجه يهز الأديب رأسه بالموافقة، حين نطرح عليه الملاحظة: "الرواية ليست قائمة على ثنائية الغرب والشرق وتناقضهما ... بل هي تقوم على مبدأ الحوار وامكانية التواصل. مع العلم أن قضية الغرب ليست أساسية بالنسبة إلى البطل الذي جاء عرضاً إلى هذه البلاد. لكنّ وجوده في البلد الاجنبي يمنحنا فرصة لأن نراه، ويرى نفسه أيضاً، في ضوء جديد... حين تعيش في مجتمع أجنبي تضع نفسك، ويضعك المجتمع، تحت مجهر المساءلة. لذا كانت النقلة جزءاً من عملية معرفة الذات. وهذا سر ذهابي بالبطل إلى الغرب". والفقيه يعتبر نصه ملك القارئ: "إذا اعتقد هذا الأخير أنه وقف في روايتي على اشارات إلى صراع الغرب والشرق، فلن اعتبره مخطئا. سأفترض ان هذه الاشارات جاءت عرضاً، وأدعوه إلى مناقشتها. ثم أتمنى له حظاً سعيداً مع الرواية". بيد أن القارئ المتمعن سيلاحظ أن بطل الرواية لم يذهب إلى الغرب "للأخذ بثأره من المؤسسة الكولونيالية". كان "مسكيناً" منشغلاً بنفسه عن الدنيا، "ووجد في الأرض الاجنبية ظرفاً أتاح له فرصة التعرف على نساء والتحرر من كبته الغريزي. البطل ذهب إلى أوروبا وهو يحمل معه أزمته. وأنا شغوف برسم صورة العربي في الخارج، حيث يكون، غالباً، هامشياً أو مراقباً غير مندمج في المجتمع المضيف... لم يمنحه هذا المجتمع حق الانتماء، ولا هو حاول أن يصبح جزءاً من العالم الغريب. يتمتع هذا "الهامشي" إذاً بشيء من الحركية، فهو داخل المجتمع المضيف وخارجه في آن. أنا مبهور بتجربة الانسان في الخارج بعيداً عن سيطرة مجتمعه وقيمه التقليدية. وغالباً ما أطارد هذه الشخصيات واقتنصها في لحظات الضعف، حين تسقط الأقنعة وتواجه الشخصية نفسها بصدق في مناخ يفيض بالسخرية والتناقض...". هكذا يحاول الفقيه أن يرسم حدود عالمه الروائي في منطقة مليئة بالألغام، من صراع الشرق والغرب والاكزوتيكية التي يسعى إلى اتقائها، كما يفعل مع موضوع المنفى والنزوح عن الأرض الأولى... فهو لا يطمع إلى احتكار العلاقة مع الآخر في جوانبها الاشكالية، كل ما يريده من النصّ أن يقبض على جوهر تجربة الانسان اللامنتمي بمحض ارادته!