تحتفل أميركا في هذا الشهر بمرور مئة وعشرة أعوام على اقامة تمثال الحرية في الولاياتالمتحدة الذي صنعته فرنسا وأهدته الى الأميركيين في مناسبة عيد استقلالهم. التحقيق الآتي يسلط الضوء في هذه المناسبة على هذا التمثال الذي صنعت له باريس توأماً ركَّزته على أحد جسورها. في عهد الامبراطورية الفرنسية الثانية، دعا المؤرخ الفرنسي ادوار دولابولاي، الاستاذ في الكوليج دي فرانس والاختصاصي في تاريخ أميركا، الى اكتتاب وطني يذهب ريعه الى تقديم هدية ملموسة الى مواطني الولاياتالمتحدة الأميركية في مناسبة العيد المئوي الأول لاستقلال بلادهم، الواقع في 4 تموز يوليو 1876. وقد احتاج دولابولاي الى خمسة عشر عاماً كي يجمع المال اللازم لصنع تمثال نحاسي يبلغ طوله 46 متراً ووزنه 100 طن. وكلف الفنان الألزاسي الكبير اوغوست بارتولدي 1834 - 1904 صنع تمثال الحرية الأميركي الذي يقف اليوم شامخاً على مدخل مدينة نيويورك. وقد اعتمد الفنان نموذجين عزيزين عليه في حياته، هما أمه وحبيبته ليصنع على غرارهما تمثاله. اختار وجه أمه ليكون وجه التمثال، وجسم حبيبته ليكون جسمه. وكان بارتولدي يعرف ان تمثال الحرية الأميركي هو تحدٍ جديد له في صنع المنحوتات الضخمة. ويرتبط اسم بارتولدي بالفناء الذي صممه سنة 1856 لمدخل قناة السويس. وما فعله بارتولدي بالنسبة الى تمثال الحرية، هو قيامه بصنع يد التمثال التي تحمل المشعل في السنة الأولى من تكليفه. وفور انتهائه من عمله الأولي هذا، نقلت اليد الى فيلاديلفيا وعرضت هناك أمام الناس. ومن يومها راح الأميركيون يعيشون أجواء فرح وحماسة وحلم باكتمال التمثال. وانتظروا بفارغ الصبر وصوله اليهم. رأس التمثال رأس أمه في السنة التالية لهذا الحدث انتقل اوغوست بارتولدي من مدينة كولمار الألزاسية، حيث لا يزال منزله قائماً فيها حتى اليوم، الى محترف صديق له يقيم في شارع غوتنبرغ في منطقة بولونيه بيانكور في ضواحي باريس. وباشر فور انتقاله نحت رأس التمثال الذي قدم في معرض عالمي أقيم في باريس سنة 1878. وفي أيام العرض، أدهشت تقاطيع وجه التمثال الزائرين لرصانتها ودقتها من دون أن يعرفوا ان صاحبة وجه التمثال هي أم النحات بالذات. هكذا حقق بارتولدي التمثال قطعة بعد قطعة، وبعدما اتخذ العمل الفني شكل نموذج حبيبة النحات، غادر هذا محترف صديقه وسكن في شارع شازيل في باريس، وهناك التحق به غوستاف ايفل الذي صمم برج ايفل الشهير، ليضع الحديد المشبك للتمثال. وتم صنع التمثال الضخم الذي لم تقع العين على مثله منذ عصر المصريين القدماء. أما ثياب التمثال فقد صنعها بارتولدي من أوراق ذهبية متداخلة بعضها في بعض بحيث يمكن نزعها بسهولة وتنظيفها واعادتها الى مكانها من جديد. في العام 1879، أي بعد ثلاث سنوات من انتهاء يد التمثال، قام بارتولدي بعرضه كاملاً وسط شارع شازيل. وبقي التمثال فيه حتى العام 1884. وفي 4 تموز يوليو من ذلك العام، أعيد تقطيع التمثال الى اجزاء صغيرة تم وضعها في مئتين وعشرة صناديق نُقلت في قطار خاص الى مدينة روان ثم الى الايزير. في 19 حزيران يونيو 1885، رحل تمثال الحرية الأميركي على ظهر باخرة الى مدينة نيويورك. حيث استقبلها في مرفأ المدينة جمهور غفير راح في ذورة حماسته يلوَّح لها ويصفق. في اثناء صنع التمثال في فرنسا، كانت اللجنة الفرنسية - الأميركية المشرفة عليه تهتم ببناء القاعدة الضخمة التي سيوضع عليها. غير ان الصعوبات المالية كانت تعترضها. وتوصل الفرنسيون هناك الى حل باصدار ثلاثمئة ألف ورقة يانصيب لصالح بناء قاعدة التمثال وجمع أجزائه نهائياً وتركيبه. وهكذا استطاع جوزيف بوليتزر مدير صحيفة "ذي وورلد" ان يجمع مبلغ مئة ألف دولار لهذا الغرض. وقام المهندس ريتشارد هنت بتنفيذ بناء القاعدة التي بلغ ارتفاعها خمسين متراً. ودشن تمثال الحرية في 28 تشرين الأول اكتوبر 1886. ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم راح ملايين الزوار يتسلقون الدرجات المئة وسبع وستين المؤدية الى قدم التمثال، ويتسلقون مئة وإحدى وسبعين درجة المؤدية الى الشعلة في يده. وصار تقليدياً في الآونة الأخيرة ان يعمد المسؤولون عن صيانة التمثال الى تغيير بطاريات المصاعد الكهربائية الموضوعة تحت تصرف الذين لا يستطيعون تسلق الدرج الطويل، وذلك في كل ذكرى لعيد الاستقلال الأميركي، نظراً لكثافة الجمهور الذي يزور التمثال في هذه المناسبة. تمثال حرية لباريس حين عاد المؤرخ ادوار دولابولاي من أميركا اثر حفلة التدشين، فكر فوراً في صنع تمثال حرية مماثل لمدينة باريس. وكلف محترفين مهرة بصنع تمثال من البرونز لكن بطول تسعة أمتار فقط. ونصب هذا التمثال على جسر جزيرة الأوز على نهر السين بحيث يتمكن المتنزهون في المراكب السياحية من مشاهدته. وكذلك الأمر بالنسبة الى المارة في المنطقتين الخامسة عشرة والسادسة عشرة في باريس حيث يفصل نهر السين بينهما، وللعابرين اليوميين بالسيارات على الطريقين الطويلين المحاذيين له. واسم الجسر الذي رُكَّز فوقه التمثال، هو "البوغرونيل". كان تمثال الحرية الفرنسي عُرض في ساحة الولاياتالمتحدة الأميركية في باريس طوال أربع سنوات قبل ان ينصب على الجسر المذكور. كذلك شاهد الباريسيون في تلك الفترة تمثالين آخرين للماركيز لافاييت يشد بيده يد جورج واشنطن. والمعروف ان الماركيز لافاييت كان ذهب على رأس جيش فرنسي الى الولاياتالمتحدة الأميركية ليساهم في معركة تحريرها والتبشير بحقوق الانسان وحريته. وفي أثناء الحرب العالمية الثانية أصيب التمثال البرونزي بشظية قنبلة شوهته لأنها ضربت كتفه وعنقه. وبقي التمثال العتيد مشوهاً وآثار الزمن بادية عليه حتى سنة 1986، حيث تقرر ترميمه اسوة بما كان يُستعد له في ذلك الحين، في الولاياتالمتحدة الأميركية، للاحتفال بمرور مئة عام على نصب تمثال الحرية ومرور مئتي عام على الاستقلال الأميركي. إذا كان ترميم تمثال الحرية الأميركي استغرق خمس سنوات، فإن تمثال الحرية الفرنسي احتاج فقط الى ثمانية أشهر لاعادة حلته الجديدة اليه. وقد دشن تجديد التمثالين الأميركي والفرنسي سنة 1986 في آن واحد. في فرنسا تم التدشين بحضور رئىس الوزراء الفرنسي جاك شيراك يومها، والسفير الأميركي في باريس م. رودجرز. اما في الولاياتالمتحدة الأميركية فقد جرى الاحتفال في المناسبة على أعلى المستويات، أي بحضور الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران الى جانب الرئيس الأميركي رونالد ريغان، حينذاك. واصلاح تمثال الحرية الأميركي تم بتعاون فرنسي على كل صعيد. بدأ ذلك سنة 1981. ووقع الاختيار على حرفيين فرنسيين للقيام بهذه المهمة. ففي مصانع شامبنوا للتعدين في مدينة ريمس الفرنسية، قام الحرفيون باعادة تصنيع الشعلة الضخمة. وقام كل من فابريس وروبرت جوهارد الاختصاصيين في فن التذهيب، بصناعة خمس آلاف ورقة ذهبية مضروبة بشكل دقيق وذلك من أجل اعادة البريق الى الشعلة التي يحملها التمثال بعد مرور قرن كامل عليها. تمثال حرية من الشوكولاته خلال فترة التدشين الجديد، أي سنة 1986، قدم التلفزيون الأميركي الى مشاهديه الذين يبلغ عددهم ستين مليون شخص، فيلماً عن تمثال الحرية استمر عرضه ثلاث ساعات. وفي ذلك الفيلم، أسند دور امرأة بارتولدي الى الممثلة الفرنسية المعروفة كوريت توزيه. وحسب الاحصاءات، كان واحد من كل عشرين أميركياً فقط يعرف ان تمثال الحرية الرائع هو نموذج مكبر لسيدتين فرنسيتين. وفي مدينة لوس انجليس تصل نسبة المعرفة تلك الى 7 بالألف. وفي حال معرفتهم بالأمر فالجواب يكون ان ايفل هو الذي صنع التمثال كما صنع البرج الباريسي الشهير الملتصق باسمه. لذا لم يكن غريباً ان يتجند الاعلام الفرنسي ككل من أجل فتح ملف تمثال الحرية الأميركي من جديد سنة 1986، وأن يبارك اختيار فترة التدشين الجديد يوم 4 تموز يوليو من تلك السنة، وهو عيد الاستقلال الأميركي الذي ساهم به الفرنسيون، والذي يقع قبل عشرة أيام من ذكرى 14 تموز يوليو الفرنسية، أكبر عيد وطني في فرنسا. في حين ان ذكرى نصب التمثال تصادف يوم 28 تشرين الأول اكتوبر من كل عام، وفي تلك السنة بالذات، قام النحات الفرنسي اصلان بصنع اعداد كبيرة من نموذج تمثال الحرية ووزع ألفين من نماذجه هذه على مراكز البلدية في فرنسا. أكثر من ذلك عمد مصنع فالرهونا للشوكولاته الى صنع تمثال الحرية من الشوكولاته وفق قالب بارتولدي الأصلي. وتطلب التمثال ألفين وخمسمئة كيلوغرام من الشوكولاته. وبلغ طوله أربعة أمتار ونصف. وقد تم نقل التمثال مقطعاً بواسطة رجال الاطفائية الى مطار رواسي في باريس، حيث نقلته طائرة من شركة الخطوط الجوية الفرنسية الى نيويورك. وهناك عرض في فندق ميريديان قبل ان يعاد تقسيمه اجزاء ويباع في المزاد العلني. وكانت شكولاته التمثال من النوع المر والقاسي الذي يقاوم الحرارة. ويذكر ايضاً ان أربعة آلاف شخص فقط كان لهم حظ حضور حفلة الذكرى المئوية لاقامة تمثال الحرية الأميركي ليلة 3 تموز يوليو 1986، حين قام كل من رونالد ريغان وفرنسوا ميتران باشعال مشعل الحرية في يد التمثال من على ظهر حاملة الطائرات جون كنيدي. ودفع كل من الحضور خمسة آلاف دولار ثمن تذكرة حضور حفلة السهرة التاريخية. اما خارج اطار السهرة الرسمية، فقيل انه تم تأجير الزاوية الواحدة من زوايا نوافذ البنايات الشاهقة المطلة على تمثال الحرية بحوالى عشرة آلاف دولار. الحرية والهجرة لماذا اختير مرفأ نيويورك لاقامة نصب تمثال الحرية فيه؟ لأن هذا المرفأ كان يرمز الى الحرية بالنسبة الى ملايين المهاجرين. كان بمثابة الأرض الموعودة لقلوب مليئة بالآمال، وعبقة بالطموح. كان مفتاح الأرض الجديدة التي فتحت ذراعيها لجميع الناس، على اختلاف مشاربهم، خلال عشرات السنين. كانوا نساء ورجالاً وأطفالاً، يعتمرون القبعات المهترئة ويشدون على ظهورهم الحقائب البالية او علب الكرتون المربوطة بخيطان سميكة. وكان هؤلاء يقفون صفاً طويلاً أمام مكتب الهجرة في ايليس ايسلند وينتظرون. لم تكن هذه البقعة من الأرض تشكل إلا جزءاً صغيراً جداً من أميركا، إلا انها كانت المعبر الى الحرية. وفوقها أقيم نصب تمثال الحرية. بعد مرور مئة وعشرة أعوام على اقامته، لا تزال الأكثرية تجهل ان الفرنسيين صنعوا التمثال وأهدوه الى أميركا وأن الفنان الذي أبدعه استلهم وجه أمه وجسم حبيبته.